بعد تعيينيه رئيسا للجنة التحقيق في أفغانستان، توجه شريف بسيوني إلى جنيف. وهناك حاول التعرف على تفاصيل مهمته. قيل له «إنها مهمة واسعة»، لكن من المهم البحث عن أية انتهاكات لحقوق الإنسان في أفغانستان. كان قرار الذهاب قد سبق تعيينه رئيسا للجنة بأكثر من عام. حينذاك، اعترضت الولايات المتحدة على تعيين أي شخص للذهاب إلى أفغانستان. كانت تخشى من أن تكشف لجنة التحقيق أو من يكلف بالذهاب إلى هناك، ما ارتكبته القوات الأميركية من انتهاكات، سواء ما جرى منها داخل المعتقلات والسجون، أو خلال عمليات استجواب المعتقلين، أو أثناء عمليات التعذيب، أو حتى ما كان نتيجة اللجوء إلى ممارسات معينة خلال الحرب، مثل تدمير بعض المناطق المدنية وقتل مدنيين. وكان ذلك وراء تعطل تعيين بسيوني تلك المدة.
قرر الأمين العام للأمم المتحدة تعيين بسيوني بغض النظر عن موافقة الأميركيين. اتجه بسيوني إلى جنيف من أجل المهمة، ووجد ما وجده في يوغوسلافيا السابقة، لا موارد مالية مخصصة له. وكما فعلوا في يوغوسلافيا حين عينوا اللجنة، فعلوا معه هذه المرة، لكن خبرته في تلك التجربة، دفعته إلى الاعتماد على نفسه في أفغانستان أيضا، في الحصول على موارد من خارج هيئة الأمم المتحدة وتحقيق أهدافه، على الرغم من وجود عراقيل بيروقراطية، كان لها انعكاسات سياسية. فالدول المعارضة لأي منهج، كانت تعمد إلى الإساءة لسمعة الشخص المسؤول. وهكذا «حاولوا الإساءة إلى سمعتي، على أساس أن التعامل معي صعب، وأنني رجل متعصب فكريا ولا أقبل الخضوع إلى أي قواعد»، هذا ما قاله بسيوني، الذي عدّ ذلك «هجوما شخصيا». تعلم الدرس، كما قال، وقرر الذهاب إلى أفغانستان، وطلب من الجمعية العامة أن توفر له ومن معه سبل الانتقال إلى هناك على الأقل. أجابوه بأنه لا توجد نفقات لشراء تذكرة الطائرة. قال: «حسنا، سأدفع ثمن التذكرة من مالي الشخصي وعندما يتوفر التمويل يمكن إعادته لي». ولم يجر تعويضه عما انفقه حتى اليوم.
في هذه الحلقة، «الثامنة»، يتابع بسيوني رواية تفاصيل مريعة عما كان يجري في تلك البلاد:
عندما توجهت إلى أفغانستان، اشترطوا أن يذهب معي بلجيكي كان يعاني من حالة نفسية صعبة آنذاك، وعمل معي فترة قصيرة، ثم أخذ إجازة مرضية وانسحب. لحسن حظي، أن معهد سيراكوزا كان يدرب قضاة في أفغانستان، بناء على اتفاقية بون لعام 2003 ، التي جرى فيها الاتفاق بين جميع الدول على إدارة أفغانستان في هذه الفترة المرحلية. كانت إيطاليا قد تعهدت بالعمل القضائي، وألمانيا تعهدت بتدريب الشرطة، وإنجلترا بمكافحة المخدرات، وأميركا تعهدت بالأمن القومي. وبعد توزيع هذه الأدوار، تعاقدت إيطاليا مع معهد سيراكوزا لتدريب هؤلاء القضاة، وكانت علاقتي مع رئيس المحكمة العليا، واسمه الشينواري علاقة طيبة جدا، واستطعت إقناعه منذ البداية، أن يعين 50 امرأة في القضاء الأفغاني، ولأول مرة في التاريخ عام 2004 عينت 50 امرأة،على مراحل، في القضاء الأفغاني الذي كان يضم وقتها، نحو 400 قاض كان معظمهم في القبائل، وكانوا قضاة مصالحة، أي كانوا يعملون بقوانين الأحكام العرفية، ومعظمهم لم تكن لهم أي خبرة قانونية حقيقية؛ ومن الـ400 قاض كانت هناك نسبة 11 في المائة من المتخرجين في كلية الحقوق.
