أوهام الاعتدال

التباس مفهوم الوسطية في أطروحات الإسلام السياسي

أوهام الاعتدال
TT

أوهام الاعتدال

أوهام الاعتدال

كانت الحاجة، وستظل، أم الاختراع. فكم من اختراعات ظهرت أو اختُرعت نتيجة وجود حاجة ماسة إليها. ينطبق ذلك على ما هو مفيد وما هو ضار في هذه الاختراعات.
المقصود بالاختراع هنا، معنى أوسع بكثير من الكشف العلمي أو الابتكار التكنولوجي. فهو يشمل الأفكار بأنواعها كافة ومجالاتها جميعا. ومن هذه الأفكار فكرة الاعتدال التي ظهرت مع صعود تيارات الإسلام السياسي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، ومفهوم الوسطية الذي توسع استخدامه في هذا السياق، وبات مقترنا بالمثقفين والكتاب الذين يعبرون فكريا عن التوجه السياسي العام لهذه التيارات.
الحاجة إلى هاتين الفكرتين - الوسطية والاعتدال - قوية لدى تيارات الإسلام السياسي التي اقتضت مصلحتها، أن تقدم نفسها في صورة مفادها أنها تجنح إلى العمل السلمي المعتمد على الدعوة والإقناع، والمنبت الصلة بالعنف والإكراه، وتسعى إلى الحوار والشراكة مع غيرها من التيارات، وتنأى بنفسها عن الغلو والمغالاة وتنفر من الجموح والمغالبة.

وعلى الرغم من أن هذه التيارات لم تطرح ما يمكن اعتباره نهجا واضحا يمثل قطيعة معرفية مع من يرفعون لواء «الجهاد} في مواجهة المسلمين وشركاء الوطن ويلجأون إلى العنف ويمارسون الإرهاب، فقد حرصت على تمييز نفسها عنهم باعتبارها ممثلة للاعتدال في مواجهة تطرف من يحملون السلاح. ولكن مفهوم الاعتدال الذي أصبح مقترنا بتيارات الإسلام السياسي وحركاته، وأهمها جماعة «الإخوان» المنتشرة حول العالم، ظل أقرب إلى شعار عام منه إلى فكرة تقوم على رؤية واضحة لمحدداته وأسسه ومنهجه، والخط الذي يفصله معرفيا وفكريا وسياسيا، عن العنف الذي لم يخل تاريخ هذه التيارات وخاصة جماعة الإخوان منه.

* فكرة الوسطية
* واقترن مفهوم الاعتدال، أو شعاره، على هذا النحو بفكرة الوسطية الإسلامية التي أعيد إنتاجها من دون بلورتها وتحديد مضمونها، أو حتى معناها في العصر الراهن. لذلك ظلت فكرة الوسطية، عند هذه التيارات، مثلها مثل الاعتدال، أقرب إلى شعار عام، على الرغم من اقترانها بمجموعة من المثقفين والكتّاب الإسلاميين الذين قدموا أنفسهم حينا، وقُدموا حينا آخر، باعتبارهم ممثلين لها مثل دكتور يوسف القرضاوي ودكتور محمد سليم العوا ودكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشري والأستاذ فهمي هويدي وغيرهم.
غير أن ما ينبغي الانتباه إليه، هو أن الحاجة إلى وجود تيارات معتدلة في ساحة الإسلام السياسي وأفكار إسلامية وسطية، لم تكن مقصورة فقط على التيارات التي وُصفت بالاعتدال والمثقفين الذين عدوا وسطيين. كانت الحاجة إلى إسلام سياسي معتدل ووسطي قائمة أيضا لدى قطاع من الباحثين والأكاديميين، وأجنحة في التيارات الأخرى الليبرالية والقومية العربية واليسارية، اعتقادا بأن وجوده يساعد في إزالة، أو على الأقل، تخفيف أحد أهم المخاوف التي ظلت تعترض طريق التطور الديمقراطي في عدد من الدول العربية، وهو وصول حركات إسلامية سياسية إلى السلطة عبر هذا الطريق ثم غلقه بـ{ضبة ومفتاح}. ولذلك كان الجدل حول ما إذا كانت مرجعيات تيارات الإسلام السياسي التي وُصفت بالاعتدال وبنياتها التنظيمية المغلقة تسمح بأن تصبح جزءا من عملية ديمقراطية مفتوحة يحدث فيها تداول على السلطة عبر الانتخابات إحدى أهم القضايا التي شغلت الحيز العام في كثير من البلاد العربية منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي.
وكانت مواجهة إرهاب الحركات الإسلامية التي رفعت لواء «الجهاد} ولجأت إلى العنف سببا ثانيا للحاجة إلى تيارات إسلامية سياسية معتدلة، اعتقادا بأن وجود أصوات معتدلة في هذا السياق يساهم في إضعاف نزعات التطرف التي تنتج عنفا وإرهابا، تأسيسا على المنطق البسيط الذي يقضي بأنه إذا زادت مساحة فكرة ما تناقصت بالتالي مساحة نقيضتها. ولما كان الاعتدال والتطرف نقيضين، بدا أن ازدياد حضور أحدهما لا بد أن يكون على حساب الآخر.
ولذلك فالافتراض الذي تنطلق منه الرؤية التي نقدمها هنا لمسألة الاعتدال والوسطية في الإسلام السياسي، هو أن وجودهما كان حاجة موضوعية دفعت إلى التعجل في اعتبارهما موجودين بالفعل استنادا إلى خطاب سياسي شديد العمومية تبنته التيارات التي عدت معتدلة ووسطية، ولم يتضمن ما يتيح التثبت من جديته أو التيقن من الالتزام به. وسنعود في مناقشة هذا الافتراض إلى ما يمكن اعتباره منطق من راهنوا على هذا الخطاب، وخاصة من الباحثين والأكاديميين الذين بلوروا ما اتجهت قطاعات من التيارات الليبرالية والقومية العربية واليسارية إلى العمل على أساسه في هذا المجال.
وننتقل في الشق الثاني من هذه الرؤية إلى مناقشة الغموض الذي انتاب فكرة الوسطية في أطروحات الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال والالتباس الذي أحاط بها، وما زال.
أولا: منطق الرهان على إسلام سياسي معتدل ووسطي:
ينبغي التمييز في بحثنا عن هذا المنطق بين توجهات نظم الحكم العربية التي راهنت على وجود إسلام سياسي معتدل ووسطي، وكان بعضها «رائدا» في هذا المجال، وأفكار باحثين وأكاديميين ميزوا بين الاعتدال والتطرف وبلوروا أفكارا ساهمت في دعم الاتجاه إلى الرهان على تيارات إسلامية سياسية عدت معتدلة ووسطية.
1 - رهان نظم الحكم على إسلام سياسي معتدل ووسطي:
بدأت إرهاصات هذا الرهان في مصر منذ ثورة يوليو 1952، عبر تعاون قيادتها مع جماعة «الإخوان» في الإعداد لهذه الثورة ثم في تثبيت أركانها، قبل أن يبدأ الصدام بين الطرفين بعد شهور على قيامها ويبلغ ذروته في أكتوبر (تشرين الأول) 1954.
ففي الفترة بين 26 يوليو (تموز) 1952 حين اجتمعت الهيئة التأسيسية (مجلس الشورى بعد ذلك) لجماعة «الإخوان» وأصدرت بيانا عبر عن فرحتها (لنجاح الحركة المباركة لضباط الجيش)، و26 أكتوبر 1954 عندما أطلق محمود عبد اللطيف عضو الجماعة ثماني رصاصات لم يصب أي منها جمال عبد الناصر خلال إلقائه خطابا في ميدان المنشية بالإسكندرية، جرت في نهر العلاقة بين سلطة الثورة والإخوان مياه كثيرة.
تعامل مجلس قيادة الثورة، ومن قبله قيادة تنظيم الضباط الأحرار، مع الجماعة باعتبارها أبرز القوى الوطنية التي يمكن الاعتماد عليها بما ينطوي عليه ذلك من اعتقاد بأنها ليست متطرفة، على الأقل إلى الحد الذي يثير القلق. وعلى الرغم من أن قادة الثورة فوجئوا عقب نجاحها بطلب المرشد العام للجماعة حينئذ حسن الهضيبي عرض القرارات التي يتخذونها على مكتب إرشاد هذه الجماعة للنظر فيها قبل إصدارها، واصلوا التعاون معها رغم رفضهم هذا الطلب. فقد كانوا في حاجة إلى قاعدة يرتكزون عليها إلى أن يثبّت العهد الجديد ركائزه. ولذلك وجهوا إليها رسائل إيجابية بدءا باستبعاد ضباط البوليس السري الأكثر عداء لها وإعادة التحقيق في قضية مقتل زعيمها حسن البنا واستثنائها من قرار حل الأحزاب والجماعات السياسية الصادر في 16 يناير (كانون الثاني) 1953.
ولكن هذا التقارب الذي فرضته الظروف السياسية سرعان ما تراجع وبدأت عناصر التوتر الكامنة بين الطرفين في الظهور تدريجيا، إلى أن بدأت العلاقة في التحول منذ فبراير (شباط) 1954 نحو الصدام الذي بلغ ذروته في أكتوبر من العام نفسه.
غير أن هذه التجربة المرة، لم تكن كافية لإحداث قطيعة مع منهج الرهان على إسلام سياسي معتدل، ولا حتى على جماعة الإخوان نفسها؛ حيث استقطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عددا من قادتها الذين فُصلوا منها أو انشقوا عليها خلال فترة الصدام، واستعان بهم في سعيه إلى مواجهة هذه الجماعة بسلاحها، وهو استخدام الدين عبر سياسة استهدفت إثبات أن الإسلام الرسمي أو إسلام الدولة هو الصحيح، وأن الإخوان منحرفون عن صحيح الإسلام، قبل أن يعود الرئيس الراحل أنور السادات للرهان عليهم مجددا في مطلع سبعينات القرن الماضي.
وفي ظل الصدام مع الإخوان، اتجه عبد الناصر إلى مؤسسة الأزهر لتطويرها من أجل أداء دور أراده لها كمؤسسة إسلامية كبرى تعبر عن الوسطية والاعتدال. غير أن الطريقة التي اتُبعت سعيا إلى هذا الهدف أدت على المدى الأبعد إلى تداعيات سلبية فاقت الآثار الإيجابية التي حققتها على المدى الأقصر. فقد خلق إلحاق مؤسسة الأزهر بسلطة الدولة وربطها بها عوامل وهن فيها، حيث ضعفت مصداقيتها عندما بدا أنها لسان حال هذه السلطة. كما أدى توسيعها بلا حدود إلى انتشار مئات المعاهد الدينية التي صار صعبا، ثم مستحيلا، ضبط إيقاعها في الإطار الوسطي الذي أريد لهذه المؤسسة أن تلتزم به. ولذلك وجد التطرف الديني طريقه إلى غير قليل من العاملين بها وليس فقط الدارسون فيها.

