العريض: فرضية ترشح قيادي من «النهضة» للرئاسة ما زالت قائمة

رئيس الوزراء التونسي السابق قال إن النخب السياسية لا تلتزم قواعد الديمقراطية

العريض: فرضية ترشح قيادي من «النهضة» للرئاسة ما زالت قائمة
TT

العريض: فرضية ترشح قيادي من «النهضة» للرئاسة ما زالت قائمة

العريض: فرضية ترشح قيادي من «النهضة» للرئاسة ما زالت قائمة

قال علي العريض، رئيس الحكومة التونسية السابق، إن خروج حركة النهضة من الحكم أثبت للجميع أنها تسعى إلى ضمان التعايش السلمي بين مختلف الأطراف، وتكريس مبدأ التداول على السلطة. واعترف العريض في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط» بوجود صعوبات في صفوف النخب السياسية التونسية في الالتزام بقواعد الديمقراطية، وقال: «حتى الآن ما زال يغلب على بعض تصرفاتها عدم الاعتراف بالآخر، وما زالت تفكر في الاحتكام إلى الشارع واستعمال العنف».
وبخصوص النقد الموجه لحركة النهضة طوال فترة حكمها، قال العريض، إن القيادات السياسية في حركة النهضة لم تكن على وعي كامل بمشكلات الانتقال الديمقراطي، فقد «اتضح أنها أعقد بكثير مما كنا نتصور نحن وشركاؤنا في الحكم». وأشار العريض إلى أن تعذر تدرب حركة النهضة وحلفائها في السلطة وكذلك المعارضة على الحكم هو الذي أدى إلى مأزق سياسي انتهى بتنازل حضاري عن السلطة من أجل الثورة ومحافظة على المسار الديمقراطي.
وفي معرض انتقاده لفترة حكم حركة النهضة، قال إن حزبه بعد انتخابات 2011 لم يبذل الجهد الأكبر، ولم يستمت في البحث عن صيغة ما لإشراك الجميع في تحمل أعباء الحكم، بل إن شقا كبيرا من المعارضة سعى إلى إعاقة عمل الحكومة وإفشالها، على حد قوله، اعتمادا على «ذهنية الحاكم السابق الذي يقرر ويفرض الحل بالقوة»، مشيرا إلى أن هذه الذهنية ما زالت تصطحب الكثير من القيادات السياسية. وبشأن مبادرة الرئيس التوافقي التي طرحتها حركة النهضة، كشف العريض عن وجود تفاعل إيجابي مع تلك الفكرة، ولم يستبعد إمكانية ترشح أحد قيادات حركة النهضة للمنافسة على كرسي الرئاسة، وقال إن الحركة تعتقد أنها «حزب مسؤول مثل بقية الأحزاب الكبرى على مستقبل الديمقراطية في بلادنا، وهو الذي أملى عليها التشاور من أجل رئيس توافقي يضمن الاستقرار السياسي ويبعد عنها شبح الانتكاسة».
واستبعد العريض حصول السيناريو المصري في تونس، لكنه حذر من سيناريو آخر قد يجد طريقه إلى تونس، ويدفع بالبلاد إلى التآكل الداخلي من خلال التراجع الاقتصادي وانعدام الاستقرار الأمني وتهديد مسار الانتقال الديمقراطي.
ولم ينفِ العريض إمكانية معاقبة تحالف الترويكا من قبل بعض الناخبين التونسيين خلال الانتخابات المقبلة.
وفيما يلي نص الحوار:

