تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

تطورات المعركة على الأرض تعزز حظوظه في الرئاسة

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)

بينما كانت الرياح تحمل عبق الزهور على حواف الجبل الأخضر تحت شمس الصباح، اقتحم الجنرال الليبي المخضرم خليفة حفتر، آخر معاقل المتطرفين في شرق البلاد، وأصبح يثير مخاوف خصومه في طرابلس، أكثر من أي وقت مضى. لكنه قد يكون في حاجة إلى خوض حروب أخرى في الغرب من أجل بسط كامل سيطرته على الدولة الغارقة في الفوضى.
«الشرق الأوسط» تقدم ثلاث حلقات عن تداعيات تحرير الجيش الوطني، بقيادة حفتر، على الوضع السياسي والعسكري والأمني في عموم ليبيا. وتدور حلقة اليوم عن الحملة السياسية التي تحاول التقليل من انتصارات الجيش وتضخيم اتهامات بارتكاب جرائم ضد مدنيين، خصوصاً بعد قيام عسكريين بإعدام معتقلين يُعتقد أنهم متطرفون، خارج القانون.
في أثناء تمركزهم تحت هوائيات طويلة مع سيارتين تابعتين لسلاح الإشارة العسكرية، تحدث ضباط في الجيش عن الوضع في درنة، مؤكدين أن الجنرال يتعرض في الوقت الحالي لحملة سياسية شرسة من أعدائه، «بسبب أخطاء ثلاثة أو أربعة جنود متهورين»، وأن هذا التصرف «يمكن أن يؤدي إلى تشويه جهوده»، حيث تجري علميات حربية شرسة يقودها في مدينة درنة.
ومن أعلى الهضبة الصخرية، بدت بيوت المدينة، بيضاء. وبين الحين والآخر يتصاعد دخان اشتباكات من منطقة الشلال جنوباً، حيث ما زالت مجموعة من المسلحين تتحصن داخلها.
في صباح اليوم التالي جاءت ثلاث عائلات كانت قد هربت من سطوة المتطرفين، الذين فرضوا سيطرتهم على درنة منذ عام 2011. لكن آمال العبيدي، وهي إعلامية معروفة وابنة المدينة، قالت إنها لم تتمكن من العودة إليها منذ سنوات بسبب سيطرة جماعة «أبو سليم» على مقاليد الأمور فيها. (يطلق اسم «أبو سليم» اختصاراً على خليط من المتطرفين استوطنوا درنة). موضحة أن الوضع في المدينة ما زال صعباً، وأن عملية الجيش، التي تؤيدها، ينبغي أن تكون أكثر احترافية، بالنظر إلى قيام متطرفين بتوريط أطفال في القتال معهم عنوة.
وقال مرافق آخر: «بعض أهالي درنة ظلوا رهائن لدى تنظيمي داعش والقاعدة. وهذا ما ينبغي أن يعرفه الجيش، وهو يتقدم داخل المدينة، حتى يتجنب سقوط أبرياء لا ذنب لهم». في إشارة إلى آخر واقعة عرفتها المعارك، حيث أصيب طفل يدعى عادل فايز في درنة إصابة بالغة.
تقول العبيدي موضحة حقيقة ما حدث «خرج فايز البالغ من العمر 14 سنة لكي يشتري الخبز لوالدته، وبمجرد أن مشى عدة خطوات نحو المخبز في ضاحية إمبخ حتى اعترضته سيارة»، كان يستقلها ثلاثة مسلحين حسب رواية شاهد آخر.
وتوضح الرواية التي استقتها «الشرق الأوسط» من مصادر مختلفة إلى أن راكباً ملثماً نزل من السيارة، وصوب المسدس نحو رأس الطفل، وأجبره على الركوب لكي «يجاهد مع المجاهدين». وفي مساء اليوم نفسه أصيب الطفل بطلقة رصاص في أثناء اشتباكات مع قوات الجيش على المحور الغربي. وهو الآن محتجز بجروحه، لدى محققين في بنغازي.
فيما تقول معلومات أمنية إن «داعش» اختطف العشرات من أطفال درنة، تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عاماً بغرض الحرب في صفوفهم، لتعويض النقص في عدد المقاتلين خلال الأسابيع الأخيرة.