* السياسات الاشتراكية الناصرية
* وعلى الرغم من أن السادات واصل استخدام مؤسسة الأزهر بالطريقة نفسها، فقد عاد معه الرهان على اعتدال جماعة الإخوان ووسطيتها مرة أخرى. فقد بدأ - اعتبارا من أواخر 1971 - في الإفراج عن المسجونين والمعتقلين من قادتها وأعضائها، والسماح لمن لجأوا إلى الخارج بالعودة، وأتاح لهم حرية حركة تنامت تدريجيا، حيث استأنفوا إصدار إحدى مطبوعاتهم (مجلة الدعوة) عام 1976. صحيح أن الهدف الأساسي للسادات كان الاستفادة من دور الإخوان في دعم عملية التحول عن السياسات الاشتراكية الناصرية وإيجاد توازن مع القوى اليسارية (الناصرية والماركسية) المؤيدة لهذه السياسات. غير أنه ما كان متصورا الاعتماد على الإخوان في مثل هذا السياق دون اقتناع بأنهم معتدلون ووسطيون. ولولا ذلك، ما لجأ نظام السادات إلى الإخوان للمساعدة في مواجهة التطرف الديني حين أخذت ظاهرة العنف تتفاقم في أواخر السبعينات. فقد اعتمد على المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت عمر التلمساني وبعض قادتهم في محاولة لوقف تنامي جماعات العنف. وقد أكد ذلك النبوي إسماعيل، الذي تولى منصب وزير الداخلية بين عامي 1977 و1982 ضمن روايته لاعتقالات سبتمبر (أيلول) 1981، حيث روى أنه اعترض على اعتقال التلمساني. وقال للسادات إنه «رجل معتدل كان يذهب للجامعات ويتحدث لإحباط تحركات نظمتها جماعات دينية متطرفة. وكان يتحدث ويفند آراءهم لدرجة أنه كان يتعرض أحيانا للإهانة منهم. وهذه تصرفات يستحق عليها الشكر وليس الاعتقال». كما ورد في مذكراته التي نشرتها صحيفة «الحياة} عام 1995. واستمر منهج الرهان على اعتدال الإخوان ووسطيتهم في عهد مبارك الذي شهدت بدايته تعاونا بينهم وبين النظام في الحرب التي ترتبت على الغزو السوفياتي لأفغانستان، حيث أُتيحت لهم حرية حركة واسعة في الدعوة إلى «الجهاد} في هذه الحرب وجمع تبرعات لدعمها. وكان تصاعد موجة العنف، التي كانت قد بدأت في أواخر السبعينات، وتحولها إلى تهديد قوي في أواخر الثمانينات وحتى عام 1997، عاملا آخر ساهم في استمرار الرهان على اعتدال الإخوان مع ازدياد الحذر تجاههم في الوقت نفسه نظرا لنجاحهم في استغلال حرية الحركة التي أُتيحت لهم منذ بداية السبعينات للتغلغل في المجتمع وتوسيع نطاق المنتمين إلى الجماعة.
وتواصل التزام الحذر، وما اقترن به من ممارسة ضغوط على جماعة الإخوان عبر توجيه ضربات أمنية انتقائية محدودة ضدها من وقت إلى آخر، بالتوازي مع استمرار تصنيفها ضمن قوى الاعتدال في الإسلام السياسي دون التصريح بذلك.
2 - رهان باحثين وسياسيين على إسلام سياسي معتدل ووسطي:
راهن غير قليل من الباحثين والسياسيين الليبراليين والقوميين والمستقلين سواء في مصر، أو في بلاد عربية أخرى، على وجود إسلام سياسي معتدل ووسطي. وساهموا بذلك في إضفاء الاعتدال والوسطية على جماعة الإخوان وجماعات وأحزاب إسلامية سياسية أخرى، وترسيخ النظرة الإيجابية إلى مثقفين وكتّاب يعبرون فكريا عن التوجهات السياسية العامة لهذه الجماعات والأحزاب باعتبارهم معبرين عن الوسطية الإسلامية.

