«البحر الميت»... طينه يحمل الشفاء وشاطئه يهدّئ الأعصاب

أخفض نقطة على الكرة الأرضية يجد فيها السائح كل وسائل الاستجمام والعلاج

«البحر الميت»... طينه يحمل الشفاء وشاطئه يهدّئ الأعصاب
TT

«البحر الميت»... طينه يحمل الشفاء وشاطئه يهدّئ الأعصاب

«البحر الميت»... طينه يحمل الشفاء وشاطئه يهدّئ الأعصاب

عمّان. مركز الأردن الرئيسي. شوارعها مزدحمة ومحالها مكتظة وسكانها يتضاعفون. رغم تميز العاصمة الأردنية، فإن الهدوء والسكينة ليسا من مواصفاتها. لذلك؛ يختار سكانها وزوارها الهرب من حيويتها أحياناً طلباً للاسترخاء. رحلة نصف ساعة بالسيارة ستقضي بالغرض. مسافة نحو 50 كيلومتراً تفصلهم عن واحة هادئة فريدة من نوعها... البحر الميت. هذا المعلم ليس غريباً على الناس، فكلما بحثوا عن صور للأردن ظهرت لهم لقطة شهيرة لرجل يطوف على سطح البحر ويطالع الجريدة من دون أي جهد وارتباك. البحر الميت أعجوبة طبيعية وجوهرة بصرية. مياهه وطينه يحملان الشفاء، وشاطئه يهدئ الأعصاب.
يعتبر البحر الميت أخفض بقعة على الأرض، 430 متراً تحت سطح البحر. وبين سلسلتين جبليتين عند وادي الأردن تشكل في قلبها البحر الميت الذي كان يمتد في الأصل على طول 360 كيلومتراً من العقبة (جنوب الأردن) إلى بحيرة طبريا (شمال). يعتبر هذا الوادي بأرضه الخصبة ومناخه الدافئ، والبحر الميت بمياهه العلاجية مركزاً جاذباً للسكان عبر التاريخ. شهد الوادي على مدار السنين الكثير من الحضارات التي تعود إلى عصور قديمة. تم الكشف في هذا المكان عن أكثر من 200 موقع إثري حتى اليوم.
رغم أنه يتغذى من مياه نهر الأردن العذبة، فإن البحر الميت، وهو بحيرة بالأصح، يتسم بمياه شديدة الملوحة؛ ما يمنع الحياة المائية فيه، ويتيح لمن يحاول السباحة فيه أن يطوف إلى سطحه من دون أي جهد. سُمي بالميت لتعذر وجود الكائنات الحية فيه، إلا أنه بحر حي وغني بالأملاح والمعادن التي تشكل ثروة بالإمكان استخدامها في مجالات صناعية وطبية عدة.
لهذا؛ ليس غريباً أن يُعتبر المنتجع قبلة الباحثين عن الهدوء والجمال والعلاج منذ فجر التاريخ. فقد زارته شخصيات تاريخية شهيرة كهيرودس العظيم وكيلوباترا، وهلم جراً من السلاطين والحكام والملوك.
- متحف وإطلالة
افتتح متحف البحر الميت عام 2006 ليكون متحفاً تاريخياً طبيعياً يسلط الضوء على قصة البحر الميت منذ ولادته، بما فيها مخاطر الجفاف. يتربع المشروع على أرض واسعة تُطل من أعلى تلة، على البحر الميت. وقد سميت هذه الإطلالة «بانوراما»؛ لما توفره من منظر رائع من كل الاتجاهات. ويتوفر المتحف على خريطة تكشف مسافات واتجاهات المدن الأردنية والفلسطينية المجاورة كالعقبة، والبتراء، وجرش، والكركـ وبيت لحم، والخليل والقدس.
أما المتحف نفسه، فبني على الطراز المعماري العربي الأصيل، ويشمل أربعة أقسام، الأول يوضح نشأة وجيولوجيا البحر وما نتج من حركة الصفائح الأرضية، إلى جانب عرض معادن وصخور موجودة في المنطقة المحيطة. الثاني يعرض خصائص النظام البيئي للمنطقة بما فيها النباتات التي تعيش في محيطها. أما الثالث فيكشف علاقة الإنسان بالمنطقة منذ الأزل إلى جانب عرض منتجات البحر الميت وفوائدها. القسم الرابع والأخير، يعكس حال البحر الميت اليوم في ظل ظواهر تهدده ومقترحات للحفاظ عليه من الجفاف والزوال.