وقبل عودتها، ألقت العبيدي نظرة على تخوم درنة ومضت إلى حال سبيها، في انتظار تحرير ما تبقى من أوكار المتطرفين داخل المدينة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 120 ألفاً، لكن نحو ربع هذا العدد نزح إلى بلدات مجاورة طيلة السنوات الماضية، هرباً من الجماعات المسلحة ومن حصار الجيش. وارتكب المتطرفون عدة مذابح، كان أشهرها إعدام خصوم لهم في ساحة مسجد الصحابة بوسط درنة. أما غالبية المهجرين فيقيمون لدى أقارب لهم في مدن طبرق، والقبة، والبيضاء، وشحات، وغيرها.

- درنة موطن المبدعين
في فترة الراحة بدأ جندي من أبناء درنة يتلو مقاطع شعرية للشاعر الشعبي نصيب السكوري، تتحدث عن زملائه الذين وقعوا في السنوات الماضية بأيدي «الدواعش»، الذين قاموا بنحرهم أمام العامة في وسط المدينة، ومن بينهم رجل أمن جرى قتله بطريقة بشعة يدعى غيث نجيب.
وللشعر الشعبي في ليبيا أثر كبير في تشكيل الرأي العام. وفي قصيدة السكوري هناك بيت يهاجم مسلك المتطرفين، متخذاً من واقعة قتل نجيب مثالاً على همجيتهم. وبعد قليل ارتفع صوت العزف على المزمار من جندي «درناوي» يجلس أعلى صخرة، ووجهه إلى المدينة، كأنه يحاول إخراج الثعابين منها. ومن جوار صندوق السيارة، ينظر ضابط في الجيش، من أبناء درنة أيضاً، إلى المدينة من أعلى، كأنه يبحث عن مكان بيته الذي لم يدخله منذ مقتل معمر القذافي، واستقواء المسلحين واستيلائهم على مرافق المدينة.
لقد كانت درنة في ما مضى واحة للإبداع، والعلم، والفنون. ويقول هذا الضابط إن عدداً كبيراً من أبناء درنة، الذين هاجروا إلى أوروبا، أصبحوا ناجحين في أعمالهم، ومن بينهم أطباء جرى تكريمهم من طرف الأجانب.

- تحديات في انتظار حفتر
يرد العسكريون المرابطون على مداخل درنة الجنوبية بأن الجنرال حفتر تعهد بأن يحرر المدينة، وأن يأتي ليصلي في مسجد الصحابة. وحول ذلك تعلِّق العبيدي قائلة: «إذا تمكن حفتر من أداء الصلاة في هذا المسجد بالفعل فسيكون ذلك رسالة قوية للجميع بأنه رجل يمكن الاعتماد عليه لإعادة الأمن في ليبيا». مضيفة أنه «يمكن أن يكون رئيسا للدولة أيضاً»، وهو ما يتفق عليه عدد كبير من أنصار المشير.
لكن حفتر يواجه صعوبات مباشرة، تتسبب فيها أحياناً رعونة بعض الجنود في الميدان. وأخرى غير مباشرة، يديرها خصومه في محاولة لتفتيت القوى التي يستند إليها في أوساط قبائل الشرق، وفي البرلمان.
فقد نسب شريط مصور لبعض جنود الجيش قيامهم بإطلاق النار، دون تحقيق أو محاكمة، على اثنين يعتقد أنهما من المتطرفين في درنة. وتلقف خصوم الجنرال الواقعة بسرعة. وجرى الترويج لها على نطاق واسع، مع التذكير بواقعة ضابط بنغازي الشهير، الرائد محمود الورفلي، الذي ظهر العام الماضي، وهو يفرغ الرصاص في رؤوس متهمين بالإرهاب، دون تحقيق أيضاً، ما تسبب في لغط دولي، وإحراج كبير لحفتر.
وفي محاولة منه لتجنب الانتقادات، شدد حفتر على رجال الجيش ضرورة التزام الانضباط في الحرب، وتسليم الإرهابيين إلى الجهات العسكرية المختصة، والتحقيق في صحة مقطع الفيديو الجديد، وإحالة المتهمين إلى التحقيق.
يحدث هذا في وقت يسعى فيه بعض القوى الرافضة لوجود حفتر في مستقبل ليبيا، لإرباك المشهد في البلاد، أكثر مما هو مرتبك أصلاً، وذلك لعرقلة تقدمه عبر دعم تحركات عسكرية في الغرب الليبي لاستهداف عصب الاقتصاد؛ أي مصافي تصدير النفط الرئيسية في الشمال الأوسط من ليبياً.