* تحالف الوفد مع الإخوان
* وكان هذا «الاختراع} نتيجة الحاجة الماسة إلى وجود إسلام سياسي يمكن دمجه في بناء ديمقراطي كان هؤلاء الباحثون والسياسيون يبشرون به ويتطلعون إليه. وقد دشنت قيادة حزب الوفد ذي التاريخ الليبرالي العريق هذا الاتجاه الذي سعى إلى إيجاد إسلام سياسي معتدل، عبر اتفاقها مع قيادة جماعة الإخوان على التعاون - الذي أُطلق عليه التحالف - في انتخابات 1984 البرلمانية في مصر. وقام ذلك التعاون على أن تضم قوائم حزب الوفد الانتخابية عددا من المرشحين الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها الإخوان في انتخابات عامة، حيث وجد ثمانية منهم الطريق إلى مجلس الشعب ضمن قوائم حزب الوفد.
وفتح ذلك التعاون الانتخابي بين حزب ليبرالي وجماعة الإخوان بابا أوسع للرهان على إدماج هذه الجماعة في الحياة السياسية على أساس أن التفاعل الذي سيترتب على هذا الإدماج سيؤدي إلى التزامها تدريجيا بالديمقراطية بما يتيح، في النهاية، تبديد المخاوف من وصولها إلى السلطة عبر انتخابات تكون هي الأخيرة في غياب ما يضمن إجراء الانتخابات التالية في موعدها في ظل هيمنة هذه الجماعة على السلطة.
وفي الوقت الذي شهدت فيه العلاقة بين الإخوان وقوى المعارضة المصرية مزيجا من الصراع والتعاون، كان هناك ميل واضح لدى غير قليل من الباحثين المهمومين بقضايا الوطن إلى دمج الإسلام السياسي المعتدل في الحياة السياسية و«التنظير} لأهمية هذا الدمج وضرورته لإيجاد الأرضية التي لا غنى عنها لتطور ديمقراطي تطلعوا إليه. وكان كاتب السطور أحد هؤلاء الذين راهنوا على تيار إسلامي سياسي معتدل، وظنوا أن جماعة الإخوان قابلة للتطور باعتباره سنة الحياة قبل أن يثبت خطأ هذا الرهان بشكل قاطع عقب تولي الرئيس المنتمي إليها محمد مرسي السلطة في منتصف عام 2012.
وكان كتابي «الأزمة المصرية - مخاطر الاستقطاب الإسلامي العلماني» الصادر عام 1993 مثالا لهذا التنظير في قضية دمج الإسلاميين المعتدلين في الحيز السياسي العام وإتاحة الفرصة لهم للتفاعل والاحتكاك بما يؤديان إليه من تطور فكري وتنظيمي في صفوفهم، سعيا إلى محاصرة العنف الديني الذي كان قد تصاعد في مصر في ذلك الوقت.

* ثلاثة افتراضات
* فقد انطلقت الرؤية المتضمنة في هذا الكتاب، كما جاء في مقدمته، من ثلاثة افتراضات. أولها أن «ظاهرة العنف هي جزء من معضلة أوسع ترتبط بمحدودية التطور الديمقراطي وعدم توفر تقاليد الحوار بين المختلفين فكريا وسياسيا. فعندما تُغلق أو تضيق أبواب العمل السياسي المشروع، ويتبدد الأمل في التغيير السلمي، تنفتح في المقابل أبواب العنف}. وكان الافتراض الثاني أن «ازدياد حدة الاستقطاب الإسلامي - العلماني يهدد باختفاء تدريجي للقوى والعناصر المعتدلة أو القريبة من الاعتدال في كل منهما، والتي يتوقف عليها مد الجسور بينهما. ويترتب على ذلك ازدياد صعوبات التطور الديمقراطي الذي يفترض انفتاح مختلف التيارات على بعضها بما يؤدي إليه من اكتسابها فضائل التسامح والحوار والحل الوسط والتفاعل البنّاء».
أما الافتراض الثالث فكان متعلقا بما بدا في ذلك الوقت من «وجود فرصة للتوافق بين القوى المعتدلة في التيارات العلمانية والإسلامية على إطار عام يحدد ما هو مشترك وما هو مختلف عليه}.
أما الافتراض الثاني فهو أن «الإسلاميين أصحاب العقيدة الكلية والشاملة سيصبحون أمام تحدي بناء رؤى سياسية قادرة على التعامل مع القضايا الجزئية ولغة الأرقام ومهارة التفاعل النقدي مع العالم.
وقد خاضت بعض فصائل التيار الإسلامي هذا التحدي بنجاح، وقدمت خبرة حزب العدالة والتنمية في تركيا نموذجا ناجحا اقتصاديا وسياسيا». وقد اهتم الكتاب المشار إليه هنا بإلقاء ضوء ساطع على تلك الخبرة تحديدا.
ثانيا: التباس مفهومي الاعتدال والوسطية
إذا كان مفهوم الاعتدال ملتبسا بطابعه لأنه يتعلق بموقع غير محدد على متواصل Continium سياسي أو فكري يختلف من وقت لآخر، الأمر الذي يصعب معه تحديد مستوى هذا الاعتدال أو حتى تعريفه بدقة، فالأمر كذلك أيضا بالنسبة إلى مفهوم الوسطية على الرغم من أنه قد يكون قابلا للتحديد. ولكن الكثير من الإسلاميين استخدموا مفهوم الوسطية دون تحديد أو تعريف متفق عليه، واستُدرج كثير غيرهم إلى الحديث عنه وكأنه يشير إلى معنى محدد في الوقت الذي ظل مفهوما سائلا ومراوغا.
والملاحظ أن عالم الاجتماع المسيحي الإنجيلي، دكتور رفيق حبيب، الذي شارك في تأسيس حزب الوسط، كتب عن هذه الوسطية من منظور مختلف تماما عما ورد في برنامج الحزب الذي ساهم في كتابته. فقد ربط - في كتابه «حضارة الوسط - نحو أصولية جديدة} الصادر عام 2011 - الوسطية بالموقع الجغرافي حيث قسم الحضارات الكبرى في التاريخ إلى ثلاث؛ شرقية (آسيا) ووسطية (العالمان العربي والإسلامي) وغربية. ورأى أن الحضارة العربية - الإسلامية تمثل ما سماه الوسط الحضاري في التاريخ البشري.
وكما هو الحال في برنامج حزب الوسط الذي افتقد مفهوم الوسطية فيه إلى التحديد والوضوح، جاء طرح حبيب للمفهوم نفسه ما بين عام مبالغ في العمومية وغائم يفتقد الوضوح. فالحضارة العربية - الإسلامية عنده تمثل وسطا نوعيا بين الحضارات الآسيوية والغربية. ويحاول تفسير ذلك بالعودة إلى ثنائية المادة والمعنى التي تجاوزها الفكر الإنساني منذ فترة طويلة: «أصبح الوسط الحضاري ممثلا لموضع وسط في التفاعل بين المادة والمعنى، وبهذا يكون تكوينه مركبا من القيمة الثنائية والتي يظهر كل قطب منها في حضارات مختلفة»!
ومما يثير الانتباه الآن، ولم يكن منتبها إليه قبل أن تنكشف قوى الإسلام السياسي بعد فشلها في الاختبار المصري، أن جانبا من الرهان على اعتدال جماعة الإخوان ارتبط باعتقاد لم يركز على وسطيتها فكريا وفقهيا بقدر ما اهتم بما بدا أنه جيل وسط في هذه الجماعة يمكن التعويل عليه.