عدد منهم كانوا أيضا من خريجي كليات دينية، وعددهم لا يزيد على 19 في المائة، يعني إجمالا كان هناك 30 في المائة لهم مقدرة معينة من العلم والباقون لم يكونوا كذلك، بل على العكس، فقد كان نحو 10 في المائة من القضاة لا يعرفون القراءة والكتابة.
ونتيجة العلاقة الطيبة بيني وبين الشينواري الذي كان متحكما بشكل كامل في مجال القضاء في أفغانستان، والذي كنت على إحاطة به لأني كنت دارسا للشريعة الإسلامية منذ كنت طالبا في كلية الحقوق بالقاهرة؛ حيث كان أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، وكان شهيرا جدا في الشريعة الإسلامية، خاصة الأمور الجنائية، وكنت ملازما له، فتعلمت منه كثيران، ثم سعيت لاكتساب العلم في هذا الموضوع. فكنت قادرا على الحديث مع الشيخ الشينواري وأعضاء المحكمة العليا، الذين كانوا كلهم تقريبا من خريجي كليات شريعة، والبعض منهم درسوا في الأزهر في مصر. وباعتبار أن المذهب السائد في أفغانستان هو المذهب الحنفي، وهو مذهب معروف في مصر وأنا أعرفه تماما، كنت قادرا على الحوار الديني والقانوني معهم، مما وفر اطمئنانا كاملا لي من جانب المحكمة العليا في برامج التدريب التي قمت بها.
وكان هناك نائب عام مستقل كانت علاقتي به طيبة، لكن نتيجة الظروف التي كانت سيئة جدا، لم تكن لدينا إمكانية التحدث عن هيئة قضائية. كان بعض القضاة متفهمين للعمل لكن عددهم كان قليلا. لم تكن هناك مبان قضائية، ولا مكاتب ولا معاونين يعملون في مكاتب القضاء. لم تكن هناك ملفات، وعندما تأتي قضية للاستئناف مثلا لم يكن من السهل معرفة مكان ملف القضية.
لم يكن العاملون متواجدين، وكان القضاة الذين يعملون خارج كابل، مهددين باستمرار، من جانب السياسيين الذين يستعملون العنف دائما، كما كان الأمر قبل التدخل الأميركي، حيث استمروا نحو 30 عاما، وفيما بعد، واجهوا تهديدات من قبل تجار المخدرات. كان هناك أيضا، التلاحم بين من يسمون «ذي وور لوردز» (أمراء الحرب)، و(أمراء المخدرات)، الذين عملوا معا لتعطيلعمل القضاء وعرقلته. وكانت المبالغ التي تأتي من تجارة المخدرات ضخمة جدا، فكان التقدير في العام الواحد بين 2003 و2004، ثلاثة مليارات من الدخل في حين أن القاضي في المحكمة العليا في هذا التاريخ كان يتقاضى 200 دولار في الشهر؛ فكان من السهل جدا أن يعرض على أي قاض في الميدان، سواء في الدرجة الأولى أو الاستئناف: إما أن تأخذ 10 آلاف دولار، أي ما يعادل راتبه في 10 سنوات، وإما أن تقتل أو يقتل شخص من أسرتك.
لاحظت خلال تنقلاتي الميدانية غياب المحاكم. استعنت بفريقي الخاص بالتدريب، حيث كان لمعهد سيراكوزا بيت لإقامة المعهد الدائم وسكنت فيه، واستخدمت الطاقم الدائم. كان لنا ثلاث سيارات وثلاثة سائقين استخدمتهم كذلك. واستفدت من العلاقات التي أقامها المعهد مع الشينواري ومع النائب العام ورئيس الجمهورية كرزاي، واستطعت من خلال هذا المدخل، القيام بزيارات داخل كابل وخارجها، وأن أعرف ما كان يحدث في مجال حقوق الإنسان.
