يطل شهر رمضان من كل عام ليفتح خزائن ذكريات أجيال كاملة، ارتبط في أذهانهم بطقوس معينة لا تكتمل سعادتهم به من دونها، أبرزها أغانيه الأيقونية التي تربى الكثيرون على سماعها. هذه «النوستالجيا» فقدت بريقها شيئا فشيئا بفعل الزمن والاعتبارات التجارية، لكنها رغم ذلك «لا تزال تتصدر المشهد منذ الألفية السابقة، أمام الأعمال الحديثة التي لم تستطع مجاراتها رغم كل هذه السنوات»، حسب ما يؤكد الموسيقار حلمي بكر لـ«الشرق الأوسط».
في النهار، تنشغل السيدات بإعداد أشهى المأكولات التي يزيد طلب الأسرة عليها في هذا الشهر، وفي أسماعهن أغنية «الراجل ده هيجنني» لصباح وفؤاد المهندس، ومع بداية أذان المغرب، يلتف الجميع على موائد الطعام، بينما يدوي التلفاز بأغاني «مرحب شهر الصوم» لعبد العزيز محمود، و«رمضان جانا» لمحمد عبد المطلب - التي غناها الشاب محمد الشرنوبي بتوزيع جديد هذا العام - و«وحوي يا وحوي» لأحمد عبد القادر، و«سبحة رمضان»، و«أهوه جه يا ولاد» للثلاثي المرح، بعدها يخرج الأطفال إلى الشوارع لبدء يوم حافل باللعب على أنغام «هاتوا الفوانيس يا ولاد» لمحمد فوزي، وقبل الفجر يتناول الجميع وجبتهم الأخيرة قبل يوم جديد من الصوم، على صوت «المسحراتي» سيد مكاوي، هذا كان اليوم الاعتيادي لكل أسرة، أما الأجيال الحالية لم يعد يجمعها هذا الرابط لضآلة حجم الأعمال الفنية المرتبطة بهذا الشهر على عكس السابق.
يؤكد بكر أن «القاعدة الثرية التي كانت تنطلق منها الأغاني الدينية والوطنية - وحتى الموسمية - انهارت بشكل كبير، ولم يعد لها وجود وسط الموجة الفنية الحالية، التي فقدت كثيرا من قيمتها وتاهت بين أغاني المهرجانات والترند، التي باتت تستهوي الأجيال الجديدة».
ويضيف: «المستوى الفني الحالي شابه الكثير من الانحدار، باختلاف طبيعة المستمعين، فبعض أصوات الأذان والتواشيح أيضاً كانت تذاع خصيصاً في شهر رمضان، بأصوات الشيخ محمد رفعت، وعبد العظيم زاهر، وعبد الباسط عبد الصمد، والنقشبندي، لكن لم يتبق منها إلا القليل».
على الجانب الآخر، يرجع الناقد الفني عصام زكريا الأمر إلى اختلاف الطقوس الرمضانية ذاتها، باختلاف طبيعة كل مرحلة، موضحا أن الأغاني الإذاعية القديمة ذاتها كانت بالنسبة لعصرها «موضة» تسحب البساط من الطقوس التقليدية التي اعتاد عليها الناس حينها، وتتسبب في اندثار التقاليد الأقدم.
عدد ليس قليلا من المطربين الحاليين قدموا أكثر من أغنية تزامنا مع هذه المناسبة، فعرض محمد منير «وحوي يا وحوي» و«رمضان جنة»، وقدم إيهاب توفيق «هلال رمضان»، وهشام عباس «رمضان هل هلاله»، وغنى ماهر زين أغنية تحمل اسم الشهر ذاته، لكن معظمها لم يأخذ حظا كبيرا من الشهرة والانتشار.
ويرى زكريا أن الأمر يعتمد أيضا على التطور الحديث في التكنولوجيا وأدوات الاتصال، وأمزجة وطبيعة الأجيال الحالية ذاتها؛ فقديماً كانت الأغنية تبث من إذاعة واحدة، ويسمعها الجميع في الوقت ذاته. كما كان عدد المطربين المشهورين يعد على الأصابع، الأمر يكفل لهم الانتشار بين طبقة واسعة، أما الآن فلا توجد أغنية تستطيع البقاء داخل السوق أكثر من شهرين أو 3 أشهر على الأكثر.
جزء آخر من الأزمة، هو دخول الشركات التجارية بإعلانات مخصصة للموسم لجذب أكبر عدد من الجمهور، استغلالاً لحالة الشره الاستهلاكي في هذه الفترة، لدرجة جعلت بعضها يطغى على الأغنية الرمضانية ذاتها، وهذا ما حدث مع إعلانات «يلا نكمل لمتنا»، و«العيلة الكبيرة»، و«علشان لازم نكون مع بعض» - من قبل - و«جاري يا جاري» حاليا، التي توافقت على مغازلة الأسرة بالتركيز على طقوس الأهل في اجتماعهم على موائد الطعام، وما إلى ذلك، حتى باتت شهرتها تفوق أغنيات الموسم ذاته.
ويوضح الناقد الفني أنه على الرغم من ذلك، لا يمكن التحكم في سوق الإعلانات الحالية، التي باتت تحدد فرص وساعات عرض أي عمل فني، وتدفع أجور القائمين عليه، حتى إن القنوات باتت تفضلها على الأغنية الرمضانية لاعتبارات تجارية، الأمر لم يعد معتمدا على مزاج الجمهور.
يتفق حلمي بكر مع زكريا، مؤكداً أن المعلنين يتعاملون من شهر رمضان من منطق «التباهي بشعر ابنة أختها»، حيث ينتهزون فرصة قدومه للترويج لسلعهم، عبر الأغاني وغيرها، لذا يقع الدور الأساسي لإعادة إحياء أغاني الموسم على وسائل الإعلام والمنتجين الذين باتوا يستسهلون عرض الأغاني الأيقونية بدلا من دعم الأفكار الطموحة لتأخذ حظها على غرار سابقتها.
لا يلوم بكر المعلنين على ابتكار أفكار جديدة لاستغلال الموسم في الترويج لمنتجاتهم، لكن يعيب على المطربين أنفسهم الذين افتقدوا روح الأغنية، وباتوا يصنعون أغنية يمنون بها على رمضان بغرض «المنظرة» واستغلال الموسم، دون أن تقودهم قلوبهم إلى استشعار معانيها لإيصالها بصدق، على الجميع البحث عن القيمة المرجوة في عمله، عدا ذلك سيستيقظ ليجد الجمهور يدير له ظهره دون رجعة.
«نوستالجيا» أغاني رمضان... الفن الجميل يكسب «الترند»
نقاد فنيون يحملون الإعلانات المسؤولية
«نوستالجيا» أغاني رمضان... الفن الجميل يكسب «الترند»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة