رياض حجاب.. الطامح للسلطة نظاما ومعارضة

أبرز المرشحين لترؤس الائتلاف بعد الجربا.. وأكثرهم إثارة للجدل بسبب «صورته» السابقة

رياض حجاب.. الطامح للسلطة نظاما ومعارضة
TT
20

رياض حجاب.. الطامح للسلطة نظاما ومعارضة

رياض حجاب.. الطامح للسلطة نظاما ومعارضة

لم ينفك رئيس الوزراء السابق رياض حجاب، منذ انشقاقه، يحسن صورته الجديدة بوصفه معارضا طامحا إلى تولي مناصب قيادية موازية لتلك التي شغلها داخل مؤسسات النظام السوري.
ورغم مبادرات «حسن نية» عدة وإقامته مراسم دفن ابن شقيقته، قائد أحد الألوية العسكرية في دير الزور، في مدينة إسطنبول التركية بحضور قياديين في الائتلاف السوري المعارض، فإن ذلك لم يشفع له في تبديل صورته في أذهان عدد ليس بقليل من المعارضين السوريين. هؤلاء لم يتقبلوا بعد انتقاله إلى صفوف المعارضة وارتفاع أسهمه في الوقت الراهن لتولي رئاسة الائتلاف المعارض بالتوافق، خلفا لرئيسه الحالي أحمد الجربا الذي ستنتهي ولايته خلال أيام.