* غادرت قيادات حركة النهضة السجن، وتولت مسؤولية الحكم، وأصبحت أنت وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة، هل كنت تتوقع في السابق حدوث مثل هذا السيناريو؟
- كانت لدي ثقة كبيرة في تغيير الأوضاع في تونس، وأن الثورة حاصلة قريبا، ومن اليقين أنها لن تبطئ كثيرا. ولكن ما لم يكن حاصلا في ذهني هو أن تتطور الأوضاع وتتسارع الأحداث بتلك الوتيرة لتحصل الثورة سنة 2011. كنت أتابع الحراك الاجتماعي والسياسي المسجل في كثير من جهات تونس، ولكن في الحقيقة لم نكن في حركة النهضة ننتظر نجاح الثورة سنة 2011، فقط كانت الوضعية مفاجئة جدا لكل التونسيين ولكل القوى الدولية التي درجنا على اعتبار أنها سباقة في تصور ما سيحدث.
* وهل كنت على يقين من وصول حركة النهضة إلى الحكم بعد أن ظلت لعقود من الزمن تبحث عمن يعترف بوجودها القانوني؟
- لأن الثورة كانت مفاجئة وسريعة فقد كان الأمر لصالح كل التونسيين ومن ضمنهم أنصار حركة النهضة، ذلك أن الثورة لم تعط فرصة لأي طرف سياسي للتدخل في شؤونها. ولهذا لم تفاجئنا نتائج انتخابات 2011 وكنا متخوفين من رد فعل التونسيين تجاه حركة النهضة التي عمل النظام السابق على تشويهها بكل الطرق.
* وكيف وجدتم الناخب التونسي في انتخابات المجلس التأسيسي (البرلمان)؟
- لا أخفي عليكم أن بعض الأطراف السياسية التونسية اعترضت على تمكين حركة النهضة من الترخيص القانوني، وركزت على المقولة القديمة التي مفادها أن الحركة ذات طابع ديني، وهذا، على حد قولها، مخالف لقانون الأحزاب. ولكن السلطات التونسية بعد الثورة قررت فتح المجال السياسي أمام الجميع.
وعملنا في بداية نشاطنا بعد الثورة على تبديد الشكوك تجاه حركة النهضة، وسعينا إلى تأهيل أبنائها، وإعادة ترتيب أولوياتها. ووجدنا للأمانة تجاوبا كبيرا من قبل الشعب التونسي بعد أن بقينا لمدة عقود ممنوعين من التواصل معه.
* هل كانت لديكم شكوك بشأن رد فعل التونسيين تجاه حركة النهضة؟
- دعني أؤكد لك أننا وجدنا الشعب التونسي أفضل بكثير من عدة أطراف سياسية. فقد كان على استعداد لسماع آرائنا وتوجهاتنا وبرامجنا مباشرة منا نحن، وليس من أطراف أخرى. وقد يكون هذا الأمر هو الذي فسح أمامنا الطريق للفوز في انتخابات 2011 بنسبة تجاوزت 44 في المائة من مقاعد المجلس التأسيسي (البرلمان).
* ولكن تجربة الحكم لم تكن إيجابية في معظم جوانبها فما الذي عطلها، وما تقييمكم للفترة التي قضتها حركة النهضة على رأس الحكومة؟
- تجربة الحكم لا يمكن تقييمها إلا في إطار علاقتها مع تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، ودرجة وعي كل الأطراف بصعوبة المرحلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لذلك أمكن لنا الخروج بمجموعة من الملاحظات من بينها أن الحرية خلقت ارتباكا في صفوف التونسيين، وذلك بفعل أن كل الأطراف السياسية والاجتماعية لم تكن مهيأة لتقبل قواعد التعامل الديمقراطي. فالبلد اعتاد على أن تحل مشكلاته في ظل مناخ استبدادي وبطريقة مستبدة. كما أن المرحلة التي تلت ثورة 2011 كانت صعبة للغاية، فهي مرحلة الصراعات، سواء بين الأحزاب أو داخل الأحزاب نفسها، وقد تفاقمت الأوضاع الاجتماعية والأمنية في ظل مطالبة متواصلة بالتنمية والتشغيل. ولنا أن نشير إلى أن حجم التطلعات كان أكبر بكثير من حجم الإمكانيات المتوفرة في تونس.
* هل يعني هذا أن تحالف «الترويكا» الحاكم بزعامة حركة النهضة كان من دون أخطاء؟
- أنا لم أقل إننا حكمنا دون أن نخطئ، ولكن من الضروري الإشارة إلى ارتفاع منسوب الحرية بعد الثورة، فهذا الأمر هو الذي أثر في الأمن والاستقرار، وخلق مناخا من المطالبات المجحفة التي أدت أحيانا كثيرة إلى الفوضى. ومع ذلك، أظن أن الحكومات التي أعقبت انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 أقدمت على مجموعة من الإصلاحات على مستوى الضرائب وسياسة صندوق دعم المواد الاستهلاكية، وكذلك الأمن، وعملية التنمية في الجهات.
* لكن الانتقادات التي وجهت إلى حركة النهضة كانت كثيرة وفي مجالات متعددة، فهل نفهم من كلامك أن فترة حكم النهضة وشريكيها (حزبي «المؤتمر» و«التكتل») كانت خالية من الأخطاء؟
- هذا غير صحيح، ففي فترة حكمنا اعترضتنا عدة مشاكل؛ أهمها على الإطلاق المحافظة على الحرية (حرية التظاهر - حرية الإعلام - التعددية السياسية، وغيرها من التحديات) من ناحية، والتمسك بمبدأ احترام القوانين والمؤسسات، من ناحية ثانية. وأظن أننا أسسنا الأرضية الكافية لهذا الكسب الكبير الذي نوه به العالم قبل أن نذكره نحن.
كما أننا واجهنا، بكثير من الحنكة السياسية والصبر، التحدي الأمني، وتساءلنا عن الطريقة المثلى للمحافظة على الاستقرار ومقاومة مظاهر الإرهاب، وفي الوقت نفسه الالتزام بمعايير حقوق الإنسان، والابتعاد عن أشكال الانتهاكات كافة. ولذلك، أصلحنا هياكل وزارة الداخلية، وغيرنا رسالة أعوان الأمن، وطبقنا برامج لتكوينهم، وعدلنا عدة قوانين حتى تتماشى مع حرية التظاهر. وما زالت تونس في حاجة إلى جهد إضافي في هذا المجال.
ولكن أصعب تحد واجهنا هو التحدي الاقتصادي والاجتماعي. فتغيير أوضاع الناس يتطلب مدة أطول مما كان متوفرا لدينا، في حين أن معدل عمر الحكومات التي تعاقبت على تونس بعد الثورة لا يزيد على السنة في معظم الحالات. ومع ذلك، سعينا إلى معالجة الأوضاع العاجلة، ولكن الإصلاحات العميقة على مستوى الاستثمار والتنمية تتطلب وقتا أكثر. ونستطيع القول إننا قطعنا خطوات في هذا المجال من خلال سن قانون جديد للاستثمار وقانون الطاقة والإصلاح المالي والبنكي، لكن هذه الإصلاحات لن تعطي مردودية ملموسة إلا بنجاح المهمة السياسية وتحقيق الاستقرار والأمن.
لقد مضت الدولة في تنفيذ استثمارات كثيرة، ولكن رأس المال الخاص ما زال مترددا تحت ضغط التجاذبات السياسية وتعذر وضوح الرؤية. كما أننا على مستوى العدالة الانتقالية سعينا إلى تسوية ملفات الماضي ومقاومة الفساد، ولم نسع طوال فترة حكمنا إلى سياسة انتقامية، بل حاولنا معالجة الملفات واستخلاص العبرة حتى لا تتكرر مآسي الماضي نفسها.
* لكنك عددت إنجازات الترويكا ولم تذكر لنا أخطاءها؟
