اللورد شافتسبري... فكر الأخلاق وثقافة الإيمان

فكره ساهم في صياغة جسر بين مدرستين

شافتسبري - جون لوك
شافتسبري - جون لوك
TT

اللورد شافتسبري... فكر الأخلاق وثقافة الإيمان

شافتسبري - جون لوك
شافتسبري - جون لوك

شاءت الأقدار أن أقرأ منذ فترة وجيزة كتاب الفيلسوف الإنجليزي اللورد شافتسبري «استعلام حول الفضيلة والجدارة». وحقيقة الأمر أنني لم أتعرض بعمق لفكر هذا الفيلسوف خلال دراساتي أو قراءاتي المختلفة، فدفعني الفضول إلى التعمق في هذا الكتاب رغم صعوبته اللغوية لأنه مكتوب بلغة إنجليزية ترتبط بمطلع القرن الثامن عشر، ولأن كثيراً من المصطلحات والمفاهيم الفكرية تختلف في استخداماتها عما هو دارج اليوم، وهو ما تغلبت عليه باستخدام تعريف المصطلحات الوارد في مقدمة الكتاب. وبعد عناء ممتد، وجدتني أُعجب نوعاً ما بفكر هذا الرجل الذي ساهم في صياغة ما يمكن أن أصفه بأنه جسر للعبور بين مدرستين؛ الأولى تؤمن بأن الأخلاق منبعها الدين فقط، والثانية تدفع بأن الأخلاق منبعها أيضاً التطور الطبيعي للإنسانية، والتي يعرفها الإنسان بالفطرة أو الحدس، فيمكن الوصول لها من خلال العقل المجرد. وهي قضية في واقع الأمر تؤلب علينا الفكر ونقيضه في تراثنا.
وكعادة الفلاسفة في نهاية القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، فإن القضية الأساسية كانت مرتبطة بسيطرة منهج الفكر التجريبي المعتمد على الحواس في الأساس والذي أسسه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وتبعه بقوة فيما بعد الفيلسوف هوبز وجون لوك، أصحاب نظريات العقد الاجتماعي، ولكن شافتسبري دخل في تناقض مباشر معهم جميعاً، خصوصا عند تعرضه لمفهوم السلوك الصحيح أو القويم ونقيضه Good and Bad، فانطلاقة فكره تنبع من وجود مفهوم شامل لما هو صواب وخطأ ليس قاصراً على البشرية وحدها، ولكن على المخلوقات كلها، ولكن ما يميز البشرية هو أن الإنسان يعد المخلوق الوحيد الذي يدرك التوجه الصحيح بعقله، بل ويسعى إليه، وهنا يدخل هذا السلوك فيما يطلق عليه «مفهوم الفضيلة» التي يرى شافتسبري أن هدفها الأعم هو الرقي بالإنسانية ككل، لأن السلوك الفردي القويم يجب أن ينصب على خلق نظام عام قويم. ومن المنطلق نفسه، فإن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي خصه الله سبحانه وتعالى بمفهوم الفضيلة، لأنه الوحيد الذي يدرك الهدف الأساسي من وراء السلوك القويم، ويكون له هدف من وراء اتباعه، فالفضيلة تمنح الإنسان نوعاً من الشعور بالرضا عن نفسه وما حوله من الأنظمة.
وعند هذا الحد يدخل شافتسبري في مفهوم جديد وهو «الشعور بما هو صواب وخطأ»، وهذا ينبع مباشرة من إدراك المرء سبب السلوك الصحيح وعدم اتباعه سلوكاً غيره. وهنا تثور الاختلافات حول تفسيرات شافتسبري، فكتاباته تدفع في بعضها إلى الاعتقاد بأن هذا السلوك منبعه عقلي بحت، بينما في مواضع أخرى يدفع بأنه سلوك سيكولوجي غير موضوعي لأنه مرتبط بمفاهيم الفضيلة المجردة أكثر منها العملية، بينما يؤكد في مواضع أخرى أن اتباع هذا السلوك يأتي من خلال معتقد فكري للرؤية الإيجابية لما هو صواب ومساهمة هذا السلوك مباشرة في خلق بيئة إيجابية سليمة يحيا فيها الإنسان. وفي كل الأحوال، فإنني وصلت لقناعة بعد القراءة المتأنية إلى أن الرجل كان يقصد المنهجين معاً، اللذين لا أرى فيهما تناقضاً على الإطلاق.
ولعل أكثر المسائل التي لفتت نظري عند قراءة هذا الكتاب كانت معالجته مفهوم العلاقة بين السلوك الأخلاقي القويم والعقيدة، فالرجل يقدم لنا نموذجاً جيداً للدفع بأهمية العقيدة والعقل في الوصول للسلوك الأخلاقي Morality، ولكنه يبرهن عليها في البداية بتناسب عكسي، فيسعى للبحث عن العلاقة بين الإلحاد، والعياذ بالله، والسلوك الأخلاقي القويم للبشر، فيصل إلى استنباط منطقي سليم وهو أن «الإلحاد بوضعه لا يستطيع أن يدفع الإنسان لإقامة أي منظومة للسلوك القويم أو غير القويم»، كما أنه «بحاله لا يستطيع أن يساهم في خلق رؤية للخير والشر للإنسان». ومن هذا المنطلق، فإنه يرى أهمية الدين في دفع مفهوم السلوك الأخلاقي والفضيلة للبشرية، وذلك من خلال منظورين أساسيين؛ الأول مرتبط بمفهوم الثواب والعقاب، فإذا ما اتبع الإنسان سلوكاً قويماً فثوابه في الآخرة واضح في كل الكتب السماوية، وغير ذلك يعرضه للعذاب في العالم الآخر. أما المنظور الثاني، فهو المرتبط بشكل مباشر بمفهوم «العظمة الإلهية»، فعظمة الخالق وصفاته في حد ذاتها - ناهيك بتعاليمه - تضع تمييزا واضح المعالم للسلوك القويم والأخلاقي الذي نستشفه من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته. وتقديري هنا أن شافتسبري كان يقصد الكتب السماوية بالأخص، فهو لا يقصد العقائد الوثنية والتي تشمل آلهة خير وشر.
وحقيقة الأمر أنني فرغت من قراءة هذا الكتاب لأجد نفسي أتأمل صراحة الحوارات البالية التي تسعى لوضع الإنسان في تناقض بين عقيدته وإنسانيته بما فيها نعمة الفكر، خصوصا في مجال مثل الأخلاق، فلا خلاف على أن مفهوم الأخلاق قد يسبق نزول الوحي في مناسبات عدة، ولكن لا بأس من ذلك، وهنا يحضرني على الفور حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، كما تحضرني الآيتان الكريمتان من سورة الشمس: «﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وهو ما يؤكد بوضوح عدم التعارض بين المفهوم الإلهي للأخلاق في الإسلام، وفطرة الإنسان التي خلقه المولى عز وجل عليها.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