«لا يمكن الفصل بين نتائج انشقاق رياض حجاب وسيرته قبل انشقاقه عن النظام»، وفق ما يؤكده رئيس كتلة الديمقراطيين في الائتلاف المعارض فايز سارة لـ«الشرق الأوسط»، مشيرا إلى أن «الوقائع تدل على أن حجاب كان ابنا عميقا للنظام، وبالتالي فمن الطبيعي ألا يصبح ابنا عميقا للثورة، من دون إنقاص أهمية انشقاق الرجل عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد في مرحلة من مراحل الثورة، وهي خطوة لها أهميتها رغم ضعف النتائج التي ترتبت عليها».
وإذا كانت مسيرة رياض حجاب داخل النظام شديدة الوضوح في انتقاله عبر حلقاتها من الأبسط إلى الأشد تعقيدا وفاعلية داخل النظام، فإن مسيرته في «صفوف الثورة كانت مصحوبة بالالتباس»، بحسب ما يوضح سارة، لافتا إلى أن حجاب «أخذ مسافة من قوى المعارضة الناشطة في الخارج، فآثر تجنب الانخراط في تشكيلاتها القائمة عند انشقاقه، ولا سيما المجلس الوطني السوري أو أي مكونات فيه، ولا حتى في التشكيلات القائمة خارجه على كثرتها وتوزعها السياسي والمدني، لكن ذلك لم يمنعه من المشاركة الحذرة في لقاءات وحوارات مع قيادات مختلفة ومع مبعوثين لدول عربية وأجنبية، عقدت في عمان والدوحة في صيف وخريف عام 2012، كما رفض حجاب المشاركة العملية في تكوين الجسد المعارض الجديد، ممثلا بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي تم الإعلان عنه في الدوحة أواخر عام 2012».
وكان حجاب شغل منصب وزير الزراعة بعد تدرجه في إدارة شؤون محافظتي القنيطرة واللاذقية في الفترة ما بين عامي 2008 و2011 في حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل سفر، التي شكلت بعد شهرين من انطلاق الحراك الشعبي المعارض. وبحسب سارة فإن هذه «الحكومة أخذت على عاتقها مهمة التصدي لحركة الاحتجاج والتظاهر، وقابلت السوريين بالرصاص قتلا وجرحا، وبالملاحقة والاعتقال على أوسع نطاق، من دون أن يؤدي ذلك مع سياسات أخرى إلى وقف الثورة والمظاهرات»، مضيفا: «لقد توسع نهج هذه الحكومة وتعددت أساليبها في ممارسة القتل والملاحقة والاعتقال وتدمير الممتلكات، وهذا بين الأسباب التي عجلت بانشقاق حجاب بعد شهرين من تشكيله حكومته».
ورغم أن النظام السوري حاول امتصاص حدث انشقاق حجاب في السادس من أغسطس (آب) 2012 معلنا عبر وسائل إعلامه أنه «أقيل من منصبه»، فإن ذلك الانشقاق شكل صفعة قاسية للنظام السوري، لا سيما أن ناطقا باسم حجاب أعلن الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء السابق إلى الإقدام على خطوته متهما النظام بارتكاب «أقصى جرائم الإبادة والقتل البربري ضد شعب أعزل، يطالب بالعيش الكريم الحر»، مشيرا إلى «انشقاقه عن نظام القتل والإرهاب وانضمامه إلى صفوف ثورة الحرية والكرامة».
وكان فصيل من الجيش السوري الحر قد خطط ونفذ عملية نقل حجاب من سوريا إلى الأردن عبر الحدود البرية بين البلدين.
بعد انشقاقه، تفرغ حجاب لتأسيس كيان إداري تنظيمي سوري معارض باسم «التجمع الحر للعاملين في الدولة»، بهدف «جمع وحشد الكوادر السورية التي شردها نظام الأسد في إطار حربه على الشعب السوري». ويرى الكثير من المعارضين أن حجاب أراد عبر تأسيس هذا التشكيل السياسي خلق غطاء مؤسساتي معارض للوصول إلى رئاسة الائتلاف المعارض. في حين تؤكد مصادر معارضة قريبة من حجاب أنه «لم يكتف بممارسة العمل السياسي داخل المعارضة، بل قام بدعم لواء (الفاتحون من أرض الشام) في مدينة دير الزور موكلا مهمة قيادة اللواء إلى ابن أخته محمد عبد الفتاح الشاطي الذي قتل خلال اقتحام الجيش النظامي لحي الرشيدية أواخر العام الماضي».
الأسوأ في مسار حجاب، بحسب ما يؤكد سارة لـ«الشرق الأوسط»، هو «طريقة تعامله مع المعارضة السورية»، ويوضح: «في اليوم الذي انضم فيه للائتلاف، تقدم بترشحه لرئاسته، ورغم وعوده العلنية في كلمة ألقاها أمام الهيئة العامة بالترحيب بالنتائج التي سيظهرها الاقتراع، واستعداده للعمل في كل الأحوال على إنجاح الائتلاف، والمشاركة الجدية والمسؤولة في أنشطته، فإنه انسحب من الائتلاف عند إعلان نتيجة خسارته في الانتخابات». وانطلاقا من هذا المسار، يلاحظ سارة أن «حجاب لم يقدم جهدا ولم يسهم بدور إيجابي في نضال المعارضة السورية من أجل تحقيق أهداف الثورة من أجل الحرية والعدالة والمساواة، التي يطمح إليها السوريون، بخلاف دوره النشط والفاعل عندما كان في صفوف النظام وفي مركز القرار فيه».
في المقابل، يرفض عضو الهيئة السياسية في الائتلاف المعارض أحمد رمضان في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» الربط بين الحقبة التي أمضاها حجاب داخل النظام وتلك التي نشط خلالها في صفوف المعارضة، موضحا أن «استراتيجية الائتلاف كانت منذ بداية الثورة تقضي بتشجيع المسؤولين داخل النظام للانشقاق عنه، ودعوتهم للعب دور في المعارضة»، متسائلا: «كيف يمكن أن نوفق بين هذه الاستراتيجية وبين اتهام المنشقين بأنهم كانوا مع النظام؟». ويصف خطوة انشقاق حجاب بـ«الموقف الكبير؛ إذ عرّض حياة عائلته للخطر».
ويشدد رمضان على أن «المرحلة الحالية تحتاج في رئاسة الائتلاف المعارض إلى شخصية سياسية ذات خبرة في المجال السياسي وتقدير على المستوى الوطني تعمل ضمن برنامج سياسي مع عموم أقطاب المعارضة السورية»، لافتا إلى أن «حجاب يتمتع بهذه الصفات بوصفه رجل دولة وشخصية تحظى بالاحترام على مستوى التعامل السياسي». كما أشاد رمضان بـ«الكفاءة التي يتمتع بها حجاب على الصعيدين السياسي والإداري كونه تدرج في أكثر من منصب حكومي».
وبخلاف رمضان، لا يرى الكاتب والمحلل السوري المعارض عبد الناصر العايد، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أي «قدرات استثنائية لدى حجاب تخوله قيادة الائتلاف المعارض في هذه المرحلة الحساسة». ويوضح أن «تسلمه عددا من المناصب الحكومية داخل النظام ليس دليلا على كفاءته؛ لأن المناصب داخل النظام السوري غالبا ما توكل على أساس الولاء وليس على أساس الكفاءة»، لافتا الانتباه إلى «علاقة متينة ربطت حجاب بالأجهزة الأمنية السورية وجعلته يتنقل بين عدد من المناصب بشكل تصاعدي».
وفي حين يضع العايد «خطوة انشقاق حجاب في السياق الطبيعي لأن أي شخص يشاهد ارتكابات هذا النظام لا بد أن ينشق فورا»، يشير إلى أن «انشقاقه لا يخوله أبدا أن يترأس أكبر هيئة سياسية للمعارضة السورية». ويتساءل: «النظام اختار هذا الشخص ليكون رئيس السلطة التنفيذية عنده، وحين تأتي المعارضة لتختاره اليوم على رأس الائتلاف، فلماذا قامت الثورة إذن؟».