المشروع مزود أيضاً بمسرح خارجي صغير محاط بحديقة نخيل وزهور تتلاءم مع طبيعة المنطقة. كما يضم مطعماً لبنانياً يطل على البحر.
- مشاهير ومؤتمرات عالمية
البحر الميت وجهة تجذب مشاهير العرب والعالم. يرونها بقعة للانعزال عن العالم لبضعة أيام والاسترخاء لهدوئها وجمالها. منهم على سبيل المثال المغنية الصغيرة حلا الترك التي شاركت متابعيها على «سنابشات» تفاصيل إقامتها هناك، والمغنية الأميركية الشهيرة بولا عبدول التي تناقلت وسائل الإعلام تفاصيل إجازتها أيضاً. كما تحولت الوجهة إلى موقع مثالي لإقامة حفلات الخطبة والزواج على شاطئ البحر في الفنادق الفاخرة.
وبعيداً عن الحفلات الغنائية وزيارات مشاهير عالم الفن والغناء والسينما، يستقطب البحر الميت نوعاً آخر من المؤثرين والمشاهير؛ أعلام عالم السياسة والاقتصاد وصناع القرار عربياً وعالمياً. السبب وراء ذلك يعود إلى افتتاح مركز الملك الحسين بن طلال الراحل للمؤتمرات عام 2005. المركز يقع على الضفة الشرقية من البحر الميت، ويتميز بطرازه المعماري الفريد الذي يمزج بين فن العمارة الإسلامية وطراز البناء الحديث، كما تحاكي حجارته وجدرانه، بتركيبتها وألوانها، البيئة الأردنية المحيطة.
- أماكن مجاورة
منطقة البحر الميت محاطة بمواقع مميزة بطبيعتها وآثارها. رحلة قصيرة لا تتعدى الساعة من هناك ستصحبك إلى معالم يجب على كل زائر للأردن استكشافها.
- حمامات ماعين
تقع على مسافة عشرين كيلومتراً من منتجعات البحر الميت. سميت بهذا الاسم لكثرة ينابيع المياه فيها. فعددها يزيد على ستين من جبال ماعين باتجاه البحر الميت، ثم تتجمع في شلالات من أعلى قمم الجبال. إلى جانب المنظر الطبيعي الخلاب، تحتوي مياه الينابيع على عناصر معدنية مثل الكالسيوم والصوديوم؛ ما يجعلها مقصداً للسياحة العلاجية والاستجمامية. تتميز مياه الينابيع المعدنية بحرارتها أيضاً، وتعتبر هاتان الخاصيتان مثاليتين لمن يعانون أمراضاً مزمنة، مثل الروماتيزم وآلام المفاصل، ودوالي القدمين، وآلام العضلات والظهر. كما تساعد في تنشيط الدورة الدموية والشفاء من الأمراض والطفح الجلدي وتهدئة الأعصاب. استنشاق الأبخرة المتصاعدة من الينابيع الحارة يساعد أيضاً على تخفيف احتقان الجيوب الأنفية، والتخلص من الأمراض الصدرية. المنطقة توفر دخولاً لاستمتاع بالينابيع العامة، لكن منتجع «الينابيع الساخنة» الذي يقع مباشرة تحت شلال المياه الحارة يوفر تجربة متكاملة وإقامة فاخرة للنزلاء. يضم المنتج المصمم على طراز الواحة مسبحاً خارجياً، ومنتجعاً صحياً إلى جانب مطعم عصري وآخر تقليدي يقدم وجبة «الزرب» الأردنية التقليدية في خيمة بدوية. كما يوفر خدمات نقل يومية إلى البحر الميت.
- محمية الموجب