كما تأتي هذه التطورات بالتزامن مع نشاط خلايا إرهابية تحاول توجيه طعنات إلى تمركزات الجيش الوطني من الخلف، خصوصاً على جبهتي «سرت»، شمالاً، و«براك الشاطئ» جنوباً، إضافة إلى بنغازي ودرنة.
لقد كان حفتر طوال أكثر من عام قاب قوسين أو أدنى من دخول عملية سياسية توحد البلاد المنقسمة على نفسها، إلا أن الرياح تأتي أحياناً بما لا تشتهي السفن.
وفي هذا السياق يرى ضابط كبير في الجيش أن ما يعرقل عمل حفتر بشكل عام هو الاتفاق السياسي، الذي جرى توقيعه بين خصوم ليبيين في مدينة الصخيرات المغربية أواخر عام 2015، إذ وضع هذا الاتفاق سلطة موازية لسلطة البرلمان، الذي أجبره مسلحون في طرابلس على العمل من بلدة طبرق في أقصى شرق ليبيا. ومن مخرجات البرلمان هناك الحكومة المؤقتة، التي يرأسها عبد الله الثني، وهناك قائد الجيش الوطني نفسه، حفتر.
لقد خلق اتفاق الصخيرات سلطة جديدة برئاسة فايز السراج، أطلق عليها «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق»، واستحدث مجلساً أطلق عليه «المجلس الأعلى للدولة»، يضم نصيباً من أعضاء البرلمان السابق (كان يسمى «المؤتمر الوطني»)، ومعظمهم أعضاء رفض الليبيون إعادة انتخابهم في 2014.
ويعمل المجلسان المشار إليهما من طرابلس، تحت حماية خليط من العسكريين والميليشيات المدججة بالأسلحة الثقيلة، وهؤلاء لا يفضلون وجود حفتر. وعلى كل حال كان ينبغي، وفقاً لاتفاق الصخيرات نفسه، أن تحظى حكومة الوفاق بمصادقة البرلمان في طبرق، لكنّ هذا لم يحدث.
وتعمل حكومة السراج دون أي مرجعية تشريعية، ودون أي رقابة برلمانية. وهي متهمة من جانب جهاز المحاسبة في طرابلس بإنفاق نحو ثلث تريليون دولار «دون نتيجة، حيث يعاني الليبيون الفاقة والتشرد والأمراض ونقص الخدمات»، كما يقول أحمد قذاف الدم، المسؤول في جبهة النضال الوطني، وأحد أبرز المقربين من العقيد الراحل معمر القذافي.
كما كان ينبغي، لتفعيل مخرجات الصخيرات منذ بداية 2016، عقد جلسة للبرلمان في طبرق لضم الاتفاق السياسي ضمن الإعلان الدستوري الذي يجري العمل به في البلاد كدستور مؤقت. لكنّ هذا أيضاً لم يحدث أبداً. ومع ذلك استمرت حكومة الوفاق في العمل بذريعة أنه معترف بها دولياً. وبالتزامن مع هذا الارتباك السياسي، لم يتوقف حفتر عن ملاحقة الجماعات المسلحة، بما فيها تلك الموالية للمجلس الرئاسي ومجلس الدولة.

- معضلة اتفاق الصخيرات
على الهضبة المطلة على درنة، جاء وقت تناول الطعام، وتقدم خمسة جنود صغار السن من الحواف الصخرية المجاورة، حيث يراقبون مدخل منطقة الشلال لأخذ نصيبهم من المعكرونة المطبوخة على النار بالطماطم. يقول أحد الضباط وهو يمسح لحيته «كلما تقدم الجيش نصب له بعض رجال الصخيرات الفخ تلو الآخر. رأينا هذا حين طردنا الإرهابيين من بنغازي السنة الماضية. ونراه اليوم، لكننا ماضون في طريقنا إلى أن نحرر طرابلس نفسها».
إن لفت الانتباه إلى معضلة اتفاق الصخيرات أمر حاضر في أذهان كثير من العسكريين والسياسيين، ليس على مشارف درنة فقط، ولكن حتى في مناطق كثيرة في ليبيا. ومما يذكره أحد الضباط أن من بين ما تسبب فيه هذا الاتفاق، قيام نواب من البرلمان السابق (المؤتمر الوطني)، وغالبيتهم من المتشددين الإسلاميين، باستغلال الوضع، وتشكيل «مجلس الدولة» ذي الطابع الاستشاري، إلا أنه أصبح واجهة سياسية مهمة.