* من نقابي بعثي إلى رئيس حكومة
* مسيرة رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب، الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية، تبدأ عمليا من توليه منصبه الأول في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وهو المنظمة النقابية للطلبة التي خضعت، ولا تزال، منذ تأسيسها للحزب الحاكم ولأجهزة الأمن بصورة مباشرة. وتولى حجاب في هذه المؤسسة منصب رئيس المكتب الإداري في دير الزور في الفترة الممتدة بين 1989 و1998، قبل أن يصبح أمينا لفرع حزب البعث الحاكم في دير الزور، حيث بقي في منصبه هذا بين 2004 و2007، تزامنا مع حركة ثقافية اجتماعية وسياسية في المدينة كما في أنحاء سوريا الأخرى، والمعروفة باسم «ربيع دمشق».
وشهد مسار رياض حجاب عبر الإطارين النقابي والسياسي بين اتحاد الطلبة وحزب البعث تطورا مهما، بانتقاله إلى مسؤوليات مباشرة في السلطة التنفيذية، حيث جرى تعيينه محافظا للقنيطرة في عام 2008، ثم محافظا للاذقية. وفي هاتين المنطقتين خصوصية مهمة، حسبما يؤكد عضو الائتلاف المعارض فايز سارة لـ«الشرق الأوسط»، إذ تتجاوز السلطة والإدارة على ما يمكن أن تكون عليه في محافظات سورية أخرى، فالقنيطرة محافظة التماس مع إسرائيل ولها خصوصية أمنية، وحال اللاذقية ليس أقل أهمية من الناحية الأمنية والسياسية، وفيها كثير من مراكز القوى أبرزها آل الأسد الذين يصعب تسييرهم وضبطهم بالشكل التقليدي لآليات الضبط المعروفة في المحافظات الأخرى، ما يتطلب علاقات خاصة وأدوات مختلفة مع رأس النظام في دمشق ومع الأجهزة الأمنية، التي لا شك أنها الحاكم الفعلي في سوريا.
في أبريل (نيسان) 2011، أي بعد أسابيع على انطلاق الحراك الشعبي المناوئ للنظام، شغل حجاب، وهو متزوج ولديه أربعة أولاد، منصب وزير الزراعة في حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل سفر واستمر وزيرا حتى السادس من يونيو (حزيران)، تاريخ استقالته من الحكومة.
بعدها، كلفه الرئيس السوري بشار الأسد، في مرسوم رئاسي حمل رقم 149، بتشكيل حكومة جديدة، فكان ذلك وبقي في منصبه نحو شهرين، قبل أن يعلن في 6 أغسطس 2012 انشقاقه عن النظام، وغادر سوريا مع عائلته إلى الأردن لينضم منذ ذلك الحين إلى صفوف المعارضة السورية.
ويبدو الآن أن رئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب الأكثر حظوظا في الوصول إلى رئاسة الائتلاف، في ظل تقارير إعلامية قبل أيام أفادت باجتماع ضم عددا من أعضاء الائتلاف المعارض، قرروا خلاله التوافق على التصويت لمصلحة حجاب، في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف في الخامس من الشهر المقبل.
وتعليقا على هذه التسريبات، نفى الناطق باسم الائتلاف المعارض لؤي الصافي وجود أي اسم «مرشح رسميا» للرئاسة، واضعا ما نشرته بعض وسائل الإعلام في سياق «التكهنات والتوقعات»، مشيرا إلى أن «تحركات داخل الكتل السياسية الممثلة في الائتلاف للتفاهم على مرشح، وثمة أسماء يجري تداولها، ومن المرجح أن تُرشح نفسها أو يجري ترشيحها من قبل كتلها».



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين