مغامرة الشاعر وسيرة القصيدة المُعلّقة

دراسة نقدية عن تجربة نوري الجراح الشعرية

مغامرة  الشاعر وسيرة القصيدة المُعلّقة
TT

مغامرة الشاعر وسيرة القصيدة المُعلّقة

مغامرة  الشاعر وسيرة القصيدة المُعلّقة

وظيفة النقد ليستْ بعيدة عن وظيفة القراءة الفاعلة، وحين يمارس الناقد هذه الوظيفة فإنه حتما سيجد نفسه أمام لعبة من الكشوفات المفتوحة، والسرائر التي تتطلب شغف المغامرة والمراودة، ليس لأنّ القراءة متعة لا قيود لها، بل لأنّ فاعلية النقد ستمنح القراءة أفقا لتجاوز مرحلة ما بعد المتعة، وباتجاه أن تكون أسئلة في المعرفة...
في كتابه الجديد (القصيدة المعلقة- في شعر نوري الجراح) الصادر عن دار المتوسط- ميلانو-2018 يضعنا الناقد مفيد نجم عندما سماه بـ(المغامرة) حيث دينامية القراءة، وشعرية ما تُتيحه من معطياتٍ لها تمثّلاتها الفنية- الصياغية، والجمالية- الرؤيوية، والتي تضع التجربة الشعرية العميقة لنوري الجراح وكأنّها شاهدٌ على تحولاتِ القصيدة، وعلى تحولاتِ الواقع، فالقصيدة تستثمرُ طاقة الوعي، وطاقة التحوّل، لكي تصل بالشاعر حدّ التعري، وحدّ الرفض والاحتجاج...
الناقد يدرس في كتابه (تجربة الشاعر نوري الجراح من خلال أعماله الشعرية المكتوبة على مدار ثلاثين عاما) كما يقول الناشر، وهي تجربة أو شهادة على زمنٍ شعري عربي عاصف بالتحولات والصراعات، لكن ما يُميّز هذه التجربة خصوصيتها الجمالية، ورؤيتها الشعرية المفارقة للأحداث والوقائع واليوميات...
ضمّ الكتابُ عتبة تعريفية، ومحورين تناولا فصولاً وموضوعات توزعت بين ثنائية العنوان والمتن، وبين شعرية القيامة السورية، وهي اشتغالات أدرك أهميتها الناقد كإجراءات للمكاشفة، وللتعاطي مع تجربة الشاعر ومع براديغمات قصائده...

الكتابة بوصفها لعبة في المواجهة

المحور الأول (من العنوان إلى المتن) انحنى على مقارباتٍ تمسّ الجانب الدلالي في العنوان، وفي حمولاته، فضلا عن جملة من الفعاليات التي تخصّ (التناص والانزياح والتكرار) والتي برزت أهميتها من خلال جرأة الشاعر وجدّته في توظيفها، وفي كتابة مراثيها وفجائعها...
العنوان عتبة، لكنه حمولة دلالية أيضا، وأنّ له مستوى (إحاليا) إلى ما يمكن أنْ تحفل أعمال الشاعر الجراح والتي عكست عبر عناوينها ومتونها (مراحل تطور التجربة وتناميها، وبشكلٍ يُدلّل فيه على أهمية الوظيفة التي يلعبها العنوان) ص13.
إذ لا يمكن لهذا العنوان أنْ ينفصل عن القصيدة، ولا حتى عن المجموعة، لأنه جزءٌ من حساسية وعي الشاعر، ومن لعبة بنائه للقصيدة، وأنّ ما يُحيل إليه العنوان لا يحمل معه طابعا (خارجيا) بالقدر الذي يساكن من خلاله الشاعر فكرته، وخطابه، وتعالقه مع وقائع الحزن و(النضال) والحلم الذي ينخرط فيها، وهو ما وجده الناقد في ديوان (يوم قابيل والأيام السبعة) وفي (يأس نوح) بوصفها سيرة للملحمة السورية...
في الفصل الثاني حاول الناقد معالجة ثنائية (الآليات والوظيفة) في شعرية الجراح من خلال مقاربة (التناص والعلاقات التناصية) حيث تستدعي هذه المقاربة مجموعة من الانشغالات، والتي تخصّ (مستوى التشكيل البصري، والصورة الاستعارية، أو قصيدة القناع والشخصية والنشيد) ص29. وهي تمثلات لها دلالاتها، ولها وظيفتها الجمالية، وعبر ما تتقنّع به من إحالات أسطورية أو قرآنية، أو مسيحية، وعبر ما تقترحه من رموز يتماهى معها الشاعر بدلالة وضعها في التاريخ، أو في البنية الدرامية، أو في رؤيا (الأنا) الشعري وهي ترى، وتهجس، بوصفها الأنا الرائية، حاملة النشيد، والصليب، والمسكونة بعلاقات تناصية أكثر تعبيرا عن وجود الشاعر، وإشباعاته، واستيهاماته، والتي كثيرا ما نجدها في قصائد الشاعر الطويلة.
في الفصل الثالث يجد الناقد في تقانة (الانزياح) ملمحا أسلوبيا في شعرية الجراح، ولطبيعة تمثلات انشغالاته الشعرية، حيث يجد في انتهاك ما هو مباشر نزوعا نحو المغامرة، ولـ(إقامته روابط وعلاقات متغايرة داخل اللغة ومعها) ص70.
وللكشف عن جدة الطاقة التعبيرية في علاقتها باللغة، أو في علاقتها بالواقع، وبما يحوط الشاعر من عالم اغترابي مسكون بالرعب والخوف والمحو...
عمد الناقد إلى إبراز أهمية الانزياح في تجربة الشاعر من خلال مستويات وظائفه كـ(انزياح دلالي، انزياح الحذف أو انزياح الصمت، المحددات والضمائر والسياق، الانزياح النحوي، الإيجاز بالحذف، التقديم والتأخير) وهي وظائف أو خاصيات أسلوبية استغرقت البناء التصويري والرؤيوي لقصائد الشاعر، ولبيان خصوصية تجربته في المشهد الشعري السبعيني العربي...

