لعبة التمويه والتخفي

بعين حكاءة، يحول الكاتب المغربي أنيس الرافعي «السرد» إلى فخ، له ألغازه وأحاجيه وكينونته التي تعشق اللعب بين الأضداد، وخلط الوهم بالواقع، وذلك في مجموعته القصصية «خيّاط الهيئات»، الصادرة حديثاً عن «دار العين» بالقاهرة. نحن في هذه المجموعة أمام ذات ساردة شديدة المكر والذكاء الأدبي، تبني رؤيتها وموقفها من العالم والأشياء على حقيقة مجردة بسيطة ومراوغة أيضاً، هي أن كل ملموس ليس واضحاً بالضرورة، فدائماً هناك ضرورة أخرى تتخفى، نصادفها في أبسط الأشياء وأشدها ألفة وحميمية.
على ذلك، فخيّاط الهيئات ابن ذات واضحة، هي ذات الكاتب المؤلف، لكنها تضجر من الوضوح البارد الممل، فتلجأ إلى التمويه والتخفي واللعب على الحواف والتخوم، والمزج بين الأجناس الأدبية، وجرها إلى منطق الخدعة أحياناً، بأفكار وحيل تترنح ما بين الهستيريا والفن، والمعرفة الرصينة المطمئنة إلى حد ما، فتارة تتقمص دور لاعب الماريونيت، الذي يحرك المشهد ويمسكك بخيوط اللعب من خلف الستار على خشبة المسرح، أو بمعنى أدق خشبة النص نفسه، وتارة هي صانعة أقنعة، تعرف كيف تطوح القناع حين تفرغ من أداء الدور، وترتد لحقيقتها الواقعية، وتارة هي لص مجرم، يرتكب جرائم بيضاء باسم محبة الأصدقاء وعوالمهم الأدبية الآسرة، مثلما يفعل مع شخوص صديقه صاحب «الخبر الحافي» محمد شكري، متخيلاً نسخة شريرة منها، يحيك بينها جريمة عبثية، ويدفع بها إلى محاكمة هزلية لشكري نفسه، في فندق ريتز الشهير المفضل لديه بمدينة طنجة، مسقط رأسه. في ظلال هذا اللعب، تولد غرابة السرد، وتتنوع مناخاته عبر أربع إيقونات، صعوداً وهبوطاً في نصوص الكتاب، مشرباً بروح التعويذة السحرية، ابنة الطقوس والعلامات والإشارات والأسرار، وشطح الأحلام والذات. تعكس الإيقونات أصداء أربع ثقافات إنسانية، تبدأ بأميركا اللاتينية، فالأوروبية، فالأفريقية، ثم ماندالا بوذية. نتأمل من خلالها طبيعة الخياطة، نفسها، وتنوع فنونها من بيئة لأخرى، لافتة إلى أن «الخياطة بضع ومائة شعبة، فخياطة الآثار العلوية أجلها مقاماً، وخياطة الأجسام الأرضية أقلها شأناً».
يصنف الكاتب هذه الإيقونة بـ«القطعة الرابعة من القماشة المفصلة إلى ثلاث قطع»، متيحاً الفرصة للقارئ أن يقرأ الكتاب كما يحب، ويرتبه وفق قراءته، وانفعاله بأجوائه، واضعاً نصب عينية أن اللعبة السردية التي تمارسها الذات الساردة لا تمثل ارتداداً إلى الوراء، وإنما هي محاولة لفهم المأزق الإنساني وتفكيكه عبر بصيرة السرد، وتدويره على نخو مغاير في القصص، ومن منطلق أن الواقع أعظم منتج للخيال. إنها مساحة للعب داخل الذات، والتوغل في أحراشها ودهاليزها، مساحة حرة تتمرد على مواضعات السرد التقليدية، بإثارة الدهشة والأسئلة حول نقطتي البداية والنهاية، في ثوب يتسع للحياة والزمن، لكنه يضيق أحياناً بخطى البشر المرتجفة، ووجودهم الذي ينسحب من تحت أقدامهم فجأة، متحولاً إلى وجود طيفي وشبحي، وظلال لحكايات في اتجاه الأفول.