* مثقفون وسطيون
* وحتى المثقفون والكتاّب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون، لا تجد لديهم ما تبحث عنه. فكان دكتور محمد عمارة هو أكثرهم استخداما لمفهوم الوسطية في كتاباته وأحاديثه، ولكن في الإطار العام غير المحدد أيضا. فقد تحدث كثيرا عما سماه وسطية جامعة دون أن يوضح ما الذي تجمعه على وجه التحديد. فقد ربط هذه الوسطية الجامعة بإحدى أهم خصائص الأمة الإسلامية وفقا للقرآن الكريم الذي عدها أمة وسطا (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
ولا يختلف هذا الكلام الشديد العمومية عما يمكن أن تسمعه على منابر بعض المساجد في خطب وعظية، أو في أحاديث بعض قادة الإخوان وغيرهم من أطياف الإسلام السياسي. فلم يقدم المثقفون والكتّاب الذين استمدوا «شرعيتهم» من اعتبارهم وسطيين جديدا في تحديد معنى الوسطية وبلورة مفهومها وتحريره من السيولة التي يتسم بها.
ومع ذلك فقد نجح هؤلاء المثقفون، الذين قدموا إسهامات فكرية مقدّرة في بعض القضايا الأخرى بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها، في تدعيم الرهان على الوسطية الإسلامية وربطها بقوى الإسلام السياسي التي لم تمارس العنف وفي مقدمتها جماعة الإخوان. فلم يختلف الاتجاه الرئيس في فكر المثقفين «الوسطيين} عن التوجهات الأساسية لهذه الجماعة وتلك القوى، سواء من جاءوا من خلفية «إخوانية» أو يسارية. فقد انتمى بعضهم إلى تنظيم الإخوان في مرحلة مبكرة من حياته مثل دكتور يوسف القرضاوي ودكتور محمد سليم العوا قبل أن يستقيلا منها لأسباب سياسية وتنظيمية وليس لدوافع فكرية وفقهية. وهذا الفرق في سبب الاستقالة بالغ الأهمية، لأن الخلاف السياسي والتنظيمي يتعلق عادة بأمور عارضة، في حين أن الخلاف الفكري والفقهي يرتبط بقضايا أساسية وجوهرية.
وعلى الرغم من أن دكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشري، كانا يساريين قبل أن يتحولا إلى الفكر الإسلامي، فقد جمعهما والقرضاوي والعوا وهويدي وغيرهم قواسم مشتركة، عدها كثيرون تعبيرا عن الوسطية الإسلامية رغم أنها تمثل الوجه الفكري لتوجهات الإسلام السياسي.
وثمة ملاحظة بالغة الدلالة في هذا السياق، وهي أن تحول البشري من الفكر اليساري إلى الفكر الإسلامي اقترن بتغيير نظرته إلى تاريخ جماعة الإخوان ومراجعة ما كتبه عن هذا التاريخ باعتباره مؤرخا. فقد تضمن أحد كتبه التأريخية (الحركة السياسية في مصر 1945 - 1952) في طبعته الأولى الصادرة عام 1972 رؤية نقدية صارمة لتوجهات جماعة الإخوان وممارساتها في تلك الفترة. فقد انتقد مصادرتها الدين لمصلحتها وسعيها للسيطرة على الإسلام وعدم احترام أعضائها إلا أهداف جماعتهم كتنظيم، والغموض الذي اكتنف نظرتها لطبيعة الدعوة، وهل هي سياسية أم دينية. وعد البشري هذا الغموض مقصودا لتسهيل النمو تحت ستار الدعوة الدينية وجذب كثير من الناس بعيدا عن صراعات السياسة المباشرة ومراوغة الحكومة والأحزاب والرأي العام رغم أنها كانت - في نظره حينئذ - ليست إلا تنظيما سياسيا يسعى للسلطة. كما انتقد عدم اهتمامها بالمسألة الوطنية، عادا أنها رغم ما كان يصدر عن قادتها من تعريض بالاستعمار أحيانا أو هجوم عليه كانت أقل التنظيمات تعرضا للمسألة الوطنية وتحديدا للموقف إزاءها في وقت كانت هذه المسألة هي بؤرة الاهتمام العام. وليس هذا إلا غيضا من فيض الانتقادات التي وجهها البشري إلى الإخوان في الطبعة الأولى من الكتاب.
غير أنه لم يلبث أن راجع نظرته هذه إلى الإخوان مراجعة جذرية تقريبا. ولذلك صدّر الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 1983 بمقدمة طويلة في 68 صفحة أفصح فيها عن تغيير نظرته إلى جماعة الإخوان. وأوضح في هذه المقدمة، التي لم تكن من حيث حجمها ووظيفتها مجرد مقدمة بل كانت فصلا جديدا، أن فكره تغير. وقال: «دار فكري دورة كبيرة} فيما يتعلق بفهم طبيعة جماعة الإخوان ودورها، موضحا أنه أدرك أن من ينظر إليها من خارج إطارها الفكري والعقيدي والحضاري «لا يستطيع أن يستصحب منطقها»، ولا يعي الفرق «بين المنهج الإسلامي كما يراه الإخوان والمنهج العلماني الذي انطبع به فكر الكثيرين من أبناء المؤسسات الحديثة في بلدنا}. ومضى بعد ذلك «يصحح} ما أخطأ فيه عندما لم يستصحب منطق الإخوان، ويراجع ما ورد عنهم في الطبعة الأولى «بهذا النظر} الجديد، ويوضح أنه صار يفهم ما غفل عنه من قبل.
ويعني ذلك أن المثقفين «الوسطيين} الذين انشقوا على جماعة الإخوان لم يحدثوا قطيعة معرفية معها، وأن من جاءوا من خلفيات أخرى منهم لم يحافظوا على القطيعة المعرفية التي كانت تفصلهم عنها قبل تحولهم إلى الفكر الإسلامي. فلم يختلف فكرهم عن توجهات جماعة الإخوان والإسلام السياسي عموما في جوهرها، بل قدم بعضهم رؤى بدت أكثر تشددا في صيغتها الفكرية التي طُرحت بها مقارنة بالتوجهات السياسية المعادلة لها في خطاب الإخوان وغيرهم من قوى الإسلام السياسي.
خذ مثلا الموقف من «الآخر». فقد ظل كل من البشري وعمارة يعدان فكر العلمانيين المصريين وافدا من الغرب وغريبا على الشرق، بل تعدى الأمر الفكر إلى من يؤمنون به حيث عدوهم غرباء. وأذكر أننا كنا في ندوة نظمتها صحيفة «الحياة} في مكتبها بالقاهرة عام 1994 حين فاجأنا دكتور محمد عمارة بترديد القول المأثور شعبيا «البيت بيت أبونا.. والغرب بيطردونا»، قاصدا أن «العلمانيين} الغرباء يسعون إلى إقصاء الإسلاميين الأصلاء. وقد شرحت له يومها أن الدار (الوطن) للجميع وليست لأحد، ولم يرثها أي طرف عن أبيه وليس فيها غرباء لأن من يعيشون فيها كلهم شعب واحد.
ويكشف كتاب دكتور عمارة «معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام» الصادر عام 1996 رفضا دفينا لكل ما تعبر عنه مفاهيم التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية والإبداع، وليس فقط مفهوم العلمانية، ونفورا شديدا من المضمون التحرري لهذه المفاهيم. فالتنوير مثلا هو محض اتجاه مادي لا ديني.
وقل مثل ذلك عن بعض أفكار المستشار طارق البشري الذي ينظر إلى العلمانية باعتبارها «وافدا غريبا اقتحم حياة مصر وشعبها في القرن التاسع عشر». ويعد كتابه «الحوار الإسلامي العلماني» الصادر عام 1996 مثالا للغلو في هذا المجال. فقد ربط بين ما سماه وفود الفكر العلماني وحضور الاستعمار، ورأى أن البحث عن أمر الفكر الوافد في مجمله (أي كل الأفكار الإنسانية المدنية) لا يتيسر إلا باستحضار قصة المواجهة السياسية والعسكرية المستمرة مع الغرب على مدى القرنين الأخيرين، في إطار ما يسميه «عصر مقاومة الاستعمار}. ويعني ذلك أن الكثير من المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها الدولة الوطنية في هذا العصر ليست إلا فكرا وافدا ارتبط بالغزوة الاستعمارية، وأن مقاومة هذه الغزوة ترتبط بالتالي (وهذا استنتاجنا وليس قوله الصريح) بمواجهة تلك المفاهيم التي لا يستقيم بناء الدول والمجتمعات في العصر الراهن في غيابها. ولعله ينسى أن من بين هذه المفاهيم ما كان سلاحا في مواجهة الاستعمار مثل السيادة الوطنية وتقرير المصير فضلا عن مفهوم الديمقراطية الذي يرتبط بالضرورة باستقلال الوطن لأنه يقوم على مبدأ السيادة للشعب الذي تنفر منه بعض قوى الإسلام السياسي صراحة وبعضها الآخر ضمنا أو تورية.
وكثيرة هي في الواقع الأمثلة الدالة على أن التوجهات الفكرية للمثقفين والكتّاب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون، بل بكونهم النماذج الأبرز للوسطية، ليست إلا تعبيرا عن التوجهات السياسية لجماعات الإسلام السياسي بما فيها جماعة الإخوان.
فالوسطية الإسلامية، التي تقوم على فكرة عامة بسيطة مؤداها أنه لا إفراط ولا تفريط، هي نمط حياة يعيشه مئات الملايين من المسلمين بشكل طبيعي وليست توجها فكريا أو سياسيا. فالإنسان المسلم وسطي بفطرته إلا إذا تعرض لما يفسد هذه الفطرة التي فطره الله عليها.

