بيل كلينتون... روائياً فاشلاً

«الرئيس مفقود»... رواية ستخلَّد بوصفها أسوأ نص لرئيس دولة

بيل كلينتون
بيل كلينتون
TT

بيل كلينتون... روائياً فاشلاً

بيل كلينتون
بيل كلينتون

قدّمت التجربة الاشتراكيّة في القرن العشرين عدة نماذج من رؤساء كان لهم باع طويل في الكتابة والتأليف، فصدرت الأعمال الكاملة للزعيم السوفياتي فلاديمير لينين في ما ينوف على 40 مجلداً من التنظير السياسي والاقتصادي العميق. وكتب بعده جوزيف ستالين عدة نصوص سياسيّة وفلسفيّة اعتُبرت في وقتٍ ما مراجع أساسيّة لتعليم أصول الماركسيّة والديالكتيك في الاتحاد السوفياتي. كذلك كتب ماو تسي تونغ عدّة نصوص صارت «كتباً مقدسّة للتجربة الاشتراكيّة في الصين لا تزال متداولة إلى اليوم. وخارج هذه التجربة، كانت هناك محاولات لهتلر وصدام حسين والقذافي وكارتر لكنها أقلّ نجاحاً بكثير.
الرئيس الأميركي السّابق بيل كلينتون الذي لم تُنسب إليه يوماً معرفة استثنائيّة في الفكر السياسي، ولا موهبة إبداعيّة ربما سوى تلمّس أنفه كلما كذب أمام الصحافة عن علاقته الفضائحيّة بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، قرر الانضمام رغم ذلك إلى كوكبة الرؤساء المؤلفين. لكنه بعجزه الفكري هرب من التنظير السياسي ليبث خيالاته عبر رواية شعبيّة بالتعاون مع جيمس باترسون الروائي الشعبي الأميركي -الذي باع مئات الملايين من نسخ كتبه التي لم ترقَ إلى صفة الأدب- بوصفه ضمانة لبيع حد أدنى مربح من الرواية الثنائيّة لذات المجموعة من قرّائه.
وإذا كان ممكناً تقبُل اشتراك شخصين -أو أكثر- في تأليف كتاب أكاديمي في العلوم أو الاجتماع، فإننا لا نعرف على وجه التحديد أين تبدأ مشاركة الرئيس السابق في صوغ نص «الرئيس مفقود The President is missing»، وأين تنتهي مشاركة باترسون في معاقرة عمل إبداعي شديد الفردانية كالرواية التي هي دائماً بوح ذاتي يواكب فيه الروائي إحداثيات تجاربه ليشكل عالمه المتخيل. لكن يمكن تجاوز ذلك فور قراءتنا لها، إذ هي من بهتانها وضعف سرديتها وانعدام المغزى منها توزع تهمة الفشل الذريع في تشييد معمار روائي مقبول عليهما بالتساوي رغم أن بعض المقاطع الضعيفة دراميّاً والمليئة بالشكوى من مرارة ظلم الصحافة تحمل بصمات بيل كلينتون دون شك، في حين تبدو الرواية ككل مثل أعمال باترسون السيئة الأخرى –على حد تعبير الروائي الأميركي ستيفن كنغ.
تبدو رواية «الرئيس مفقود» كأنها محاولة يائسة من الرئيس الأميركي السابق لإعادة كتابة تاريخه كما يريد أن تتذكره الأجيال، وبيان عن العالم الكلينتوني «الخلاب» الذي كان يمكن أن يجلبه لأميركا، لا كما كان واقع عهده: فضائح جنسيّة وصراعات سياسيّة عقيمة. إنها تحكي قصّة رئيس يأتي بعد مرحلة أوباما، تموت زوجته قبل بدء الرواية ولا يتعامل مع متدربات في البيت الأبيض، لكنّه يعاني من محاولات الحزب الآخر لتشويهه وعزله من السلطة من دون ذنب اقترفه، ليجد أن الخطر الحقيقي على أميركا سيأتيها من مصدر قوّتها بالذات: تقدمها التكنولوجي. مسألة فقدان الرئيس التي عُنونت بها الرواية مجرد أخبار كاذبة، إذ إن الرئيس لم يُفقد فعلاً بل هو كان في مهمة عبقريّة أخرى لإنقاذ بلاده من هجوم إلكتروني سافر -يشنه الإرهابي (المسلم) سليمان قائد تنظيم «أبناء الجهاد» عبر الإنترنت- وكاد يتسبب في توقف كل مفاصل الدّولة الأميركيّة عن العمل: البنوك، وأنظمة