- إذا كان هناك من نقد يمكن أن يوجه لحركة النهضة، فهو أن قياداتها لم تكن على وعي كامل بمشاكل الانتقال الديمقراطي، فقد اتضح أن المرحلة أعقد بكثير مما كنا نتصور نحن وشركاؤنا في الحكم. وذهب إلى ظننا أن إعلان نتائج انتخابات 2011 سيؤدي على الفور إلى الاستقرار السياسي والأمني والتفكير في حلول للملفات الشائكة، ومن ثم تسجيل نسبة نمو بإمكانها استيعاب جزء مهم من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين. وهذا الأمر يسري علينا وعلى أحزاب المعارضة، إذ إننا لم نكن مدربين على الحكم، بل إنه لمن المفارقات أن يكون الشعب التونسي أكثر قبولا والتزاما بنتائج الصندوق وعمليات الاقتراع أكثر من النخب السياسية وبعض الأحزاب المعارضة. فالكثير من التونسيين انتقدوا واحتجوا، ولكنهم تعاملوا في نطاق احترام القانون، في حين أن النخب السياسية وجدت صعوبات في الالتزام بقواعد الديمقراطية، وحتى الآن ما زال يغلب على بعض تصرفاتها رفض الاعتراف بالآخر، وما زالت تفكر في الاحتكام إلى الشارع واستعمال العنف.
ولكن بالمقارنة مع بقية دول الربيع العربي، فإن النخبة السياسية في تونس كانت متقدمة ومكنت من نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في أصعب الظروف.
* لكن الطرف الذي يحكم هو الذي تقع عليه المسؤولية كاملة، ولا يمكن توجيه اللوم إلى النخب السياسية التي ظلت تراقب عملية الانتقال الديمقراطي بحذر كبير وشكوك أكبر؟
- هذا عين العقل، ونحن في حركة النهضة نرى أننا بعد انتخابات 2011 لم نبذل الجهد الأكبر، ولم نستمت في البحث عن صيغة ما لإشراك الجميع في تحمل أعباء الحكم، بل إن شقا كبيرا من المعارضة سعى إلى إعاقة عمل الحكومة وإفشالها.
وأود الإشارة إلى تواصل العقلية القديمة في التعاطي مع السلطة، إذ ذهب إلى ظن الجميع أن من يجلس على كرسي السلطة يطلب منه إنجاز كل شيء، وهذا يعني أن ذهنية الحاكم السابق الذي يقرر ويفرض الحل بالقوة ما زالت تصطحب الكثير من القيادات السياسية، بينما التفكير الأسلم أن البناء الديمقراطي يعتمد بالأساس على مؤسسات الدولة المتعددة، وأن القرار ليس بيد السلطة نفسها، بل تتقاسمه مع عدة أطراف أخرى؛ من بينها الإعلام وهياكل المجتمع المدني والرأي العام والأطراف الاجتماعية والقضاء.
لذلك، وأنت في مركز السلطة لا تفكر وحدك في قرارات وتنفذها، بل يجب أن تفكر في أن جزءا من القرار بيد أطراف أخرى، ولذلك تكون على قناعة أكثر من أي وقت مضى بأن دور الحكومة هو البحث عن تسويات بين مصالح متعارضة ومتناقضة.
* وهل هذه محاولة منكم للتنصل من المسؤولية في ظل سيل الانتقادات التي أدت إلى خروج الترويكا بزعامة حركة النهضة من السلطة؟
- أقر بأن الوعي بتعقد الأوضاع الاجتماعية قد ازداد حاليا، وأن أمر إخراج البلاد من واقعها المتردي يتطلب جهدا جماعيا. وقد اقتنعت قيادات حركة النهضة بتلك الصعوبات منذ البداية بعد احتكاكها بالملفات الشائكة الكثيرة، وقررت في نهاية المطاف إجراء تغيير حضاري على الحكومة بعد ترسيخ مبدأ التعايش بين الجميع والتداول السلمي على السلطة.
* لكن الكثير من متابعي الثورة التونسية اعتقدوا أن حركة النهضة اتخذت الحل الأسوأ، من خلال خروجها من الحكم في ظل شبح السيناريو المصري وإمكانية انتقاله إلى تونس.
- من الغريب أنه يوجد بيننا في تونس من ما زال ينوه بالسيناريو المصري ويود لو يحصل. ومع ذلك، نقول إن سيناريو آخر قد يجد طريقه إلى تونس ويدفع البلاد إلى التآكل الداخلي، من خلال التراجع الاقتصادي وانعدام الاستقرار الأمني وتهديد مسار الانتقال الديمقراطي. لقد كان لدينا خياران: إما التمسك بالشرعية ونتائج الانتخابات، وإما إتمام مسار الانتقال الديمقراطي، ففضلنا خيار الخروج من الحكم عوض التضحية بالثورة التي تعبنا من أجلها.
* بعد إزاحة إخوان مصر من الحكم، ألا ترون أن المهمة المقبلة مهما طالت الفترة ستكون موجهة إلى حركة النهضة؟
- حركة النهضة تونسية بالأساس، وهي تزداد تجذرا في أرضيتها، وتعتني بتدبير الشأن العام، وهي بذلك تختلف مع إخوان مصر على مستوى التجديد الفكري. فاهتمامنا موجه إلى العناية بالمشاكل الاجتماعية للتونسيين. ولا يمكن المقارنة بين الحركتين على الأقل، من ناحية موقع الدين والأسرة في تفكير كلا التنظيمين.
* وهل تعود حركة النهضة، في رأيكم، إلى الحكم من جديد بعد تجربة أولى لم يكتب لها النجاح الكامل؟
- لا شك في أن الخريطة السياسية ستتغير خلال الانتخابات المقبلة، وستتخلص أعداد كبيرة من الناخبين من الأحكام المسبقة الصادرة عن الأحزاب والمنظمات. وأعتقد أن الشعب التونسي خبر أهم الأحزاب والشخصيات، وتعرف على حقيقة وإمكانيات كل طرف، وصار واضحا لديه من يعمل ويجتهد حتى وإن أخطأ، ومن كانت مواقفه متذبذبة بين العمل من أجل الديمقراطية، من ناحية، وسرعة الانتكاس عليها، من ناحية أخرى، ولا يمكن عمليا مواصلة مغالطة التونسيين ببعض الشعارات الآيديولوجية القديمة.
* ألا تعتقد أن جزءا من الناخبين التونسيين سيعاقبون «الترويكا» نفسها، أم أن العقوبة ستوجه هذه المرة إلى أحزاب المعارضة؟
- لا شك أن بعض التونسيين سيعاقبون تحالف «الترويكا»، إذ يعتبرونه مسؤولا عن عدم تحقيق جزء من أحلامهم. ونحن نعلم أن الكثير من الأحزاب في العالم التي حكمت خلال المراحل الانتقالية غالبا لا يقع التجديد لها في أول انتخابات حقيقية. لكن التونسيين سيختارون أفضل القيادات السياسية الموجودة بعد أن خبروا مدى جدية كل الأحزاب. ونحن نعتقد أن البعض قد يتراجع عن دعم حركة النهضة، ولكن تعويضهم ممكن من بين من تبددت شكوكهم تجاه الحركة.
لقد استهدف الكثير من التونسيين حركة النهضة قبل الثورة وبعدها، وشككوا في إيمانها بالديمقراطية، واستهدفت إعلاميا بكونها ضد الحرية، وستفرض نمط عيش معينا بالقوة على التونسيين، لكن كل هذه الظنون والشبهات ذهب الجزء الأكبر منها. وكان حرصنا أثناء حكمنا على ضمان الحرية، وأثبتنا أن الدولة لا تتدخل في دين الناس، وسعينا إلى ترشيد الخطاب الديني وضمان مكتسبات التونسيين.
* بشأن مبادرة الرئيس التوافقي التي طرحتها حركة النهضة، ألا تعتقدون أنها ضرب مباشر للديمقراطية وحرية الترشح والاختيار بين المرشحين؟
- نعتقد داخل حركة النهضة أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة شأن سياسي كبير سيطبع حياة التونسيين لمدة خمس سنوات مقبلة، وربما لسنوات أخرى بفعل ما ستتمخض عنه تجربة الحكم في فترة الاستقرار السياسي. ولدينا معلومات أن عدد المرشحين سيكون أكثر من عشرة مرشحين، وهذا حسب تقديرنا يشتت الأصوات، لذلك فكرنا في التشاور الذي نعده ولاّد أفكار وحلول، والخروج بشخصية توافقية تحظى بدعم أكبر وبشرعية كبرى مما يمكنها من العمل في أجواء توافقية. ولمنتقدينا نقول إن حركة النهضة لم تقدم مرشحا، وأجرينا اتصالات، ولا نمارس وصاية على أحد. ولعلمكم حركة النهضة لم تقدم مرشحا من داخلها أو من خارجها حتى الآن. وغاية هذه المبادرة هي الابتعاد عن الاستقطاب الحاد وجعله ينتهي بالإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وخلال الفترة الماضية وجدنا تفاعلا إيجابيا من عدة أطراف سياسية، وأجرينا اتصالات هدفها الذهاب بقلب مفتوح إلى الانتخابات المقبلة، ونريد الرفق بتجربتنا الديمقراطية الناشئة حتى نجنبها كل أشكال الانتكاس وعودة الاستبداد. ومع ذلك فإن فرضية ترشح أحد قيادات حركة النهضة في الانتخابات الرئاسية المقبلة ما زالت قائمة الذات ولم نستبعدها تماما.
* لكن مقترح الرئيس التوافقي ترك تساؤلات عدة حول نوايا حركة النهضة وسعيها إلى الهيمنة من جديد على القرار السياسي؟
- نحن في حركة النهضة نعتقد أننا حزب مسؤول مثل بقية الأحزاب الكبرى على مستقبل الديمقراطية في بلادنا، ونحن بعيدون كل البعد عن الشك والريبة لأننا لم نقدم مرشحا من داخلنا، ولم نقدم شخصية سياسية وندعو إلى دعمها على حساب بقية المرشحين. ولكن دعني أشر إلى أن الشخصية التي ستدعمها حركة النهضة باعتبارها من أكبر الأحزاب السياسية على الساحة هي التي ستكون لها حظوظ كبيرة في النجاح في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وتجد نفسها في الدور الثاني، وربما هذا هو مربط الفرس كما يقال.
* لكن هذا المقترح لم يجد الدعم الكامل وعارضه بعض المرشحين للرئاسة.. هل هناك أسباب، حسب رأيكم، للرفض أو القبول؟
- ننتظر أن يقبل بعض المرشحين برؤية أنفسهم خارج موقع الرئاسة، وربما يجد البعض الآخر صعوبات في قبول التخلي عن الترشح سواء في الدور الأول أو الثاني. ولكن طرح الفكرة أهم بكثير من مجرد التفكير في نتائجها.
* وماذا عن الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة وحرة نداء تونس.. وهل هناك نوايا خفية لاقتسام السلطة بعد الانتخابات كما اتهمكم جزء من المعارضة؟
- يبدو أن استطلاعات الرأي التي جعلت الحركتين في مراتب أولى في أكثر من مناسبة، هي التي أدت إلى هذا الاستنتاج الذي هو ليس في صالح بقية الأحزاب السياسية. نحن نريد أن تتوحد بقية الأحزاب وأن تشكل تحالفات ذات وزن، فهذا في صالح حياة سياسية سليمة، ونود أن تتوزع الساحة إلى أكثر من قطب سياسي، ونريد مجموعة من الأحزاب السياسية التي تطمئننا على مستقبل الديمقراطية في تونس.
* وكيف تقرأون الخريطة السياسية المقبلة، وهل من تغييرات جوهرية؟
- أنتظر شخصيا تشكل ثلاثة أقطاب سياسية كبرى وليس استقطابا ثنائيا حادا كما صورته بعض القيادات السياسية، فحركة النهضة وحركة نداء تونس والجبهة الشعبية يمكن أن تمثل هذه الأقطاب السياسية.
* لكن البناء الديمقراطي في تونس مهدد بآفة الإرهاب، فكيف تعاملتم مع هذا الملف، وما هي استراتيجية الدولة في هذا المجال؟
- من الضروري الإشارة إلى أن ملف الإرهاب متشابك ومعقد ويتجاوز الحدود الوطنية من حيث تداخل وتعدد عناصره. نحن نختلف تمام الاختلاف مع الأفكار التي تتبنى العنف وتحمل الأسلحة في وجه الدولة، ولدينا مشروع مجتمعي على اختلاف جوهري مع التيارات المتطرفة، إذ سعينا إلى احترام الإسلام وتوطينه وترسيخ المكتسبات الإنسانية من خلال حماية حرية المرأة ودعم المناخ الديمقراطي، لذلك لا نعد أن الإسلام في صراع مع العصر، بل علينا أن نستنبت في تربة الإسلام كل نبتة طيبة تخدم مقاصد الإسلام.
* ومع ذلك اتهمت حركة النهضة بدعم الجماعات المتطرفة وغض الطرف عن أنشطتها خاصة خلال الفترة الأولى التي تلت الثورة..
- لقد طرحنا الموضوع بجدية وتساءلنا عن طريقة سلمية للتعامل مع الأفكار المتشددة، ودعوناهم إلى الالتزام بقوانين البلاد، ولكن جزء صغيرا من تلك التنظيمات ذات التفكير المنغلق فكر في حمل السلاح ضد أجهزة الدولة، ورفض نمط التدين في تونس، ونعني بتلك التنظيمات أنصار الشريعة، على وجه الخصوص. وحاولنا التفرقة بين من يدعو إلى الدين بطريقة سلمية ومن يحاول فرض تفكير معين على التونسيين. ولنقل إن قيادات حركة النهضة هي التي خلصت إلى تأكيد وجود جناح مسلح داخل تنظيم أنصار الشريعة، وأن بعض الساسة لم يكن على علم بذلك. ومنذ فترة أصبح التونسيون يدركون الفرق بين حركة النهضة والتنظيمات السلفية التي لم تظهر إلى الوجود بأفكارها المتطرفة بعد الثورة كما يذهب إلى ظن الكثير من التونسيين.
* لكن الوقوف على خطورة الإرهاب كانت فاتورته ثقيلة، إذ عرفت البلاد اغتيالين سياسيين، وسالت دماء كثيرة خاصة بين قوات الأمن والجيش..
- الدولة لاحقت وستلاحق وتجرم ممارسات الأشخاص الخارجين عن القانون، ولا شك أننا في تونس سجلنا نقاطا حاسمة ضد الإرهابيين، فهم محل محاصرة وملاحقة، كما أننا نجحنا في تفكيك تنظيم أنصار الشريعة وتعرفنا على خلاياه وطرق تمويله، وخلصنا إلى حظر أنشطته. ومع ذلك نقول إننا لسنا في مأمن من حصول عمليات إرهابية جديدة ضد الأفراد أو المؤسسات، لكننا تقدمنا في ضبط أمننا الداخلي، ونرى أن موضوع مقاومة الإرهاب طويل ومتواصل، كما أن مخاطره قد لا تأتينا بالضرورة من تونس. ونطلب من كل الأطراف أن تبذل جهدا أكبر على المستوى التربوي وفي المساجد وداخل العائلات، من أجل محاصرة الأفكار الهدامة.
* هل سنرى حركة النهضة من جديد في الحكم، وما هي النسبة المئوية التي تنشدها في الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
- من المغامرة تقدير حجم الأحزاب السياسية خلال هذه المرحلة. فحالة الحراك السياسي متواصلة، وهي قد تفرز الكثير من التحالفات السياسية خلال الأشهر المقبلة. وأعتقد أن استطلاعات الرأي فيها الكثير من الصحة، فلحركة النهضة وأحزاب أخرى قاعدة انتخابية مستقرة وقارة. لكن التخوف اليوم يأتي من إمكانية إحجام التونسيين عن المشاركة في الانتخابات، وهذا هو الخطر بالنسبة لنا، إذ إن التوقعات تشير إلى أن قرابة 40 في المائة من التونسيين لم يحددوا بعد لمن سيصوتون.
وترجيحي الشخصي أن المشاركة في الانتخابات المقبلة ستكون مهمة، وأن التونسيين سيتجاوزون مناداة بعض الأحزاب، على غرار حزب التحرير، لمقاطعة الانتخابات، والتي يقولون إنها مقاطعة نشطة. فأغلب الأحزاب تدعم المشاركة بقطع النظر عن الفائز، وهذا شيء إيجابي للغاية. ننتظر تحمسا جماعيا لإنجاح الانتخابات، ومشاركة فعالة، وتوجيه أصوات الناخبين لمن يستحقونها فعلا.