* رئيس مركز الأهرام للترجمة والنشر



لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
TT

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)

حين نشأ لبنان في 1920 وحين استقلّ في 1943، لم تكن فكرة العداوة والعدوّ من شِيمَه، ولا كانت على لسانه. فلحسن الحظّ لم يكن لدينا «مليون شهيد» نتباهى بهم، بل لم يكن لدينا أيّ شهيد أصلاً. وقد خلا تاريخنا الاستقلاليّ من معارك، كمعركة ميسلون في سوريّا. فـ«الآباء المؤسّسون»، إذا صحّت الاستعارة الأميركيّة، اهتمّوا بالصداقة وبناء الجسور، فوصفوا بلدهم بأنّه «جسر بين الشرق والغرب»، ترصّعه المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والرساميل والفنادق.

وكان من مصادر التكريم الذي أُسبغ على فينيقيا، وعلى الاستمراريّة التي قيل إنّها تضمّنا إليها، أنّ الفينيقيّين تجّار يعبرون المحيطات ويقصّرون المسافات. وكان في وسع الفينيقيّين أولئك أن يعيشوا في جوار عرب مسالمين أيضاً، فضلاً عن كونهم يأتوننا سيّاحاً ومصطافين ومستثمرين. وإذا كان لا بدّ من أعداء، لأنّ الأساطير المؤسِّسة للأوطان تتطلّب الأعداء، اختار أولئك الآباء أعداء اندثروا ولم تعد لهم ذريّة. هكذا أعلنوا عتبهم على الإسكندر المقدونيّ الذي حاصر صور قبل زمن المسيح، وعلى الملك الفارسيّ أرتحششتا الذي حاصر صيدا في زمن مُقارب. فكأنّما أريدَ القول إنّ لبنان لم يولد من رحم العداوة، وحين كانت العداوة تقصده كان يقاومها مضطرّاً، وهي في الأحوال كافّة، مرّت مروراً سريعاً ولم تعمّر.

صحيح أنّ الرواية التاريخيّة المعتمَدة لم تستطع تجاهل العثمانيّين. فهم قتلوا فخر الدين المعنيّ، الذي رفعته السرديّة الرسميّة جَدّاً أوّل للوطن، كما نفوا جدّه الثاني، بشير الشهابيّ. لكنّ العثمانيّة هي أيضاً صارت تاريخاً بلا وريث منذ ألغى أتاتورك سلطنتها وخلافتها. وبالمعنى هذا أصبحت الإحالات الكثيرة إلى الأربعمائة سنة عثمانيّة لا تدلّ إلى أحد، إذ قبل رجب طيّب إردوغان لم يكن في تركيّا حاكمٌ يتعصّب لها أو يُغضبه هجاؤها.

الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا وسفير العراق لدى واشنطن علي جودت ومندوب العراق لدى الأمم المتحدة فاضل جميلي ومندوب لبنان شارل مالك في استراحة غداء في أثناء اجتماع اللجنة السياسية بشأن فلسطين... وبعد جلسة غاضبة تخللها تبادل الشتائم صوتت الأمم المتحدة على عدم استقلال فلسطين (غيتي)

أمّا الامتحان الأصعب الذي عبره لبنان فكان موضوعه جمال باشا عام 1916. هكذا أُطلقت استدراكات ثلاثة لتطويق تلك العداوة: فأوّلاً، بولغَ في التوكيد على أنّ الرجل سفّاح، وهذا ما امتصّ مضمون العداوة السياسيّ وردّها إلى ساديّة مَرَضيّة أصيلة فيه. وثانياً، كُرّم الشهداء بأن جُعل لهم عيد، فكأنّ المقصود أنّ هذا احتفال أو تنصيب يحصل مرّة واحدة، مثلما الحال حين يُحتفل بعيد قدّيس معيّن. وثالثاً، وبما أنّ جمال أعدم مسيحيّين ومسلمين، جُعل الإعدام جسراً آخر يؤدّي إلى الوحدة الوطنيّة ويمتّنها. آخرُ الأحزان جعلناه، إذاً، أوّل الأفراح.

وكان من أسباب البساطة هذه أنّ الأوضاع نفسها بسيطة لا تحوِج إلى تعقيد. أمّا الحرّيّة فأكثر من كافية لجعل بلد قليل العداوات وكثير الصداقات شيئاً قابلاً للحياة. وفي وقت لاحق، نطقَ رجل، لم تصدر عنه إلا الكليشيهات المضجرة، بعبارة مبدعة هي أنّ «قوّة لبنان في ضعفه»، بمعنى أنّ الجسور مدافع اللبنانيّين وسلاحهم الثقيل.

وظلّ تعبير «العدوّ» غير مُستساغ في القاموس اللبنانيّ السائد، شأنه شأن باقي التعابير التي تلازمه عادةً، كـ«الاستعمار» و«الرجعيّة» و«الصهيونيّة». ولكثيرين بدا الشيوعيّون الذين يشهّرون بـ«الحلف الأطلسيّ»، والعروبيّون الذين يتباهون بمعارك اليرموك والقادسيّة، أشخاصاً غريبين يتحدّثون لغة عجيبة. ولئن تسرّع البعض حين خوّنوا إميل إدّه، إبّان الاستقلال، بقي المعترضون على فكرة التخوين، والمشمئزّون من جوّها التشهيريّ، كثيرين. وبالطبع لم تنشأ محاكمات ولم تحصل إعدامات من النوع الذي يلازم تهمة الخيانة. هكذا رفض اللبنانيّون، مرّة أخرى، أن يكون الدم أحد آبائهم. وبعد ثلاث سنوات على الاستقلال، حوّل إميل إدّه مؤيّديه إلى حزب سياسيّ شرعيّ، وحين توفّي، بعد ثلاث سنوات أخرى، أقيم له مأتم شعبيّ حاشد.

مقهى بيروتي تقليدي في 1951 (غيتي)

تفادي ذيول النكبة

وحتّى عندما نشبت حرب فلسطين في 1948، تراءى أنّ إطفاء نارها أمر ممكن. وبالفعل وقّعتْ على هدنة رودُس، بعد عام واحد، مصر وسوريّا والأردن، ما حالَ دون ظهور لبنان كأنّه متفرّد، أي كأنّه مسيحيّ في عالم الإسلام. والحلّ هذا لم يكن سهلاً فحسب، بل كان مُربحاً أيضاً، إذ أعفى اللبنانيّين من احتمالات الحرب كما أعفاهم من مغبّة التنافس مع مرفأ حيفا الصاعد في دولة إسرائيل ذات الوجه الغربيّ. وبهذا تمكّن الشاطر اللبنانيّ من أن يؤكّد شطارته التي لا يُمارى فيها. وبعد سنوات، تجرّأ لبنانيّون على أن يقدّموا نموذجهم الذي سمّوه «عيشاً مشتركاً»، بديلاً عن النموذج الصهيونيّ لإسرائيل.