التقانة ووظائفية البناء الشعري

من أكثر سمات تجربة الجراح الشعرية هي مهارته في تعالق التقانة مع الوظيفة، وبما يُعطي لهوية القصيدة سمة تجريبية، تدّل على فاعليتها كخطاب، وعلى دلالتها كقيمة اجتماعية وفكرية، ولعل الجانب الوظائفي في كتابته كان أكثر تعبيرا عن تلك المهارة، فهو يجد في التكرار وفي التوظيف الاستعاري مجالين مفتوحين على تقانات وظيفية أخرى، على مستوى استخدام الضمائر، أو على مستوى الاختزال والبياض والتكرار وهي وظائف نصية وإيقاعية مهمة في قصيدة النثر...
قراءة الناقد للتوظيف الاستعاري في تجربة الشاعر تحاول أنْ تستكنه علاقته بالتوصيف الشعري، وباستدعاء هذا التوصيف لصيغ كتابية، ولـ(علاقات داخل النص) ص102. حيث تدخل في تأطير (اللغة المجازية والصورة الاستعارية) الخاص بتلك القصيدة، والتي لا تنفصل عن تجربة الشاعر وتحولاتها، وحركيتها، وعن علاقتها مع طبيعة (المجال الذي تتشكّل فيه الصورة الاستعارية) ص105.
بوصفها رؤيا للعالم، أو بوصفها وعيا لـ(التجربة الوجودية) أو لـ(مستوى بنية الجملة الشعرية) وهي تقانات أدرك الناقد أهميتها في تجربة الشاعر الطويلة...
في الفصل السادس من الكتاب (المكان الدمشقي رمزا وأيقونة) حاول الناقد وضع تجربة الشاعر أمام محنة المكان واغترابه، إذ يتبدى المكان الدمشقي هنا بوصفه حضورا عميقا، مقابل لعبة الغياب التي يعيشها، وهذا التضاد ما بين الحضور والغياب ينعكس على رمزية المكان، وعلى دالته في البنية الشعرية، إذ (إنّ مركزية حضور هذا المكان بدلالاته المختلفة في قصائد الشاعر، هي العلامة الدالة على عمق هذا الارتباط النفسي والروحي والوجداني، حيث يكشف طغيات صورة هذا المكان «التراكم المركّب» عن جوهر هذه التجربة) ص111.

شعرية القيامة

علاقة الشاعر بالواقع الدامي هي المجال الذي وجد فيه الناقد سانحته لمقاربة تجربة الشاعر، في لحظات وعيها (الشقي)، أو في لحظة مواجهتها، حيث يكون توهّج وعي الثورة هو القرين لوعي الشاعر، وحيث تمثلاتها لسيرورة خطابها الشعري، وبما يجعلها دالته في المواجهة، وحقيقته التي يصطنع عبرها أسئلته، وأقنعته، ورؤيته، فالشاعر كما يرى الناقد لم يعشها كقربان أو أضحية، بقدر ما كان يستحضرها كقوة خلّاقة (تُنقذ الحياة من العدم والموت) وتمارس وظيفتها الدرامية عبر وعي الصراع ومرجعياته، وعبر تمثلاتها في المقاربات الدينية والأسطورية والمثيولوجية والوجدانية، وعبر وظائفها في البنيات الاستعارية والمجازية، وتقانات الجملة الاسمية، ذات التقانة التصويرية، والتي يحضر فيها المعنى، بوصفه مجالا تعبيرا عن القيمة الشعرية، وعن رؤية الشاعر لما يستدعيه من دلالات وأفكار وصور، أو لاستنفار مخيّلته، وهي تسوح في عالم التراجيديات الكبرى، تلك التي تتبى صورها في شعرية السيرة والمنفى، وفي غربة الشاعر الواقف عند قسوة العزلة الوحشة، وعند أسئلته الوجودية التي تتكئ على قاموس شعري غامر بالتناصات، وبتقانات الفعل- دالة الزمن لمقاربة راهنية الحدث والواقع والمحنة، حتى يبدو الشاعر وكأنه يعيش قيامته من خلال قيامة القصيدة ذاتها، تلك التي تمارس لعبة الخلق، وتكتب المراثي، وترحل في السفائن، وتُقيم الطقوس بوصفها شهادة على الموت السوري، وعلى الشغف بالحرية والتوق إلى الحياة.
* ناقد عراقي



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.