السير، والطيران، والإعلام. وكما تتوقعون تماماً فإن تمويل الهجوم يأتي من روسيا تحديداً بينما إسرائيل تبقى دوماً وأبداً أوفى وأقرب الأصدقاء –لا سيما أن رئيسة وزراء إسرائيل حسناء من النّوع الذي كان بيل كلينتون ليتورط معه في فضيحة دوليّة هذه المرّة لولا أن الخيال يكون أحياناً أرحم من الواقع. ينقذ الرئيس بلاده من الهجوم، فيُلقي على الأمة خطاباً تلفزيونياً هائلاً –يمتد لأكثر من تسع صفحات في النص– يستخلص فيه العبرات ويحدد معالم المستقبل للحلم الأميركي البديع. وكما السّحر في روايات الصّغار، تتبدل الأحوال في أميركا بعد الخطاب الفاصل؛ تتقارب الأحزاب وتعمل معاً لأجل أميركا أفضل، وتنزوي الصحافة المنحازة لمصلحة إعلام متوازن، بل إن مرض الرئيس نفسه الغامض والخطير يختفي هكذا من غير رجعة في رسالة صريحة: عندما تستمعون لكلينتون كل شيء في أميركا سيكون أجمل، لكن رجاءً لا تسألوه كيف!
لا تكشف الرواية رغم كثرة صفحاتها –528 صفحة- عن أي جديد في ما يتعلّق بأسرار العمل وراء الكواليس في البيت الأبيض أو العلاقات الدّولية، والشخصيّات جميعها خاضعة للنمذجة التقليديّة الساذجة لدرجة أن الرئيس -في الرواية دائماً- وبعد أن ينقذ البلاد من الهجوم السيبري لجماعة أبناء الجهاد الإرهابيين -المسلمين- يقوم بقطع العلاقات مع روسيا محذراً السفير الروسي لحظة طرده من «تدخل بلاده في انتخاباتنا مستقبلاً».
الرواية المفتقرة إلى معايير التشويق والحافلة بالخطابات الرئاسيّة والتفسيرات العلميّة التي لا حاجة إلى النص بها تُزيل من حياة الرئيس المتخيّل كل علاقة له بالنساء، فلا هيلاري تنغص عيشه، ولا لوينسكي تتسبب بفضائح له، ولكن سيدات رئيسات للدول الصديقة، وأخريات في مناصب عليا، وجاسوسات جميعهن في علاقات شديدة الودّ مع الرئيس الدمث، رغم أنه يصفهن عند ظهورهن لأول مرّة في الرواية بأوصاف لا تخفى معها بقايا الذكوريّة المتعاليّة والتشيؤ الجنسي. إنه لا يتجاوز معهن حدود العناق الرسمي لأي سبب –ربما لتيقن الرئيس السابق من أن هيلاري كلينتون ستقرأ الرواية بدقّة ولن تسمح للوينسكي جديدة بدخول البيت الأبيض ولو في عالم الخيال.
نَفَس الرواية أميركي نموذجي لا يُخفى، يُعلي من شأن الخدمة العسكريّة –الرئيس المتخيّل خدم مع الجيش الأميركي في العراق– كما من شأن الدّين التقليدي -الرئيس يتلو صلوات توراتيّة ويرى العالم بلونين: معنا أو ضدّنا.
ويفتعل النص الفرص لإعادة تأكيد العلاقة العميقة والاستثنائيّة مع إسرائيل، والعداء البديهي –غير المبرر بعد انتهاء الحرب الباردة- لروسيا.
«الرئيس مفقود» تحقق بالفعل أرقام بيع لا بأس بها في السوق الأميركية ولا بدّ أنها ستعود على الكاتبين بعدة ملايين من الدولارات، لكن جلّ النقاد في الصحافة الغربيّة توافقوا على أنها نص ضعيف ليس بذي قيمة أدبيّة عالية ومجرّد حلم كلينتوني برئاسة مثاليّة دون فضائح، وليست تستحق القراءة إلا كبوابة للدخول إلى عقل زعيم العالم الحر الذي جلس على العرش لعقد من السنوات. رواية «الرئيس مفقود» ستدخل تاريخ الأدب خالدةً بوصفها أسوأ نص على الإطلاق من بين كل ما كتبه زعماء الدّول في العصر الحديث، وسيرجع إليها المؤرخون بوصفها نموذجاً لتراجع الثقافة والأدب والسياسة في عهد الرأسماليّة المتأخرة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)
الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)
TT