يرفد التقمص تطوحات الذات، ويجعلها بمثابة حلم دائم، ومتجدد، بشكل مغاير من نص إلى آخر. ورغم الدقة والحذق، وحيوية الوصف الذي يوليه الكاتب لعالم الخيّاط، فإنه من السذاجة - برأيي - أن نحيل ذلك إلى موازاة رمزية مع فكرة الكتابة نفسها، فليس الكشتبان والإبرة والدباسة والمقص، والنسليات الأربع بحواشيها، بداية من حردة الرقبة، ودائرة الوسط، وتكويرة الكمين وحافتي البنطلون، وغيرها من أدوات الخياطة والحشو والنسل، سوى محاولة لتخفي الذات وتعريها أيضاً داخل الثوب / القماشة، وجر العالم إلى معنى آخر وأعمق فلسفياً وجمالياً يكمن وراء كل هذا... هذا المعنى يمكن أن أسميه «تناسخ الهيئات».
يتم فعل التناسخ سردياً باللعب داخل حواشي النسل في فراغ وقوام الهيئات، وضرب صورتها المستقرة أو المتخيلة سلفاً، ولا يكف الكاتب عن استيلاد مظاهر الغرابة، ولملمة قصاقيصها وغبارها، ولو من كناسة الخرافات والعجائب وعالم السحر، والولوج إلى كواكب أخرى، والإحالة إلى هوامش ووقائع ومواقف وأسماء شخوص وكتب ومراجع وحواش، يزيِّل بها كل نص أو «نسلية»، ليضفي على اللعب ملمحاً توثيقياً مجازياً، والطريف أن بعض هذه الحواشي يبدو من اختراع الكاتب نفسه. هنا، يتخلى الحلم عن وظيفته النمطية، متحولاً من مجرد وسيط بين عالمين أو زمنين، يحدهما اليقظة والنوم، إلى سلاح للكشف والهدم والبناء، وقبل كل شيء الوصل بين حافتي المجهول والواقع، داخل النص وخارجه. إنه الحلم بالكتابة الذي يشكل صيرورة النمو والتحول فيها أيضاً.
تطالعنا صورة هذه التناسخ في «النسلية (1): حاشية حردة الرقبة»، الذي يضع تحتها الكاتب عنواناً جانبياً ببنط أصغر، يسميه هكذا (أ)* فيروس في كعب أخيل، حيث تروي الذات الساردة بضمير مفتوح عبر الماضي والحاضر على هذا النحو: «ومن عجائب ما وقع أن أحد هؤلاء المولعين بمعاقرة وامتلاك العشرات من الهيئات، والاحتفاظ بها داخل دولاب كبير، يضاهي باطنه إلى حد بعيد مسلخاً صناعياً مليئاً بالعقّفات والأدوات المسننة وأذرعة التدوير القادرة على الانعطاف ذات اليمين أو ذات الشمال (كانت هناك بالداخل تتنفس مثلما لو كانت حية ترزق)، اكتشفت - بعد فوات الأوان - أن أيما هيئة بإمكانها أن تعدي الهيئة المعلقة إلى جانبها، وذلك بنقل خصائصها الفارزة إليها على صعيد الوجه والقسمات والشكل والحجم والطباع والمزاج والروح والتجارب والذكريات، وهو الأمر الذي يمكن تصوره مثل كتاب على شاكلة فيروس ميكروبي فتاك يصيب بالعدوى (كعوب أخيل) الكتب القريبة منه على رف مكتبة».