تصعيد «الانتقالي» الأحادي يهزّ استقرار الشرعية في اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
TT

تصعيد «الانتقالي» الأحادي يهزّ استقرار الشرعية في اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)

يشهد شرق اليمن، وتحديداً وادي حضرموت ومحافظة المهرة، واحدة من أكثر موجات التوتر خطراً منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل (نيسان) 2022، وسط تصاعد في الخطاب السياسي، وتحركات عسكرية ميدانية، وإعادة رسم للتحالفات داخل المعسكر المناهض للحوثيين؛ الأمر الذي يضع البلاد أمام احتمالات مفتوحة قد تنعكس على كامل المشهد اليمني، بما في ذلك مسار الحرب مع الجماعة الحوثية، وواقع الإدارة المحلية، ووضع الاقتصاد المنهك.

وفي هذا السياق، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي بوضوح نيته المضي نحو تعزيز سيطرته الأمنية في وادي حضرموت. وقال علي الكثيري، رئيس الجمعية الوطنية للانتقالي، إن «الانتصارات الأخيرة شكلت بارقة أمل لأبناء حضرموت»، مشيراً إلى أن «مرحلة ما بعد التحرير تتطلب تضافر الجهود للحفاظ على المكتسبات».

رئيس مجلس الانتقالي الجنوبي عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني عيدروس الزبيدي (أ.ب)

وكان لافتاً حديثه عن أن «تأمين وادي حضرموت يمثل أولوية قصوى»، في إشارة مباشرة إلى مطلب الانتقالي القديم بإخراج القوات الحكومية من الوادي واستبدالها بقوات «النخبة الحضرمية» الموالية له، بالتوازي مع تأكيده أنّ الجنوب «مقبل على دولة فيدرالية عادلة»، في تكرار لرؤيته الداعية إلى إنهاء الوحدة بصيغتها الحالية.

بالنسبة للانتقالي، فإن السيطرة على وادي حضرموت والمهرة ليست مجرد توسع جغرافي؛ بل جزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى ترسيخ النفوذ جنوباً استعداداً لأي تسوية سياسية مقبلة بخاصة في ظل مطالب المجلس باستعادة الدولة التي كانت قائمة في جنوب اليمن قبل 1990.

موقف العليمي

في المقابل، صعّد رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي خطابه بعد أن غادر العاصمة المؤقتة عدن بالتوازي مع تصعيد المجلس الانتقالي؛ إذ شدد بشكل واضح على «انسحاب القوات الوافدة من خارج حضرموت والمهرة» وتمكين السلطات المحلية من إدارة شؤون المحافظتين.

وجاءت مواقف العليمي من خلال تصريحاته أمام السفراء الراعيين للعملية السياسية في اليمن، وأخيراً من خلال اتصالات هاتفية مع محافظي حضرموت والمهرة، في رسالة أراد من خلالها تقديم دعم مباشر للسلطات المحلية والدفع نحو تهدئة التوتر بعيداً عن الخطوات الأحادية التي أعلنها المجلس الانتقالي.

رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي (سبأ)

وشدد العليمي على ضرورة «عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه»، محذراً من مخاطر التصعيد على الاقتصاد والواقع الإنساني. كما دعا إلى «تحقيق شامل في الانتهاكات المرافقة للإجراءات الأحادية»، في إشارة إلى الاعتقالات والإخفاءات التي تقول جهات حقوقية إنها رافقت عمليات الانتقالي في بعض المناطق الجنوبية.