ويقول هذا الضابط إنه جرى في البداية انتخاب الدكتور عبد الرحمن السويحلي، كواجهة مدنية، رئيساً لمجلس الدولة، حيث بدأ العمل فيه دون انتظار لضمّ الاتفاق في الإعلان الدستوري عن طريق البرلمان. ويعمل هذا المجلس، مثله مثل حكومة الوفاق، دون مرجعية في الدستور والقانون الليبيين حتى الآن. وهذا في حد ذاته مثير لحنق كثيرين، حتى ممن لا يوالون حفتر.
يقول عبد الله ناكر، رئيس حزب القمة، الذي كان يرأس «مجلس ثوار طرابلس»، «هذا أمر غريب للغاية. فنحن لا نعرف من هي الجهة التي يمكن أن تحاسب حكومة السراج. هذه حكومة لم ينتخبها الليبيون، ولم تحصل على الشرعية من جهة منتخبة من الشعب».
ومنذ مطلع عام 2016، أي منذ دخول السراج طرابلس لتطبيق اتفاق الصخيرات، أصبح الوضع السياسي معقداً ويصعب حله، كما اتضح من محاولات تبذلها دول إقليمية، منها مصر والإمارات، ورعاة دوليون عدة، كان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أواخر الشهر الماضي.
وفي تلخيص لجذور المشكلة، يقول العقيد المهدي البرغثي، وزير الدفاع في حكومة الوفاق: «نحن نعمل حتى الآن دون مصادقة البرلمان، وهذا أمر يزيد الأمور تعقيداً، ولا يشجع على الوصول إلى تسوية. نحن أشبه بوزراء تسيير أعمال. تصحيح المسار السياسي وتوحيد الصفوف هو القادر على إنقاذ ليبيا مما هي فيه».
وعلى كل حال، يعتقد أنصار المشير حفتر بثقة أن الواقع على الأرض أصبح يقول إن حفتر هو القوة الضاربة في الشرق، ويستند في عمله إلى مرجعية سياسية تتمثل في البرلمان المنتخب، أما السراج فيبدو لدى كثيرين كرجل يعتمد في وجوده على التأييد الدولي.
وتضغط فرنسا ودول أخرى على الخصوم الليبيين لتهيئة البلاد لانتخابات قبل نهاية هذا العام. وفي هذا الصدد يقول ناكر إن الحل في الانتخابات، وهي الفيصل بين الجميع. لكن وولفغانغ بوتشاي، المحلل الأمني والسياسي الغربي، يقلل من إمكانية هذا الأمر وفقاً للظروف الراهنة.
يحدث كل هذا اللغط، بينما تحول الجنوب إلى إقليم هش، لا توجد فيه سلطة قوية قادرة على حسم الولاء لهذا أو ذاك. وأصبح مصدر خطر على الدولة الليبية وحتى دول الجوار أيضاً، وذلك بسبب سهولة تحرك المتطرفين والمسلحين ومهربي البشر، كما يشير العقيد البرغثي نفسه. وقد عرفت الشهور الماضية أكثر من مبادرة سياسية للم الشمل، وللقبول باتفاق الصخيرات. لكن من خلال بوابة البرلمان.
ودخلت البلاد في حراك كبير بفضل تولي المبعوث الأممي الجديد، الدكتور غسان سلامة، هذه المسؤولية. وفي تلك الأثناء أبدى الدكتور السويحلي، مرونة غير مسبوقة للدخول في مفاوضات، وأرسل مندوبين منه لاجتماعات عُقدت في مصر وتونس والجزائر. ولعب دوراً في تلطيف الأجواء في أوساط سياسيين أقوياء بمدينته مصراتة، وسياسيين من طرابلس من الموالين للسراج.
ويقول مسؤول في الجيش إن حفتر قرر منذ البداية ترك الأمور للسياسيين، على أن يقتصر عمله على محاربة الجماعات المتطرفة. ورسخت حرب الجيش لتحرير بنغازي، ثم أخيراً درنة، مفاهيم جديدة عن الدور الإقليمي في ليبيا. وتبين أن هناك محورين رئيسيين: محور يطلق عليه البعض «محور الاعتدال»، وتعد مصر أحد أطرافه لأنها تعاني من خطر المتطرفين الذين يسعون لاستهدافها عبر حدودها مع هذا البلد. والمحور الثاني عُرف لدى ضباط في الجيش الليبي باسم «محور الشر»، وفيه قطر وتركيا، حيث يتهم العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش، هاتين الدولتين تحديداً بدعم المتطرفين في بلاده.