بلا شك، كان النظام الاجتماعي في أفغانستان قائما على النظام القبلي. فأفغانستان بلد منقسم إلى ستة أجزاء وكل جزء مختلف عن الآخر؛ ففي المنطقة الملاصقة لإيران يتحدثون الفارسية تماما. والمنطقة المجاورة لباكستان يتحدثون البشتو، وعلاقتهم بباكستان علاقة قبلية موحدة، لأن الحدود بقيت سياسية وهمية وضعتها بريطانيا للتفريق بين القبائل، لكن القبائل لا تعترف بها، وأبناؤها يعتبرون أنفسهم كيانا واحدا، فينتقلون من مكان إلى آخر من باكستان إلى أفغانستان بكل حرية، ولهم ثقافتهم، وخير مثال على ذلك، أنه على الرغم من انهم ينظرون لأنفسهم باعتبارهم دولة إسلامية واحدة، بما في ذلك طالبان، إلا أن هناك اختلافا في تقييم الديّة (الفدية) فيما بين المناطق. أخذت أنا هذا المثل لمحاولة فهم تقسيم الدولة، فقلت لهم أنتم ناس طالبان وكلكم متوحدون في محاربة الأجانب، وتقولون إنكم مسلمون، إذن لماذا تختلفون في تطبيق الشريعة من منطقة إلى أخرى؟ هل الشريعة تختلف طبقا للاختلافات السياسية؟ كيف تختلفون؟ فكان الجواب صعبا.
البنية التحتية لكل البلاد تعود إلى ما بين 200 إلى 300 سنة إلى الوراء، لا أريد استعمال كلمة «تخلف» لأنها تنطوي على معنى سلبي، لكن الخطوة التي يحتاجونها للوصول إلى العالم (تو كاتش) 200 سنة، في العراق مثلا - عندما كنت أشارك في تدريب القضاة - كانت المسافة نحو 20 سنة فقط.
بين 2003 و2005 تقريبا خارج كابل، لم تكن توجد محاكم، وإذا وجدت فهي عبارة عن غرفة واحدة تتوسطها مائدة يجلس القاضي خلفها، والناس إما جالسون على الأرض وإما واقفون. أتذكر حوارا مع النائب العام قال فيه إن له في جميع أنحاء البلاد 11 مكتبا، وكل مكتب يتكون من غرفة واحدة، خارج كابل طبعا. معظم المحاكمات كانت حسب قانون القبائل وحسب اجتهاداتهم. المحاكمات الرسمية كانت قليلة وكانت المحاكمة وفق الشريعة وهم أميون. الحكومة الإيطالية في يوم ما، قررت أن تعطي معونة لأفغانستان لبناء سجن للنساء، فبنت السجن في كابل بطاقة استيعاب 40 سجينة، وعندما زرته وجدت فيه أكثر من 40 امرأة وأكثر من 200 طفل. سألت: من أين جاء الأطفال؟ قالوا: النساء اللواتي يحكم عليهن بالسجن يتبرأ أزواجهن منهن ومن أبنائهن، فتأتي المرأة بأطفالها، فنجد السجينة تنام مع أبنائها في سرير واحد وببطانية واحدة. في أفغانستان البرد شديد ولا نظام تدفئة في السجون، وحتى النوافذ من حديد، وبالتالي وجدت أن المساعدات تأتي فقط للسيدات في السجن، لكنهن يقتسمنها مع أطفالهن، والمعونة اليومية 60 سنتا في اليوم، وحتى السجانة لا يأتيها أكل من الحكومة فتتقاسم أيضا أكل السجينات.