ثمة نقطة غامضة في هذا المقطع، تشكل سمة في نصوص الكتاب، واللافت أن الكاتب يظللها أحياناً بوضعها بين أقواس وعلامات تنصيص، أو بوضع خط واضح تحتها مثل عبارة «كيس بلاستيكي أسود اللون»، وكأنه يريد أن يقول لنا: أنا ألعب بشكل مكشوف، لكن وراء هذا اللعب سر.. تبدو النقطة الغامضة هنا في رمز «الأفعى» التي تتنفس بالداخل، داخل الدولاب كحيز مكاني، وكأن تغير الهيئات وتبدل أحوالها في صورة البشر يشبه سلخ الأفعى لجلدها، ناهيك عن تماثل المشهد كله بالمسلخ الصناعي، وليس الاصطناعي، ليبدو طبيعياً، بقوة التخيل وحصافة اللغة، وتحت تأثير فيروس خرافي يتجسد في رمزية أسطورة حصان طروادة. كما أن الفعل «سلخ» بكل مشتقاته اللغوية والرمزية يتكرر في النصوص، كدال محوري على أن «التغير» قرين التجدد. تنتهي هذه النسلية بجملة تقريرية تشير إلى «المدن الحديثة التي تتأسس دائماً على أنقاض المدن القديمة»، لكن الكاتب يضع تحتها خطاً. وإمعاناً في الغرابة، وعلى سبيل الإشارة النصية، يسميها «المشبك الأول»، ويسبقها بجملة تأويلية عن «مؤرخ الهيئات الذي يحفر في الطبقات الرسوبية للخيال الكوني الناسخ»، وأن المحاكاة البورخيسية في صلب المحكى مقصودة إلى أبعد الحدود، على شاكلة «الرجل الذي اقترح على نفسه مهمة رسم العالم».
هذه الأجواء الكابوسية، وهذه الجمل والإشارات والعلامات والمشابك النصية، التي تتجاور وتتقاطع وتتعالق في أجواء النصوص، تؤكد على أن وعي الذات الساردة بالكتابة لا ينفصل عن وعيها بالعبث والتشيؤ والرعب واللامبالاة، بل إن المحنة الإنسانية هي ظل كائن آخر ضلت الطريق إليه... تماماً مثل آخر رسامي المنمنمات المغاربة الكلاسيكيين الموثقين رسمياً «منمنم الوحوش»، الذي يتوحد بالمخطوطة النادرة العتيقة وهو يرممها، وتتراءى له بنسجها وهيئتها وخطوطها في شكل حيوان عجيب أشبة بالكائنات الأسطورية، يمارس شطحه بالاختفاء على نحو مباغت من الإطار الموضوع به المخطوط.
في ثلاث من أيقونات الكتاب، يتحرك فعل التناسخ بتعميق دلالة الزمن ميثولوجياً، وإزاحة أبعاده التقليدية، بينما على العكس في «أيقونة بوذية»، يصبح النص أكثر التحاماً بالواقع، ويتحول من خلال تقرير صحافي عن محاربة الحشرات في مدينة الدار البيضاء إلى صورة كاريكاتورية ساخرة أوسع تاريخياً واجتماعياً وثقافياً، فالزمن لم يعد زمن التعويذة، بل زمن الضمائر الهشة المرتبكة، في حالة تساؤل لاهث عن مصائرها، تتجمع وتفترق تحت قناع الأنا والآخر معاً، في شكل لطشات سردية لها إيقاع السيناريو السينمائي المتقطع: (أنزل «أنا» من المقطورة الأمامية، وينزل «هو» في أعقابي)، و(«أنا» أطلقت ساقي للريح، و«هو» أطلق ساقية للريح على منوالي» و(«أنت» يا هذا، يا «أنتما»)، و(«هو» يا هذا يا «أنتما»). إنها المدينة، لعبة ضمائر وزمن مربكة، ينأى «خيّاط» الرافعي عن أي تحليل عقلي أو نفسي لها، مهما كان مبهراً، هو فقط معني بالسرد، وكيف يصبح ممتعاً في ظلالها، تماماً كالتعويذة السحرية.