ويبرز من هذه التصريحات حجم الهوة داخل مجلس القيادة الرئاسي نفسه؛ إذ يتحرك كل طرف من أطرافه بشكل مستقل، بينما تتسع الفجوة بين مواقف العليمي والانتقالي بشأن مستقبل الإدارة الأمنية والعسكرية للشرق اليمني.

مخاوف واسعة

يثير تصاعد الأحداث في شرق اليمن مخاوف من أن تتحول حضرموت والمهرة، وهما أكبر محافظتين في البلاد مساحة، إلى بؤرة صراع داخلي قد تجرّ اليمنيين إلى فوضى جديدة. فالمنطقة، التي تمتاز بامتدادات جغرافية واسعة وثروات نفطية ومنافذ برية مهمة مع السعودية وسلطنة عُمان، حافظت لسنوات على نمط من الاستقرار النسبي مقارنة بمناطق الحرب الأخرى.

لكن دخول قوات إضافية وفرض وقائع أمنية وعسكرية قد يؤدي إلى تقويض الإدارة المحلية التي تعتمد على التوازنات القبلية والسياسية، وعرقلة إنتاج النفط الذي يمثل شرياناً اقتصادياً أساسياً، مع ارتفاع خطر الجماعات المتطرفة التي تستغل عادة الفراغات الأمنية، إضافة إلى تعميق الانقسام داخل مجلس القيادة الرئاسي وانعكاس ذلك على قدرته في إدارة ملفات الحرب والسلم.

كما يهدد التصعيد بتفاقم الأزمة الإنسانية في بلد يعيش أكثر من 23 مليون من سكانه على المساعدات، بينما تشير تقارير أممية إلى أن 13 مليوناً قد يبقون بلا دعم إنساني كافٍ خلال العام المقبل.

تنسيق الزبيدي وصالح

على خلفية هذه التطورات، أجرى طارق صالح اتصالاً برئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، في خطوة أضافت طبقة جديدة من التعقيد، بخاصة وأن الطرفين عضوان في مجلس القيادة الرئاسي الذي يقوده العليمي.

وحسب بيان الانتقالي، ناقش الطرفان «سبل التنسيق المشترك لإطلاق معركة لتحرير شمال اليمن من الحوثيين»، مؤكدين أن «المعركة واحدة والمخاطر واحدة»، مع الإشارة إلى تعاون مستقبلي لمواجهة «الجماعات الإرهابية» بما فيها الحوثيون وتنظيم «القاعدة».

المجلس الانتقالي الجنوبي يطالب باستعادة الدولة التي كانت قائمة في جنوب اليمن قبل 1990 (أ.ف.ب)

هذا التواصل ليس عادياً؛ فهو يجمع بين قيادتين تنتميان لمدرستين سياسيتين مختلفتين، الزبيدي بمشروعه الانفصالي جنوباً، وطارق صالح بمشروع «الجمهورية الثانية» شمالاً. لكن المشترك بينهما هو الرغبة في إعادة ترتيب موازين القوة داخل المعسكر المناهض للحوثيين، وتشكيل محور عسكري قادر على التحرك خارج حسابات الحكومة الشرعية، غير أن الرهان دائماً سيكون منوطاً بالإيقاع السياسي الذي تقوده الرياض.

وحسب مراقبين، يسعى الطرفان إلى استثمار الجمود في مسار التفاوض مع الحوثيين وملء الفراغ الناجم عن التغاضي الدولي تجاه الوضع في اليمن؛ وذلك لصياغة تحالف جديد يعيد تشكيل الخريطة السياسية، ويمنح كلاً منهما مساحة أكبر للتأثير، لكن كل ذلك يبقى غير مضمون النتائج في ظل وجود التهديد الحوثي المتصاعد.

بين الحوثيين والانتقالي

تأتي هذه التطورات في وقت تتراجع فيه العمليات القتالية بين الحكومة والحوثيين على معظم الجبهات. ومع أن الحوثيين يواصلون الحشد والتجنيد، فإن خطوط الجبهة الداخلية بين شركاء «معسكر الشرعية» باتت أكثر اشتعالاً من خطوط القتال مع الحوثيين أنفسهم.

ويحذّر خبراء من أن أي انقسام إضافي داخل هذا المعسكر سيمنح الحوثيين هامشاً أوسع لتعزيز نفوذهم، خصوصاً أنهم يراقبون من كثب ما يجري في الشرق، حيث تعتمد الحكومة الشرعية على الاستقرار هناك لضمان مرور الموارد والتحركات العسكرية.

وبين دعوات الانتقالي إلى «مرحلة ما بعد التحرير»، ومطالب العليمي بعودة القوات إلى تموضعها السابق، ومحاولات الزبيدي وطارق صالح لتشكيل موقف موحد، يجد سكان حضرموت والمهرة أنفسهم أمام مشهد معقد يشبه صراع نفوذ متعدد الطبقات.

وفد سعودي برئاسة اللواء محمد القحطاني زار حضرموت لتهدئة الأوضاع (سبأ)

فالمنطقة التي لطالما عُرفت بقبائلها وامتدادها التجاري والاجتماعي مع دول الخليج، باتت اليوم ساحة اختبار لمعادلات سياسية تتجاوز حدودها، وسط مخاوف من أن يقود هذا التصعيد إلى هيمنة على السلطة تتناسب مع المتغيرات التي فرضها المجلس الانتقالي على الأرض، بالتوازي مع تحذيرات من انفجار جديد يعمّق الانقسام اليمني بدلاً من رأبه.

وفي كل الأحوال، يرى قطاع عريض من اليمنيين والمراقبين الدوليين أن العامل الحاسم يظل مرتبطاً بموقف الرياض التي تمسك بخيوط المشهد الرئيسية، وقد دعت بوضوح إلى خفض التصعيد والتهدئة، عادَّة أن أي فوضى في المناطق المحررة في الجنوب والشرق اليمني ستنعكس سلباً على جهود إنهاء الحرب مع الحوثيين، مع اعترافها الواضح أيضاً بعدالة «القضية الجنوبية» التي يتبنى المجلس الانتقالي الجنوبي حمل رايتها.