وأتذكر سيدة صغيرة ونحيفة كانت ضمن السجينات. أردت سؤالها، فطلبت ملفها من المسؤولة عن السجن، فقالت إنها قتلت أربعة رجال. قلت كيف تقتل هذه (المرأة) أربعة؟ بعد التحري، فهمت، أن السيدات تتقدمن لإزالة عبء المسؤولية عن أزواجهن. أكثر السيدات يكن ضحايا لأزواجهن وإخوانهن. يقمن بحماية رجل في الأسرة، سواء كان زوجا أو أخا أو أبا. كما وجدت في بحث آخر قمت به، أن بعض العائلات في بعض القبائل، تعطي بنات صغيرات كزوجات للعائلة المتضررة. مثلا شخص قتل آخر من عائلة ما، فتكون «ديّته» أربع بنات غالبا في سن بين 10 إلى 15 سنة، ويزوجن صوريا لعائلة القتيل وتنتهي القصة. أنه نوع من الدية أقرب إلى العبودية. لقد تحدثت شخصيا مع كرزاي (الرئيس) في هذا الموضوع، لكنه قال إنه لا يعلم بهذا.
في الوقت نفسه، أعطت الإدارة الأميركية عقدا لشركة أميركية لبناء عدد من المحاكم، فجرى بناؤها همن دون علم وزارة العدل الأفغانية. ولما انتهوا من بنائها، ذهب المسؤول عن المعونة إلى وزير العدل، وأبلغه أنه أتى لتسليمه مفاتيح 20 محكمة، فقال الوزير: أنا لا أعلم شيئا عن هذه المحاكم ولا أماكن وجودها. فطلب الأميركي التسلم والتوقيع على ذلك. رد وزير العدل بأنه لا يمكنه القيام بذلك، لأنه إذا تسلم المباني «فهي تحتاج إلى خدمات مختلفة، من كهرباء وماء ونظافة وموظفين وإدارة، وليس لي ميزانية، أعطني ميزانية». أجابه المسؤول إن الجانب الأميركي كلف بالبناء فقط. في النهاية أخذ المفاتيح، وأصبحت بعض المباني محاكم والبعض الآخر بلديات، والبعض الثالث أخذه المحافظ وحوله إلى فيللا وسكن فيها.
ومما لاحظته في أفغانستان أيضا، استغلال الأطفال في العمالة؛ إذ كان من الطبيعي جدا أن ترى أطفالا في سن تسع سنوات أو عشر يعملون لمدة عشر أو ثماني ساعات في المصانع، بما يخالف الاتفاقيات الدولية، وطبعا لا الحكومة الأفغانية ولا الغرب ينظرون إلى هذا إلا من الناحية الشكلية أو الدعائية.
وأذكر كذلك مثالا آخر. في يوم ما زرت السجن الرئيس الذي كان قد بناه الروس عندما كانوا في أفغانستان، واسمه «بول أي شرخي» والذي يبعد حوالي 300 كلم عن كابل. بني السجن بالإسمنت وكان بلا شبابيك، وبلا حواجز. كنت في فبراير (شباط)، وكانت درجة الحرارة 7 تحت الصفر. استطعت أن أفرض على وزارة الداخلية أن تضع نوعا من أوراق البلاستيك لمنع البرد. لم يكن هناك ماء ساخن بل قليل جدا من الماء، ولا توجد حمامات، والناس لا يخرجون للساحة إلا مرة أو مرتين في الأسبوع. كان في كل عنبر أكثر من 100 شخص ولا مكان ينامون فيه، فكانوا ينامون صفوفا مثل المصلين، فمن ينام تكون قدماه على رأس من أمامه وهلم جرا. سألت عن المساجين، فقالوا إنهم سلموا أنفسهم في نهاية الحرب عام 2003. قلت ولماذا هم موجودون ونحن الآن في 2005 وقد مرت سنتان على وجودهم في السجن، وكان عددهم 852 شخصا. واتضح أنهم سلموا أنفسهم في أماكن مختلفة، وبعدها أراد الأميركيون أن ينقلوهم إلى مدينة اسمها مزار شريف، وتعاقدوا مع ناقلي البضائع لنقلهم عن طريق شاحنات، ومات كثير منهم في الطريق. ولما وصلت البقية إلى مزار شريف تمردوا، وكانت النتيجة أن أمر الأميركيون بإطلاق النار عليهم، وقتلوا أكثر من 700 شخص، في حين لم يزد الأمر عن تمرد داخلي. ثم احتفظوا بالباقين في السجن وتركوهم عاما ونصف العام في مزار شريف، ثم نقلوهم لـ«بولي شاركي».