وأدت انتصارات الجيش في بنغازي إلى ارتفاع أسهم حفتر محلياً ودولياً، وزار دولاً لم تكن لتقبل به في السابق. وقد وجه إنذاراً إلى السياسيين أواخر العام الماضي بضرورة حل خلافاتهم، وإلا سيضطر الجيش إلى اتخاذ الإجراءات المنوطة به لحماية مقدرات الشعب. كما ارتفعت أصوات تدعو إلى ترشحه كرئيس للدولة. وشعر تيار المتطرفين بالخطر، مثل بعض الخصوم السياسيين الذين يخشون تمدد حفتر خارج بنغازي.
وفي أثناء ظهور الحشود العسكرية استعداداً لتحرير درنة من باقي الجماعات المتطرفة، قبل شهرين، تمكن «الإسلاميون»، من أعضاء «مجلس الدولة»، من قلب الطاولة السياسية، والإطاحة بالدكتور السويحلي من رئاسة المجلس، وانتخاب رئيس جديد هو خالد المشري، الذي يتباهى بانتمائه إلى جماعة «الإخوان»، المصنفة في عدة بلدان، منها مصر، كـ«منظمة إرهابية». ووفقاً لهذا التحول السياسي المثير، تشجع نائبان اثنان على الأقل، في المجلس الرئاسي، لكي يتصرفا وفقاً للمرجعية الأصلية التي ينتميان إليها، حيث بدآ يثيران الفزع في كل مكان من تداعيات الحرب التي يشنها حفتر. أحدهما قادم من جماعة «الإخوان»، والثاني قادم من الجماعة الليبية المقاتلة (الأقرب إلى تنظيم القاعدة).
في هذا السياق يقول ضابط في الجيش «كلما تقدمنا في الحرب ضد الإرهاب، ضيَّقنا الخناق على داعمي (المتطرفين) في الداخل والخارج، ممن يتسترون في ملابس سياسيين ومسؤولين».
وحين دعا الرئيس الفرنسي ماكرون الأفرقاء الليبيين للحضور إلى فرنسا، أواخر الشهر الماضي، كان معلوماً، كما يقول بوتشاي، أن حفتر هو الوحيد من بين القادة المشاركين في مؤتمر باريس، الذي يملك تغيير الواقع على الأرض، أكثر من الآخرين، سواء كان السراج أو المشري، أو حتى المستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان المؤيد لحفتر.
ولا تقتصر العملية السياسية، التي تستهدف النيل من حفتر، على تضخيم الأخطاء التي يرتكبها بعض جنوده في ميادين الحرب. لكنّ هناك مسارات أخرى، أهمها محاولة مجلس الدولة، في ثوبه الإسلامي الجديد، استقطاب المستشار صالح في مفاوضات ترمي إلى وقف الحملة العسكرية على درنة.
وسبق أن التقى صالح، في أواخر أبريل (نيسان) الماضي مع المشري في المغرب، التي يوجد فيها نشاط ملحوظ لجماعة «الإخوان». وفي الأسبوع الماضي أرسل المشري، الذي أعلن عدم اعترافه بحفتر، رسالة إلى صالح يبدي فيها استعداده لزيارته في طبرق. وقبل أيام أيضاً وصل إلى صالح وفد من مدينة درنة، من بينهم قيادات مناوئة لحملة الجيش على المدينة. وتابعت قيادات من جماعة «الإخوان» اللقاء عن كثب. وبدا للوفد أنه لم تكن هناك تأكيدات لموقف حاسم لوقف الحرب. ورغم هذه النتيجة فإن زعماء في «الإخوان» يصرون على الاستمرار في طَرْق أكثر من باب، في محاولة لتشتيت جهود الجيش.
ومن أعلى هضبة درنة، حيث تأتي رياح المساء برائحة بارود الاشتباكات، يقول ضابط الإشارة: «المعركة شارفت على الانتهاء هنا، وستبدأ في أماكن أخرى. فالطريق ما زال طويلاً لإخضاع ليبيا لسلطة موحدة».



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».