دينان وحضارتان... لحظات فراق وعوامل ابتعاد

تحضرني مقولة النجاشي ملك الحبشة لعمرو بن العاص عندما حاول استرجاع المهاجرين المسلمين الفارين من بطش قريش، والتي قال فيها بعد أن استمع إلى سورة مريم ورفض تسليمهم «إن هذا (أي القرآن) والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة»، وقد جاءت هذه المقولة لتضع حقيقة أساسية نؤمن بها ضمناً بشكل قد لا نكون على دراية بتبعاته، فقد ثبَّت الرجل مفهوم «الديانات السماوية» أو أهل الكتاب، أي اليهودية والمسيحية رغم عدم اعتراف اليهودية بالمسيحية والاثنين بالإسلام، ففي النهاية هي أديان سماوية لها نفس الأسس في الأغلب الأعم، ولو بأشكال مختلفة وتحض على الإيمان والفضيلة والخير، ومع ذلك نرى بعض مفكري الغرب يدعون لحتمية الصراع الحضاري بل والأممي بين الغرب بنسيجه المسيحي والعالم الإسلامي بأسسه العقائدية الثابتة، وهنا يبرز سؤال منطقي يهدف لتحديد الأسباب المؤدية للفجوة بين الضوئين الخارجين من «المشكاة» الواحدة، وتقديري أن الإجابة على هذا السؤال تكون شبه مستحيلة لتعدد العوامل وامتداد الزمن، ولكن لا بأس من طرح بعض الأفكار:
أولاً: أن الديانة اليهودية أتت بتخصيص إثني واضح فهي لقوم بني إسرائيل بعينهم، بينما تحولت المسيحية في مطلعها من كونها موجهة لليهود فقط إتباعاً لمقولة السيد المسيح عليه السلام «لَمْ أرسل إِلاَّ إلى خِرَافِ بَيْتِ إسرائيل الضَّالَّةِ» لتصبح للعامة أو «الأمميين Gentiles» بقرار من الرُسل من بعده، وذلك على حين جاء الإسلام منذ مهبط الوحي لعامة البشر، وذلك رغم سياسات بعض الخلفاء التي أدت إلى التفرقة الإثنية فيما عُرف بقضية الموالي فيما بعد.
ثانياً: تعد «قضية التوحيد» أحد أهم القضايا التي ولدَّت الفرقة بين الديانتين، خاصة بعد تطور قانون الإيمان المسيحي وتثبيته في «مجمع نيقيه» في 325 م. وقد جاء موقف القرآن واضحاً في هذا الصدد، ولكن تعاملات الكيانات الشعبية والسياسية المتوالية لمعتنقي الديانتين شابها ما يمكن تسميته «بالغصة الإيمانية» بسبب هذه القضية، فبدلاً من التركيز على القواسم المشتركة للديانتين نجد الهوة تتسع مع التطور التاريخي والفكري والتفاعل السياسي بين الشعوب والكيانات المُمثلة للديانتين فيما أغامر وأسميه «بالوسواس القهري التاريخي»، أي الرغبة الملحة والمستمرة للتركيز على الاختلاف والذي كثيراً ما يؤدي للفرقة والعداء عند استفحاله لدى العقل الجمعي، خاصة إذا ما امتزج بالدوافع السياسية والجهل والتعصب.
ثالثاً: لا خلاف على تأثير التطور الفكري للعقيدتين على بعضهما بعضاً، فالطبيعي أن تكون هناك حركة تبادلية بل قد تتحول لجدلية بين الثقافتين المعتمدتين على أسس دينية متقاربة للغاية، فهناك قضايا مشتركة مثل التخيير والتسيير على سبيل المثال والتي استعارها المسلمون من فكر «القديس أغسطس» خاصة فرقتي الجبرية والمعتزلة، كما أن كتب ابن رشد من ناحية أخرى تعتبر الجسر الفكري للمنظومة المسيحية المحدثة والتي بدأت على أيدي مفكري الكنيسة في القرون الوسطى على رأسهم «توما الأكويني Aquinas»، ومع ذلك، بل والأهم، لم تستطع الحضارتان مد جسر التوفيق لاختلاف التجربة التاريخية والثقافية والسياسية بين الكيانات الغربية بأشكالها المختلفة والشرقية ممثلة في منظومة الخلافة والدول الإسلامية المتعاقبة، وهو ما سنخصص له المقال المقبل، ولكن يكفينا هنا التأكيد على أنه في الوقت الذي انغمس فيه العالم الإسلامي بكياناته السياسية المختلفة في حوارات العقل والنقل والقضايا المشابهة، إلا أنه تمتع لفترة طويلة بنوع من المركزية السياسية سمحتا بنوع من «استقرار نسبي» فتح المجال بدوره لازدهار تيارات ثقافية وحركات فكرية وميلاد عظماء من العلماء في شتى المجالات حتى مرحلة الاضمحلال والتفتت السياسي والحضاري، وهو ما لم يحدث في المسيحية بنفس الشكل، مما أدى إلى بزوغ نجم الثقافة والحضارة الإسلامية وأفول الغرب تحت القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية لحين ظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر.
رابعاً: إن التجربة السياسية بين الديانتين مختلفة تمام الاختلاف، فقد اختلت في الغرب المعادلة بين السلطتين الإكليريكية ممثلة في الكنيسة الكاثوليكية والسلطة الزمنية ممثلة في الملوك والأمراء مما أدى للصراع وخوض غمار حروب دينية تختلف في الشكل والمضمون عن الحروب الداخلية في مؤسسة الخلافة أو الدول الإسلامية المتعاقبة، وقد فتح التخلص السياسي من السلطوية الإكليريكية في أوروبا انتشار الحركات الفكرية والفلسفية والثقافية والتي ولدَّت بطبيعة الحال حركات أخذت الغرب لمنحى حضاري متقدم ومزدهر في الوقت الذي بركت فيه الخلافة العثمانية على الجسد الإسلامي / العربي الواهن تخنقه بمركزية وعزلة متعمدة وسوء إدارة ممتدة لقرون لتجعل هذه الشعوب تستيقظ على فاجعة هوة ثقافية وحضارية وتكنولوجية بينها وبين الغرب، مما دفع نحو ظهور حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر كما سنرى.
هذه مجرد رؤوس موضوعات تحتاج لدراسات ممتدة ومتعمقة أدت إلى اتباع منهجين حضاريين مختلفين لعقيدتين خرجتا من «مشكاة» واحدة كما قال النجاشي، ولكنها كانت كافية مع قوة عامل الزمن وغيره لخلق الفجوة بيننا والغرب، وذلك مع وجود صراع دفين تزكيه حركات فكرية و«شوفينية ثقافية» ومصالح سياسية ممتدة في الغرب ليستيقظ العالم الإسلامي/ العربي على غمار صراع فكري - غير مبرر من وجهة نظري - منذ القرن التاسع عشر بين التقدم مثلما يحدث في الغرب وثوابت الإيمان عندنا، زاد في شراسته بُعد العولمة ليتحول لأزمة هوية لدى البعض أمام الهيمنة الغربية على وسائل الاتصالات والفكر.