يومذاك كان التأمّل ممكناً ونقاش التأمّلات ممكناً أيضاً، تماماً كما كانت الشطارة. وبرغم النكبة، ثمّ الانقلابات العسكريّة التي راحت منذ 1949 تضرب الجوار السوريّ، ومحاولة انقلاب فولكلوريّة نفّذها أنطون سعادة، «زعيم» القوميّين السوريّين، وأُعدم بنتيجتها، لم يعرف لبنان، في 1952، أكثر من «ثورة بيضاء» أطاحت ببشارة الخوري وعهده. وهذه كانت أشبه بمشاجرة قرويّة أو مباراة زجليّة، اندرجت في تاريخ من العراضات التي كانت تنتهي بتبويس اللحى، وباكتشاف أنّنا أخوة متحابّون.

وظلّ ممكناً، حتّى أواسط الخمسينات، الحفاظ على طريقة الحياة هذه. وكان ما يسهّل الأمر أنّ الأنظمة العربيّة، ما قبل الانقلابات، شابهت نظام لبنان. فهي أيضاً حرصت على علاقة جيّدة مع الدول الغربيّة، وأبقت على الإدارة والتعليم كما أنشأهما الاستعمار الغربيّ، كما أقدمت على محاولات تجريبٍ في البرلمانيّة شابتْها، كما كلّ المحاولات الأولى، شوائب ونواقص.

ولأنّهم رأوا البلد رائقاً ومُطَمْئناً، التحم به المسيحيّون الذين أسّسوه التحاماً صوفيّاً. فهو عندهم ليس وطناً فحسب، بل هو البيت والجبل والبحر، وهو عصارة الكون و«أرز الربّ» الذي لا يكون الشاعر شاعراً إن لم يكتب نصف شعره عنه، ولا يكون المغنّي مغنّياً إن لم يُغنّ له. هكذا رُفعت الوطنيّة إلى ديانة متعالية ومطلقة تطالب بالموافقة على كلّ حرف فيها. أمّا الذي يشكّك بهذه الفهم للوطنيّة فجرى التشكيك بلبنانيّته نفسها. وفي المقابل، حافظ المسلمون على مسافتهم الهادئة التي تفضّل أن يكون الوطن جواز سفر وفرصة عمل وعلاقة جوار ولا تستسيغ رومنطيقيّة الريف وهذا الاحتفال الدائم بالنفس. والمسافة تلك كان يمكنها، لو اختلفت الظروف، أن تعقلن الوطنيّة اللبنانيّة وتثبّتها على سكّة أكثر دستوريّة وديمقراطيّة، بيد أنّ أواسط الخمسينات راحت تدفع في اتّجاهات أخرى.

فمع تمكين جمال عبد الناصر قبضته في مصر، نشأ قاموس سياسيّ جديد في المنطقة مفرداته الثورة والتحرير ومكافحة الاستعمار وتخوين «أعوان الاستعمار» والتحريض على إسقاطهم، وهذا فضلاً عن تعطيل الأحزاب السياسيّة وتأميم الصحافة وتدجين النقابات وهروب الرساميل. لقد استقرّت الرئاسة والزعامة في يد ضابط، وفي 1956 تحديداً، مع «حرب السويس» أو «العدوان الثلاثيّ»، انهالت على ذاك الضابط أوصاف هي غالباً ممّا يُمنح للأنبياء والرسل.

جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، معمر القذافي والملك حسین في القاهرة عام 1970 (غيتي)

هكذا راح يتبدّى كأنّ الحياة اللبنانيّة، كما رسمها القاموس السائد، هي في أحسن أحوالها نعيم مضجر لا يطاق، وفي أسوأها هروب جبان من صناعة الأقدار والمصائر الملحميّة. فالمنطقة باتت تنتج العداوات وتستهلكها بنهم وشراهة، فتطرد أفكار التوافق والتسوية، فيما هي تغلق البرلمانات تباعاً، ولا ترى طريقاً إلى المستقبل غير نكء جراح الماضي. وبات لبنان مطالَباً بأن يكون له موقف: فبدعوة من رئيس الجمهوريّة كميل شمعون، عُقدت في بيروت قمّة للتضامن مع مصر، وأكّد بيان القمّة الختاميّ على «مناصرة مصر ضدّ العدوان الثلاثيّ (...) واعتبار سيادة مصر أساس حلّ قضيّة السويس، وتأييد نضال الشعب الجزائريّ من أجل الاستقلال». لكنّ عبد الناصر أراد أكثر كثيراً، فطلب من الحكومة اللبنانيّة قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا. وكان طبيعيّاً أن يرفض شمعون طلباً كهذا. فهو، من جهة، يقطع بعض الشرايين الأساسيّة لبلد ناشئ يرى أنّ علاقته بالغرب شرط شارط لازدهاره ولتعليمه. وهو، من جهة أخرى، يغيّر معنى لبنان كما رسمه «الآباء المؤسّسون». وعلى عكس ما أشيع، لم يكن في ذلك شيء من «الانعزال عن العرب»، إذ الأكثريّة الساحقة من الحكّام العرب كانت ترى ما رآه شمعون، وتتخوّف من «المارد الأسمر» مثلما تخوّف.

لكنّ الأمر لم يقتصر على حاكم مصر العسكريّ. فيومها كان الاتّحاد السوفياتيّ ما بعد الستالينيّ، والضالع في حرب باردة مع الغرب، يتقدّم من الشرق الأوسط، وكانت سوريّا، التي تحدّ لبنان من الشمال والشرق، تخضع لحكم ضبّاط يختبئون خلف واجهة مدنيّة. وكان هؤلاء الضبّاط، من ذوي الميول القوميّة العربيّة والبعثيّة، قد سحقوا خصومهم من «حزب الشعب» والقوميّين السوريّين وشرعوا يدفعون بلدهم نحو وحدة اندماجيّة مع مصر الناصريّة. وفي المعمعة هذه بدأت إعادة تأسيس القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة لا تُعالَج بالهدنة والسياسة والوساطات الدوليّة، بل بتحريرٍ يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 1948. هكذا ارتسمت العداوة، التي حرص لبنان على تجنّبها، قدراً لا سبيل إلى تجنّبه، ولا تستطيع الشطارة تذليله.

عودة المكبوت

وكانت قضيّة فلسطين بالطريقة التي صارت تُطرح فيها أشبه بعودة المكبوت وهو جريح مُدمّى. فالفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم وبيوتهم، وفي عدادهم مائة ألف نزحوا من الجليل إلى لبنان، وجدوا في عبد الناصر وإذاعة «صوت العرب» ما يغريهم بالعودة والتحرير، ويقنعهم بانسداد طرق السياسة والتسويات. وفي لبنان استيقظ مكبوت آخر هو تاريخ البلد نفسه، إذ صار إنشاء «لبنان الكبير» في 1920 قابلاً لإعادة النظر. فهو ضمّ، في الأطراف، أكثريّات إسلاميّة مشدودة اقتصاديّاً وقرابيّاً وعاطفيّاً إلى سوريّا وفلسطين، لكنّ الأطراف هذه وُحّدت مع ما كان متصرفيّة جبل لبنان ذات اللون المسيحيّ الطاغي. وفي ظلّ توازنات القوى الجديدة، من تحوّلات الديموغرافيا اللبنانيّة إلى الصعود الناصريّ، لم يعد مقبولاً ما بدا مقبولاً على مضض صامت في زمن أسبق. فالسياسة الموصوفة بممالأة الغرب وبمناوأة عبد الناصر، والنظام الرئاسيّ، خصوصاً وقد زوّر انتخابات 1957 وأسقط معظم القادة المسلمين لتعاطفهم مع الزعيم المصريّ، باتا عبئاً على استمرار النظام. وفي 1958، وبعد شهرين على قيام الوحدة المصريّة السوريّة، انفجرت حرب أهليّة طائفيّة كانت تمريناً أوّليّاً على حروب أشدّ شراسة سوف تلي. هكذا بدا أنّ يقظة القديم المسكوت عنه لا تأتي إلاّ على شكل حرب.

مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في سبتمبر (أيلول) 1984 (غيتي)

وفي تسوية أميركيّة - مصريّة، جيء بفؤاد شهاب رئيساً موصوفاً بالقدرة على توحيد لبنان. فهو، وإن كان مارونيّاً لا يرقى الشكّ إلى مارونيّته، لم يزجّ الجيش، بوصفه قائداً له، في مواجهة 1958. لكنّ نجاح تجربة الإصلاح الشهابيّ استدعت ربط السياسة الخارجيّة للبنان بالقاهرة، وأُحكمت السيطرة على الإعلام اللبنانيّ. كذلك زُوّرت انتخابات 1964 مثلما زُوّرت انتخابات 1957 إنّما على نحو معكوس، فأُسقط كميل شمعون وريمون إدّه، ومُنح جهاز «الشعبة الثانية» صلاحيّات يصعب تبريرها في نظام برلمانيّ. وما كادت تنتهي التجربة الشهابيّة، في النصف الثاني من عهد شارل حلو، حتّى انشقّ اللبنانيّون من حول المقاومة الفلسطينيّة الناشئة للتوّ، ووجدنا أنفسنا على أبواب حرب لن تلبث أن تندلع.

في تلك الغضون حاول الرحابنة وفيروز إقناعنا بأنّ مشاكلنا بسيطة، ناجمة عن سوء فهم وقابلةٌ لأن تُحلّ بالتفهّم والمحبّة، على غرار ما يحصل في القرى برعاية الشاويش والمختار. إلا أنّ الأعرف بيننا شرعت تُضحكهم تلك النهايات السعيدة. ذاك أنّ قاموسين مكتملين ارتسما في الأفق يتجاوزان الانقسام الحاصل ما بين تأييد الجيش وتأييد الفدائيّين الفلسطينيّين. فالقاموس الأوّل تعامل مع لبنان بوصفه بلداً ناجزاً، لا ينقصه إلاّ بعض الإصلاح، وكان أصحاب هذا القاموس يستوحون بلدان أوروبا المستقرّة نموذجاً لهم. أمّا القاموس الثاني فاعتبره بلداً فادح النقص ينبغي أن يعاد تأسيسه من صفر، وأصحابُ هذا القاموس كانوا يجدون نماذجهم في بلدان «العالم الثالث» المندرجة حينذاك في مكافحة الاستعمار. والقاموس الأوّل ظلّ، رغم كلّ شيء، يرسمه بلداً رائعاً أنجز تحرّره ولم يعد بحاجة لأن يحارب ويقاتل لأنّ تاريخ الآلام بات وراءه، فيما كان القاموس الثاني يرسمه بلداً شنيعاً وكريهاً لا يزال عليه أن يجتاز شوط التحرّر الطويل. أمّا الحروب والعذابات فإنّما تبدأ للتوّ، وهي ستكون هذه المرّة أكبر من أيّ وقت سابق. والأسوأ أنّ ما ظنّه أهل القاموس الأوّل أدوات تحرّر، كالجامعة والمصرف، كان بالضبط ما ظنّه أهل القاموس الثاني أدوات استعبادٍ تُعزّز ربطنا بـ«الإمبرياليّة والاستعمار والرجعيّة العربيّة». وهم اقترحوا علينا، بعد أن نطلّق هؤلاء كلّهم، نماذج بديلة كسوريّا والعراق البعثيّين واليمن الجنوبيّ المتمركس والبلدان الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة. وعلى العموم، أصبحنا مثل رجل مصاب بمرضين، واحدٍ يُعالَج بالإكثار من تناول المسكّنات والآخر يُعالَج بالامتناع عن تناولها.

وفي أواسط السبعينات شرعنا نتحرّر، فإذا بها حرب أهليّة متمادية وضروس، صبغتْها المجازر وتطهير المناطق أو تطهّرها من المختلفين، وهذا ناهيك عن تعطيل الدولة وشيوع الميليشيات ممّا راح يتعاظم مذّاك. وفي آخر المطاف تأدّى عن ذلك اجتياح 1982 الإسرائيليّ، فلم يتحرّر اللبنانيّون ولا انتصر الفلسطينيّون.

سيدة لبنانية تطلب النجدة لزوجها الذي سقط جريحاً في اشتباكات ببيروت (غيتي)

أمّا دعاة الحلّ عبر انتصار كاسح يحتمي بالغزو الإسرائيليّ فرأوا أنّ رئاسة بشير الجميّل تطوي صفحة الماضي. هكذا رُفض كميل شمعون أو بيار الجميّل كمرشّحين للرئاسة، وهما مَن هما في التصلّب المسيحيّ، ولم يعد مقبولاً في موقع الرئاسة إلاّ رمز التحدّي وقائد الميليشيا بشير الجميّل. فالردّ على ما اعتبره أغلب المسيحيّين خيانة المسلمين بانحيازهم إلى المقاومة الفلسطينيّة واعتبارها جيشهم لا يكون إلا ببشير. لكنّ الأخير اغتيل قبل وصوله إلى قصره، ثمّ كانت حرب الجبل وحرب المخيّمات وحرب الإلغاء وحرب التحرير، وراحت الكراهية، في وداع متعدّد الفصول للبنان القديم، تشقّ طريقها من الأجسام الاجتماعيّة الأكبر إلى الأجسام النواتيّة الأصغر.

والحال أنّ لبنان القديم لم يكن سيّئاً، وهو قطعاً كان أفضل الموجود في الشرق الأوسط. صحيح أنّ القصور والخطأ لازماه لكنّ النجاحات التي لازمته كانت أكبر. فهنا، وبفعل الحرّيّة المتاحة، كان التاريخ يتحوّل ويفتح باباً للاحتمال، وخلال سنوات قليلة من عمر الاستقلال تمدّدت الرأسماليّة من المركز إلى الأطراف، واشتدّ عود الطبقة الوسطى، وحصل اللبنانيّون على تعليم جيّد جعلهم شعباً مؤهّلاً لكثير من الأدوار والوظائف في داخل بلدهم وفي خارجه، كما اتّسع نطاق العمل الحزبيّ والنقابيّ مثلما اتّسعت رقعة الإعلام وما يمارسه من نفوذ. وهذا جميعاً لم يترافق مع ظهور ديكتاتور أو آيديولوجيا رسميّة تقول للسكّان: هكذا كونوا ولا تكونوا هكذا.

عبادة الأسد ونصر الله

لكنْ إبّان الحرب المديدة التي كسرت لبنان القديم جدّ عاملان شدّانا من شَعرنا إلى الانحطاط وكان لهما دور بارز في تأسيس الجمهوريّة الثانية. فقبل الغزو الإسرائيليّ وبعده، فرض نظام الوصاية، وعلى نحو غير مسبوق في لبنان، آيديولوجيا رسميّة على لبنانيّين كانوا قبلذاك أحراراً. هكذا لم يعد مقبولاً أن نفكّر ونناقش ونستنتج في ما يخصّ «عروبة لبنان» أو «قداسة المقاومة». وكان من نتائج التحوّل هذا انكماش الفضاء العامّ وازدهار التلقين والتخوين والتشهير في التعامل مع الرأي الآخر، تماماً كما هي الحال في الأنظمة الديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة المؤسّسة على العداء والكراهية.

ومنذ ذلك الحين راحت تتزايد المقدّسات في حياتنا كما تتزايد المدنّسات. وكانت ثنائيّة المقدّس والمدنّس، وهي دوماً طريق إلى العنف والعداوة، تمهيداً لعبادة أولياء صالحين كان أبرزهم حافظ الأسد ومن بعده حسن نصر الله. وراح يتبدّى بجلاء، وعلى عكس الحكمة الشائعة، أنّ الجمع مستحيل بين أن تكون مقاوماً وأن تكون حرّاً يقتل نفسه فدى لحذاء زعيم. وهذا، بطبيعة الحال، جاء مصحوباً بفقر أكبر وتعليم أسوأ وهجرات شبابيّة إلى سائر أرجاء المعمورة.