بعد أن علمت بقصتهم توجهت للشينواري، وقلت: كيف تسمح بهذا؟ فأجاب بأنه لا علم له، وطلب مني أن أراجع النائب العام، فتوجهت إلى لنائب العام، فقال إنه لا علم له أيضا. قلت له: ما هذه الدولة التي تأمر قوات أجنبية من دون أمر قضائي! كذلك وزير العدل، قال ان لا حيلة له. وقال وزير الداخلية، إن هذا أمر أميركي. توجهت إلى السفير الأميركي خليل زاهي، فقال إن اشكروفت قال نريد القبض عليهم للتحقق من مدى خطورتهم على الولايات المتحدة، لكن على اعتبار أنهم يتحدثون لغات مختلفة مثل البشتو والفارسية وغيرها، لم نجد المترجمين الكافين. قلت ولأن جون اشكروفت طلب التحقيق ولم تجدوا مترجمين، تتركون الناس لمدة سنتين في هذه الظروف! وعدت إلى المستشفى، فوجدت أن 200 منهم مرضى بأمراض داخلية، منهم 120 مصابون بالربو. ذهبت إلى كرزاي وقلت، إنك إذا لم تخرج هؤلاء فسأفضحك، وتحدثت لخليل زادي بأني سأفضح أميركا، وسأذهب للجمعية العمومية وأفضحكم شفاهة، وكرزاي اقتنع، وخليل زادي أقنع الأميركان وأخلي طرف هؤلاء المساجين بعدها.
بسيوني خبير مستقل لحقوق الإنسان في أفغانستان
في عام 2004، عين الأمين العام للأمم المتحدة البروفسور بسيوني خبيرا مستقلا لحقوق الإنسان في أفغانستان، بناء على قرار من لجنة حقوق الإنسان، وهي اللجنة التي أصبحت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2005. ولم يتوفر للخبير المستقل طاقم العمل أو الموارد التي لولا وجودها لم يكن ليتم مهمته. وكرئيس للمعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية (ISISC)، اعتمد البروفسور بسيوني على الهيكل التنظيمي والعاملين بالمعهد في أفغانستان. حيث تصادف عمل البروفسور بسيوني في أفغانستان، حين كان المعهد يقوم بتنفيذ برنامج تدريبي للمؤسسة القضائية هناك فيما يخص العدالة الجنائية والذي مولته الحكومة الإيطالية التي كانت تقوم بمهمة في مجال العدالة في أفغانستان بموجب اتفاق بون أو اتفاق بشأن ترتيبات مؤقتة في أفغانستان ريثما يعاد إنشاء المؤسسات الحكومية
تألف طاقم العمل الذي كان متاحا للخبير المستقل من عامل واحد من الأمم المتحدة في جنيف كان يعمل بنصف دوام. وقد استقال هذا العامل أثناء المهمة لظروف صحية. لم يكن هناك أفراد آخرون متاحون للخبير المستقل. وكان متوقعا في ذلك الوقت أن تكون بيروقراطية الأمم المتحدة في صف الولايات المتحدة الأميركية التي عارضت تلك المهمة. وسافر الخبير المستقل معتمدا على دعم طاقم عمل المعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية في أغسطس (آب) عام 2004 ويناير (كانون الثاني) عام 2005. ولولا البنية التحتية التي أنشاها المعهد وطاقم عمله وكذلك اتصالاته مع مؤسستي القضاء والرئاسة في أفغانستان، بالإضافة للاتصالات الشخصية للخبير المستقل مع الرئيس حامد كرزاي، لم يكن للنجاح أن يكتب لتلك المهمة.