«خطط الإعمار الجزئي» لرفح الفلسطينية... هل تُعطّل مسار «مؤتمر القاهرة»؟

يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
TT

«خطط الإعمار الجزئي» لرفح الفلسطينية... هل تُعطّل مسار «مؤتمر القاهرة»؟

يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)

حديث عن خطط للإعمار الجزئي لمناطق في قطاع غزة، تقابلها تأكيدات عربية رسمية بحتمية البدء في كامل القطاع، بعد نحو أسبوعين من تأجيل «مؤتمر القاهرة» المعني بحشد تمويلات ضخمة لإعادة الحياة بالقطاع المدمر وسط تقديرات تصل إلى 35 مليار دولار.

تلك «الخطط الجزئية» التي تستهدف مناطق من بينها رفح الفلسطينية، تقول تسريبات عبرية إن حكومة بنيامين نتنياهو وافقت على تمويلها، وهذا ما يراه خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» تماشياً مع خطط أميركية سابقة حال التعثر في الانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، وأشاروا إلى أن مؤتمر القاهرة للإعمار سيعطل فترة من الوقت؛ ولكن في النهاية سيعقد ولكن ليس قريباً ومخرجاته ستواجه عقبات إسرائيلية في التنفيذ.

ونقل موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مسؤول إسرائيلي قوله إن تل أبيب وافقت مبدئياً على دفع تكاليف إزالة الأنقاض من قطاع غزة وأن تتحمل مسؤولية العملية الهندسية الضخمة، وذلك بعد طلب من الولايات المتحدة الأميركية، وستبدأ بإخلاء منطقة في رفح جنوبي القطاع من أجل إعادة إعمارها.

ويتوقع، وفق مصادر الصحيفة، أن تكون إسرائيل مطالبة بإزالة أنقاض قطاع غزة بأكمله، في عملية ستستمر سنوات بتكلفة إجمالية تزيد على مليار دولار.

وترغب الولايات المتحدة في البدء بإعادة إعمار رفح، على أمل أن تجعلها نموذجاً ناجحاً لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتأهيل القطاع، وبالتالي جذب العديد من السكان من مختلف أنحائه، على أن يعاد بناء المناطق الأخرى في مراحل لاحقة، وفق الصحيفة الإسرائيلية.

تلك التسريبات الإسرائيلية، بعد نحو أسبوعين من تصريحات للمتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، تميم خلاف، لـ«الشرق الأوسط»، أكد خلالها أن القاهرة تعمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين على تهيئة البيئة المناسبة لنجاح مؤتمر «التعافي المبكر وإعادة الإعمار في قطاع غزة». في معرض ردّه على سؤال عن سبب تأجيل المؤتمر.

وفي 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قال مصدر مصري مطلع لـ«الشرق الأوسط» إن المؤتمر «لن ينعقد في موعده (نهاية نوفمبر) وسيتأجل». وأرجع ذلك إلى التصعيد الحالي بالقطاع، وسعي القاهرة إلى توفر ظروف وأوضاع أفضل على الأرض من أجل تحقيق أهدافه، تزامناً مع تقرير عن مخططات إسرائيلية لتقسيم قطاع غزة لقسمين أحدهما تحت سيطرة إسرائيلية والآخر تتواجد فيه «حماس» ولا يتجاوز نحو 55 في المائة من مساحة القطاع.

صبيان يحتميان من المطر وهما جالسان على عربة يجرها حمار في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

واعتمدت «القمة العربية الطارئة»، التي استضافتها القاهرة في 4 مارس (آذار) الماضي، «خطة إعادة إعمار وتنمية قطاع غزة» التي تستهدف العمل على التعافي المبكر، وإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين، وذلك وفق مراحل محددة، وفي فترة زمنية تصل إلى 5 سنوات، وبتكلفة تقديرية تبلغ 53 مليار دولار. ودعت القاهرة إلى عقد مؤتمر دولي لدعم إعادة الإعمار في غزة، بالتنسيق مع الأمم المتحدة.

ويرى عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير رخا أحمد حسن، أن تلك الخطط لن يوافق عليها ضامنو وبعض وسطاء اتفاق غزة باعتبارها مخالفة للاتفاق، وتطرح مع تحركات إسرائيلية لتعطيل المرحلة الثانية بدعوى أهمية البدء في نزع سلاح القطاع أولاً.

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور عبد المهدي مطاوع، أن موافقة إسرائيل على تمويل الإعمار الجزئي وعودة الترويج له إسرائيلياً، يشير لعدم احتمال الوصول لمرحلة ثانية واللجوء لخطة بديلة تحدث عنها جاريد كوشنر صهر ترمب بالبناء في المناطق الخارجة عن سيطرة «حماس» ما دامت الحركة لم تُنهِ بند نزع السلاح، مشيراً إلى أن عودة الحديث عن خطط الإعمار الجزئي تؤخر الإعمار الشامل وتعطي رسالة للدول التي ستمول بأن ثمة عقبات، وبالتالي ستعطل عقد مسار مؤتمر القاهرة.

وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد كوشنر، في مؤتمر صحافي بإسرائيل، أن إعادة إعمار غزة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي «مدروسة بعناية وهناك اعتبارات جارية حالياً في المنطقة الخاضعة لسيطرة جيش الدفاع الإسرائيلي، ما دام أمكن تأمينها لبدء البناء كغزة جديدة، وذلك بهدف منح الفلسطينيين المقيمين في غزة مكاناً يذهبون إليه، ومكاناً للعمل، ومكاناً للعيش»، مضيفاً: «لن تُخصَّص أي أموال لإعادة الإعمار للمناطق التي لا تزال تسيطر عليها (حماس)».

فلسطينيون نازحون يسيرون أمام المباني المدمرة في حي تل الهوى في الجزء الجنوبي من مدينة غزة (أ.ف.ب)

تلك الخطط الجزئية تخالف مواقف عربية، وشدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، في اتصال هاتفي، الخميس، على ضرورة التنفيذ الكامل لاتفاق وقف الحرب في القطاع، وحتمية البدء في عملية إعادة إعمار القطاع، وفق بيان للرئاسة المصرية.

وفي مقابلة مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون، بـ«منتدى الدوحة»، الأحد الماضي، قال رئيس الوزراء القطري، محمد عبد الرحمن آل ثاني «لن نتخلى عن الفلسطينيين، لكننا لن نوقّع على الشيكات التي ستعيد بناء ما دمره غيرنا».