أمّا العامل الآخر فكان الثورة الإيرانيّة، أعظم الكوارث التي شهدتها منطقتنا في تاريخها الحديث. فمعها لم تعد العداوة والعنف يستهدفان طرفاً في حاضرنا، بل باتا يدفعاننا عميقاً في الماضي إلى يزيد بن معاوية والحسين بن عليّ. فكأنّما العداوة أصل أصيل في البشر ما إن يبرأوا منه حتّى يبرأوا من بشريّتهم. وبعدما كان عيب الثورات إصرارها على فرض التنوير دونما اكتراث بالواقع، بات عيب هذه الثورة إصرارها على رفض التنوير من أساسه.

عرض لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت نهاية 1989 في الذكرى الأولى لأول عملية انتحارية ضد جنود إسرائيليين في بلدة كفركلا (غيتي)

وعن الرعايتين السوريّة والإيرانيّة، وفي ظلّ تردّي الجسد اللبنانيّ المنهك بحروبه، انتهت السياسة، فرمزَ إلى نهايتها الطاقم الذي تولّى الحكم متوّجاً بالرئيس إميل لحّود، الموظّف المطواع لدى المتحكّمين في دمشق وطهران. أمّا الثمرة الأكبر التي نجمت عن زواج الرعايتين هاتين فكان «حزب الله» الذي استثني من حلّ الميليشيات، كما قضى به اتّفاق الطائف، بذريعة الاحتلال الإسرائيليّ ومقاومته.

لكنّ زوال الاحتلال في 2000 لم يُنه السلاح الذي ازداد افتتاناً بذاته، وفي حرب 2006 أضاف العرب إلى افتتانه بنفسه افتتانهم به، إذ، كما قيل، صمد وقاتل وهزم إسرائيل. وما لبث هذا الحزب، بعد عامين فحسب، أن وضع يده على بيروت بعدما غزاها وأذلّها. وعلى مدى تلك المرحلة التي جعلت لبنان ملحقاً بـ«حزب الله»، راح يهطل علينا القتل والقتال والشهادة والشهداء بوصفهم الصناعة الحصريّة للبنان، وانقسم المواطنون إلى واحد يحمي وآخر يُحمى، وهما كانا ينقلبان، حين تستدعي الظروف، إلى واحد يهدِّد وبيده السلاح، وآخر منزوع السلاح يُهدَّد وليس له إلا الله. والحقّ أنّ الصناعة الإيرانيّة - السوريّة، وبالاستفادة من التصدّع اللبنانيّ لما بعد الحرب، نجحت في جعل الوحش أكبر من الغرفة التي يقيم فيها، بحيث غدا تهديم الغرفة شرطاً لقتل الوحش.

وإذ أصبح اكتساب الأصدقاء وبناء الجسور تهمة، غدت أعمال التفجير والاغتيال والخطف رياضة يوميّة. وحتّى لو وضعنا جانباً تلك الارتكابات التي طالت لبنانيّين وأجانب، وكانت بمثابة حرب تطهيرٍ للبنانيّة المعروفة، بقي اغتيال رفيق الحريري في 2005 والاغتيالات اللاحقة لسياسيّين وصحافيّين شهادةً على أنّ الوطن الواحد صار مهمّة صعبة، إذ انشطر السكّان إلى قاتل وقتيل.

وفيما توطّد نظام تقسيم العمل بين المقاومة والفساد، شاعت لدى بعض اللبنانيّين لغة ورواية للتاريخ مزعومتان لا تنطويان إلاّ على الضدّيّة وتمجيد العنف. فنحن منذ كنّا، وبغضّ النظر عمّا نفعل، مُستهدَفون بالأطماع، وليس متاحاً لنا إلاّ القتال حتّى نهاية العالم، وأمّا الكرامة فلا تُكتسب بالعلم أو التقدّم أو الإنجاز، بل هي تعريف أن نقاتل إسرائيل. وهذا، في عمومه، كان برنامجاً لتصغير العقل وشفط المعرفة وتلغيز العالم.

وبدوره جاء صعود ميشال عون في الوسط المسيحيّ ليعلن تمكّن السمّ من المسيحيّين. فهم تصرّفوا كالعامل الذي يضطهده ربّ عمله فيفجّر غضبه انتقاماً من زوجته ومن أبنائه. هكذا حاولت العدوانيّة العونيّة، المغطّاة بكثير من الزجل، أن توهمنا بأنّ الالتحاق بـ«حزب الله» هو وحدة بين أنداد متساوين يخوضون معاً حرب الأقلّيّات. ولاحقاً، إبّان حرب «حزب الله» في سوريّا، حاول الطرفان إيهامنا بأنّنا ننتقل من سويّة التحرّر الذي أنجزناه إلى سويّة التحرير الذي ننخرط فيه. فبدل التوقّف لمراجعة الأكلاف الهائلة التي رتّبها علينا «التحرّر» منذ ابتدائه في 1975 حتّى تصاعده النوعيّ مع «حزب الله»، هربنا إلى «التحرير» عبر احتلال جزء من سوريّا وقتل السوريّين وتهجيرهم.

امرأة تحمل صورة لأمين عام «حزب الله» وتعبر بها وسط الدمار في بلدة عيتا الشعب بجنوب لبنان (أ.ب)

وأن تسيطر إيران، من خلال «حزب الله»، على قرارات البلد الأساسيّة فهذا متعدّد الأبعاد والمعاني، لكنّ المعنى الذي يهمّنا هنا هو أنّ العداوة والضدّيّة والعنف باتت عنواناً لحياتنا العامّة، حيث «الموت عادة» و«كلّ يوم كربلاء وكلّ أرض عاشوراء».

وإذ وفّرت حرب غزّة مسرحاً نموذجيّاً للعيش وفق القتال، بات واضحاً أنّ الخيارين اللبنانيّين وصلا إلى نقطة اللاعودة، وأنّه بات من المشكوك فيه أن يتصالح هذان التصوّران عن لبنان وعن العيش فيه حتّى لو هبّت رياح إقليميّة ودوليّة لغير صالح الحزب المسلّح.

صحيح أنّ هذا التناول لم يتوقّف عند أخطاء كثيرة ارتكبها الجميع، وارتكبتها الطوائف كلّها، والحكّام جميعاً، أكان في إدارة البلد أو في اقتصاده أو تعليمه أو غير ذلك. لكنّ هذه العوامل، على أهميّتها، لم تكن سبب تفجيره وجعله مستحيلاً. فأغلب الظنّ أنّ المشكلة الأمّ تكمن في السؤال: أيّ لبنان نريد؟ وهل نغلّب الصداقة أو نغلّب العداوة؟ فاللبنانيّون لم يتّفقوا في الأساسيّات، وكلُّ ما يلوح في الأفق يوحي أنّ عدم اتّفاقهم سيكبر ويتعاظم. وهذا ما يُلزمهم، أو يُفترض أن يلزمهم، بالتفكير في عدم اتّفاقهم وفي تحويله إلى نظام وإلى مؤسّسة يحلّان محلّ الفوضى المشبعة باحتمالات العنف الخصبة. والأسرع الأفضل، كي لا تنتهي بنا الحال إلى ما انتهت بـ«الحمار الفلسفيّ» الذي كتب عنه فيلسوف القرن الرابع عشر الفرنسيّ جون بوريدان. ذاك أنّ حماراً ضربه الجوع والعطش وجد نفسه في النقطة الوسطى بين كومة قشّ وسطل ماء، فراح يفكّر: هل أشرب أوّلاً أو آكل أوّلاً؟ وظلّ يطرح هذا السؤال على نفسه إلى أن مات جائعاً وعطشاناً معاً.

* ألقي هذا النصّ في ندوة استضافها «حزب الكتلة الوطنيّة» في لبنان.