قدم البروفسور بسيوني تقريرا أوليا لمناقشته في اجتماع اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أكتوبر (تشرين الأول)، قوبل بترحيب كبير من جميع الدول الأعضاء باستثناء إدارة الرئيس بوش. وقُدم التقرير الثاني لمفوضية حقوق الإنسان في جنيف، سويسرا، في أبريل (نيسان) من عام 2005. وبعد تقديم الخبير المستقل لتقريره الثاني للمفوضية، عملت الولايات المتحدة بوضوح، التي عارضت تلك المهمة من البداية وكان وراء عدم إمداد المفوضية في جنيف البروفسور بسيوني بطاقم عمل أو أية موارد، ومنع التجديد لتلك المهمة. لكن الولايات المتحدة فعلت ذلك بطريقة غاية في الأناقة، عندما قالت إن الخبير المستقل قدم تحليلا دقيقا لا يدع مجالا لأي خبير مستقل آخر أو أية لجنة لتقوم بعمل إضافي، وأن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان سوف يعول على هذا التحليل. وكانت تلك هي نهاية أي نوع من الرقابة على الممارسات الأميركية في أفغانستان، وكذلك ممارسات الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
كان التقرير هو الأول من نوعه الذي يكشف ممارسة التعذيب وسوء المعاملة ضد المعتقلين التي كانت تمارسها الحكومة وقوات التحالف، خاصة القوات الأميركية. وكان الأول أيضا في انتقاد ممارسات القوات الأميركية في قاعدة باغرام الجوية ومجموعة من القواعد العسكرية الأخرى، وكذلك نقل بعض المعتقلين إلى معتقل غوانتانامو دون أدلة كافية، الأمر الذي أدى إلى إرسال العديد من الأشخاص بلا جريرة إلى غوانتانامو، البعض منهم سوف يظل محبوسا هناك طوال 11 عاما مقبلة.
أثار التقريران عددا من القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان في أفغانستان، خاصة فيما يتعلق بمحاسبة أمراء الحرب، والانتهاكات التي ارتكبها تجار المخدرات، والفساد الحكومي، والدور الفاسد الذي لعبه المقاولون الأميركيون الذين كانوا يعملون من دون رقابة أميركية كافية، والتمييز الذي كان يُمارس بشكل واسع ضد طبقات ومجموعات محددة داخل المجتمع الأفغاني، فضلا عن المرأة، وأخيرا وليس آخرا المعاملة القاسية وغير الإنسانية التي كان يتعرض لها الأشخاص المحتجزون في المعتقلات. وخلال السنوات اللاحقة، لم يحدث أي نوع من الإصلاح في تلك القضايا المذكورة آنفا، فقد لاقت توصيات الخبير المستقل استحسانا كبيرا في نيويورك وجنيف ولكنها لم تطبق في أفغانستان. ولم تقدم الحكومة الأفغانية أو الولايات المتحدة بما يدل على اهتمامهما بوضع تلك التوصيات موضع التنفيذ. واصلت إيطاليا عملها في مجال العدالة، والمملكة المتحدة في مجال مكافحة المخدرات، وألمانيا في مجالات إنفاذ القانون، لكن على نطاق ضيق جدا. وباستثناء ما يقرب من 644.4 مليار أنفقتها الولايات المتحدة في أفغانستان خلال الفترة من 2003 إلى 2013، هناك دلائل بسيطة على أن الولايات المتحدة ساهمت في تحسين البنية التحتية في البلاد، فضلا عن مساهمتها في خلق دولة مستدامة. لكن فظاعة الجرائم التي ارتكبها أمراء الحرب قبل عام 2003 والجرائم التي ارتكبتها حركة طالبان والولايات المتحدة بعد عام 2003 لن يعرفها أحد، ويمكن القول إن محاسبة من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب والكثير من انتهاكات حقوق الإنسان في ذلك البلد لم تحدث على الإطلاق.
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (7)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (6)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (5)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (4)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (3)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (2)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (1)