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)
الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية»، التي تمنحها القناة التابعة للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام «SRMG»، بالتعاون مع «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2024»، وذلك خلال حفل أُقيم بمنطقة «البلد» في جدة.

وتدور أحداث الفيلم حول 4 صحافيّين مكسيكيّين، يخاطرون بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» العنيفة في بلادهم. وتأتي الجائزة ضمن التزام القناة بدعم صناعة الأفلام، وتعزيز المواهب الناشئة في الوثائقيات، وتسليط الضوء على الجهود المستمرة لتوفير منصّة تفاعلية لعرض القصص.

وشهدت هذه النسخة مشاركة واسعة ومتنوعة شملت أفلام «يلّا باركور» للمخرجة عريب زعيتر (الأردن)، و«مركب فرسان: 128 كيلو عن بر الأمان» لموفق العبيد (السعودية)، و«ماي واي» لليزا أزويلوس وتيري تيستون (فرنسا - أميركا)، و«حالة من الصمت» لسانتياغو مازا (المكسيك)، و«لوميير السينما (تستمر المغامرة)» لتيري فريمو (فرنسا)، و«توليف وحكايات على ضفاف البوسفور» لزينة صفير (مصر - لبنان - تركيا)، و«عندما يشع الضوء» لريان البشري (السعودية) ، ضمن فئة الأفلام القصيرة.

محمد اليوسي يُتوّج المخرج سانتياغو مازا بالجائزة (الشرق الأوسط)

من جانبه، قال محمد اليوسي، المدير العام لقناتي «الشرق الوثائقية» و«الشرق ديسكفري»، إن الجائزة «تعكس التزامنا الراسخ بدعم المواهب، وتقديم محتوى أصلي وحصري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، مهنّئاً المخرج سانتياغو مازا على فيلمه الوثائقي المميز.

بدورها، ثمّنت شيفاني باندايا مالهوترا، المديرة الإدارية للمهرجان، الشراكة الاستراتيجية مع «الشرق الوثائقية» لتقديم جائزتها للعام الثاني على التوالي، مبيّنة أن هذه المبادرة «تجسّد التزامنا الراسخ بدعم صُنّاع الأفلام الموهوبين، وتوفير منصّة رائدة لعرض أعمالهم وإبداعاتهم للعالم أجمع».

وتقدم «الشرق الوثائقية» أفلاماً تتناول مواضيع عدة، تتنوّع بين السياسة والاقتصاد والأعمال والتاريخ، وتستعرض رؤًى فريدة وتحليلات ثاقبة حول آخر التوجهات والأحداث والشخصيات المؤثرة التي تشكل عالم اليوم.

وبفضل قدراتها الإنتاجية الداخلية، تبثّ القناة مجموعة برامج تتسلل إلى عمق الأخبار وعناوين الصحف، وتوفّر تحليلات جريئة وشاملة. ويُمكن مشاهدة محتواها من خلال البثّ التلفزيوني، والمباشر عبر الإنترنت، وخدمة الفيديو عند الطلب عبر «الشرق NOW»، وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.