ويعتقد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية» أن طلب قطر قبل أيام بتحمل إسرائيل تمويل ما دمرته «تعبير عن موقف عربي صارم للضغط لعدم تكرار التدمير»، مشيراً إلى أن مصر تدرك أيضاً أن إسرائيل تتحرك في الخطة البديلة بإعمار جزئي في رفح لكن القاهرة تريد تعزيز الموقف العربي المتمسك بالإعمار الكامل، والذي سيبدأ مؤتمره مع بدء المرحلة الثانية التي تشمل انسحاباً إسرائيلياً. بينما يرى المحلل السياسي الفلسطيني أن الموقف العربي سيشكل ضغطاً بالتأكيد لكن هناك وجهات نظر متباينة، مشيراً إلى أن مؤتمر إعمار القاهرة مرتبط بحجم التقدم في المرحلة الثانية ونزع السلاح بالقطاع؛ إلا أنه في النهاية سيحدث، لكن ليس في القريب العاجل وستكون مخرجاته مهددة بعقبات إسرائيلية.


جبايات الحوثيين تعمّق الركود الاقتصادي وتغلق عشرات الشركات

ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
TT

جبايات الحوثيين تعمّق الركود الاقتصادي وتغلق عشرات الشركات

ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)

تتواصل الأزمة الاقتصادية في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية بصورة متسارعة، مع تصاعد شكاوى التجار من الزيادات الجديدة في الضرائب والرسوم المفروضة عليهم، وهي إجراءات وصفوها بـ«التعسفية»، كونها تمتد إلى مختلف الأنشطة التجارية دون استثناء.

في هذا السياق، أكد تقرير دولي حديث أن الضغوط المالية المفروضة على القطاع الخاص باتت تهدد بقاء مئات الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما دفعت بالفعل العديد منها إلى إغلاق أبوابها خلال الأشهر الماضية.

وحسب التقرير الصادر عن «شبكة الإنذار المبكر للاستجابة للمجاعة»، فإن الوضع الاقتصادي في مناطق الحوثيين «يستمر في التدهور بوتيرة متصاعدة»، نتيجة الحملات المتكررة للجبايات التي تستهدف المطاعم والمتاجر والفنادق وقطاعات التجزئة.

وأشار التقرير إلى أن سلطات الحوثيين فرضت مؤخراً رسوماً إضافية على التجار تحت مبرر دعم الإنتاج المحلي، غير أن تلك الرسوم جاءت في سياق سلسلة ممتدة من القيود المالية والتنظيمية التي أثقلت كاهل أصحاب الأعمال.

الحوثيون تجاهلوا مطالب التجار بالتراجع عن زيادة الضرائب (إعلام محلي)

واحد من أبرز هذه الإجراءات كان فرض ضريبة جمركية بنسبة 100 في المائة على السلع غير الغذائية المستوردة، وهو ما أدى -وفق التقرير- إلى إغلاق عدد كبير من محلات التجزئة والمؤسسات الصغيرة التي لم تعد قادرة على تحمّل ارتفاع التكلفة التشغيلية والانخفاض المتواصل في الطلب. وتزامن ذلك مع استمرار الحوثيين في تجاهل مطالب التجار بالتراجع عن هذه الزيادات، رغم الاحتجاجات التي شهدتها صنعاء خلال الأسابيع الماضية.

تراجع غير مسبوق

يشير التقرير الدولي إلى أن العمل بالأجر اليومي والأعمال الحرة التي كانت تشكّل مصدر دخل رئيسياً للأسر الفقيرة والمتوسطة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، باتت تواجه تراجعاً غير مسبوق نتيجة خسائر الدخل وتراجع القدرة الشرائية.

ويحذّر التقرير من أن استمرار هذا التراجع سيقلل «على الأرجح» من قدرة الأسر على الحصول حتى على الغذاء بالتقسيط، وهو إحدى آخر الوسائل التي كان يعتمد عليها السكان خلال السنوات الماضية لمواجهة الضائقة المعيشية.

المزارعون والتجار في مناطق سيطرة الحوثيين يعانون من الجبايات (رويترز)

وفي المقابل، استعرض التقرير الإجراءات الاقتصادية التي تنوي الحكومة المعترف بها دولياً اتخاذها، ومنها رفع سعر الدولار الجمركي بنسبة 100 في المائة.

وعلى الرغم من التأكيدات الحكومية أن المواد الغذائية الأساسية مستثناة من هذا التعديل، يتوقع محللون أن ترتفع أسعار السلع غير الغذائية بنحو 6 إلى 7 في المائة، وسط مخاوف من استغلال بعض التجار للوضع ورفع الأسعار بنسب أكبر في ظل ضعف الرقابة المؤسسية.

استمرار الأزمة

تتوقع «شبكة الإنذار المبكر» أن تستمر حالة الأزمة واسعة النطاق في اليمن (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي للأمن الغذائي) حتى مايو (أيار) من العام المقبل على الأقل.

ويعزو التقرير الدولي ذلك إلى تأثيرات الصراع الاقتصادي بين الحوثيين والحكومة اليمنية الشرعية الذي أدى إلى تقويض النشاط التجاري، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتدهور بيئة الأعمال، بالإضافة إلى ضعف سوق العمل وانحسار القدرة الشرائية للمواطنين.

أما في محافظات الحديدة وحجة وتعز فيتوقع التقرير استمرار حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة)، نتيجة آثار الهجمات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت البنية التحتية الحيوية مثل المنشآت والمواني في الحديدة، بالإضافة إلى عجز سلطات الحوثيين عن إعادة تأهيل هذه المرافق.

الحوثيون متهمون بتدمير مستقبل جيل يمني بكامله جراء انقلابهم (إ.ب.أ)

وقد أدى هذا الوضع إلى انخفاض شديد في الطلب على العمالة، وتراجع مصادر الدخل الأساسية للأسر في هذه المناطق.

وتناول تقرير الشبكة التطورات المتعلقة بالوديعة السعودية للبنك المركزي اليمني، وتوقعت أن تُسهم هذه المبالغ في تعزيز المالية العامة ومعالجة عجز الموازنة، بما يمكن الحكومة من استئناف بعض التزاماتها المتوقفة، بما في ذلك صرف الرواتب.

ومع ذلك، يؤكد التقرير أن هذا الدعم «قصير الأجل» ولا يعالج المشكلات الهيكلية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد اليمني، خصوصاً في جانب الإنتاج وفرص العمل وبيئة الاستثمار.