رحلة بالسيارة لا تتعدى عشرين دقيقة تصحب زائر البحر الميت إلى محمية الموجب. سميت بهذا الاسم بسبب مرور وادي الموجب الشهير في الجزء الجنوبي منها. تبلغ مساحتها نحو 212 كيلومتراً مربعاً، وتمتد نحو 24 كيلومتراً على شاطئ البحر الميت. جريان المياه بشكل موسمي ودائم في الكثير من الأودية، يدعم نمو النباتات المائية كالأوركيدا في النهر، كما تعطي هذه الأودية المناطق الجافة إمكانية دعم التنوع الرائع من الحياة البرية، فضلاً عن أنها واحدة من المصادر الرئيسية التي تعوّض نسبة التبخر العالية من البحر الميت. فالدراسات تشير إلى أن المحمية تحتوي على أكثر من 550 نوعاً من النباتات، و8 أنواع من الحيوانات آكلة اللحوم، وأنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة، وفق تقرير للجمعية الملكية الأردنية لحماية الطبيعة. كما أن غنى التنوع الحيوي النباتي مرتبط بهذه الأودية، حيث توجد أشجار النخيل، بالإضافة إلى التين البري، وأشجار أثل، وشجيرات الدفلي، والنباتات الجميلة، والنبت المائي على طول ضفاف الأودية. هذا، وتضم المحمية مواقع أثرية ترجع إلى العصور القديمة سواء الرومانية أو الإسلامية. هنا يمكن للسياح القيام بمغامرات وأنشطة عدة، مثل السباحة والتسلق وعبور وادي الموجب بمساراته الضيقة وغيرها.
المغطس
مسافة ٢٠ كيلومتراً تفصل منتجعات البحر الميت عن المغطس الواقع في منطقة وادي الخرار التي سميت قديماً ببيت عنيا، وتبعد مئات الأمتار شرق نهر الأردن على الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة. ونظراً لرمزيته الدينية زاره بابا الفاتيكان بنيدكت السادس عشر خلال زيارته إلى الأراضي المقدسة عام 2009، وقد كشفت الحفريات في المنطقة آثار كنيسة بيزنطية كانت قد بنيت في عهد الإمبراطور آناستاسيوس، كما يوجد في المكان آبار عدة للماء، وبرك يعتقد أن المسيحيين الأوائل استخدموها في طقوس جماعية للعماد. وقد قامت دائرة الآثار العامة بترميم الموقع الذي زاره البابا يوحنا بولس الثاني وأعلنه مكاناً للحج المسيحي في العالم مع أربعة مواقع أخرى في الأردن، هي: قلعة مكاور، جبل نيبو، مزار سيدة الجبل في عنجرة، مزار النبي إيليا في منطقة خربة الوهادنة. وقد جرى اكتشاف دير بيزنطي في موقع تل الخرار، المشار إليه باسم «بيت عنيا عبر الأردن»، ويوجد هذا الموقع على بعد نحو كيلومترين شرقي نهر الأردن في بداية وادي الخرار. وهناك ينابيع طبيعية عدة تشكل بركاً يبدأ منها تدفق الماء إلى وادي الخرار، وتصب في النهاية في نهر الأردن. وكذلك، توجد واحة رعوية تقع في بداية وادي الخرار، أو كما تسمى «تلة إيليا» أو «تلة مار إلياس». كما جرى العثور على مواد أخرى، مثل الخزف، والعملات المعدنية، وبلاط الرخام المستعمل في تبليط الأرضية، وكل هذه تدل على أن الموقع يعود إلى الفترة البيزنطية المتأخرة ما بين القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد.
- تشكيلة فنادق تناسب الجميع
لا تكتمل تجربة الاستمتاع بالبحر الميت ومحيطه من دون قضاء ليلة واحدة على الأقل في أحد الفنادق المطلة على شاطئه، حيث حرص الأردن في السنوات الأخيرة على استقطاب استثمارات لزيادة أعداد الفنادق في البحر الميت لتلائم جميع من يرتاده.
- كمبنسكي عشتار
يقدم 9 مسابح مياه حلوة في الهواء الطلق محاطة بالأشجار ومطلة على البحر الميت. للفندق شاطئه الخاص ومزود بمنتجع علاجي «سبا» يوفر للنزلاء جلسات التدليك والحمام التقليدي. كما يقدم مركزه الرياضي مدربين شخصيين عند الطلب إلى جانب دروس اليوغا والاسترخاء. طابع الفندق رومانسي وهادئ؛ لذا يفضله عادة الأزواج.
- ماريوت وادي الأردن
يقع قبالة الجبال الوعرة، ويمتاز بضمه مسابح مياه حلوة ومالحة وأحواض الجاكوزي. غرفه تصميمها عصري وهادئ، ويطل بعضها مباشرة على البحر. يوفر الفندق المزود بمنتجع صحي علاجات عدة لتجديد الجلد بأملاح وطين البحر الميت. ويمتاز بمطاعمه المتنوعة إلى جانب مقهى يطل على البحر يقدم المشروبات والشيشة حتى ساعة متأخرة؛ ما يجعله مناسباً لمحبي السمر.
- موفنبيك البحر الميت
يتميز بطابعه المعماري العربي وبديكوره التراثي. يوفر الفندق مدخلاً خاصاً إلى الشاطئ ويضم مسابح عدة، منها مسبح لا متناهٍ (إنفينيتي) وآخر شتوي مدفأ. كما يضم نادياً خاصاً بالأطفال. الغرف متناثرة على طابع معمار بيوت الصخر العربية، بعضها يطل على نافورات وحدائق والآخر يطل على المسابح أو على البحر. من أهم مرافقه منتجع صحي يشتمل على غرف بخار وخدمات المساج، وحمامات بالعطور الاستوائية. الفندق مناسب للعائلات.
- هيلتون البحر الميت
يقع على مقربة من المغطس المعمداني، وأكثر ما يميزه شاطئه الخاص الذي يمتد (اصطناعياً) عبر عشرات الأمتار من الشط الأصلي. يضم أيضاً منتجعاً صحياً وسبعة مطاعم من مختلف مطابخ العالم. الفندق مناسب لمحبي الجلوس عند الشاطئ، ولمن يحبون تنويع وجباتهم وتذوق نكهات من مختلف بقاع الأرض.
- فندق البحيرة
المنتجع يقع في الرامة، مسافة 15 دقيقة من البحر الميت. يوفر مرافق رياضية مائية إلى جانب ملاعب خاصة للأطفال، ومنتجع صحي للنساء فقط. الفندق محافظ ومناسب جداً للعائلات المحافظة والنساء المحجبات؛ إذ يوفر لهن حمامات سباحة وأقسامأً خاصة بهن.
- مطاعم على الشاطئ
توفر الفنادق المتعددة في منطقة البحر الميت اختيارات لا تحصى من المطاعم والأطباق المتنوعة، وتفتح أبوابها لغير النزلاء لتناول الوجبات، لمن يحب الخروج من الفندق واستكشاف المطاعم المجاورة. من أجملها، مطعم برج الحمام اللبناني المطل على البحر في فندق الكراون بلازا. ولمحبي الأكلات السريعة اختيارات عدة من فروع سلاسل أردنية مثل «تشيلي وايز»، و«بوفالو وينغز آند رينغز». ولمن يبحث عن جلسة أكثر فخامة لتناول وجبة عشاء مطولة، فعليه زيارة «سمارة مول». وتتوفر اختيارات متعددة من المطاعم منها مطعم «دابلينرز» الآيرلندي و«روفرز ريترن» الإنجليزي، ومطعم المحيط المختص بالأسماك الطازجة، ومطعم زيتونة ومقهى «باستيش» لمحبي الشيشة.


مقالات ذات صلة

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)
سفر وسياحة أسواق العيد في ميونخ (الشرق الاوسط)

جولة على أجمل أسواق العيد في ألمانيا

الأسواق المفتوحة تجسد روح موسم الأعياد في ألمانيا؛ حيث تشكل الساحات التي تعود إلى العصور الوسطى والشوارع المرصوفة بالحصى

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد جانب من المنتدى التاسع لمنظمة الأمم المتحدة لسياحة فن الطهي المقام في البحرين (الشرق الأوسط) play-circle 03:01

لجنة تنسيقية لترويج المعارض السياحية البحرينية السعودية

كشفت الرئيسة التنفيذية لهيئة البحرين للسياحة والمعارض سارة أحمد بوحجي عن وجود لجنة معنية بالتنسيق فيما يخص المعارض والمؤتمرات السياحية بين المنامة والرياض.

بندر مسلم (المنامة)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».