«الشرق الأوسط» في مهرجان كان السينمائي 11: في {كان}... كيف كان الوضع قبل ساعات من إعلان النتائج؟

مع إعلان مهرجان «كان» نتائج الدورة الحادية والسبعين ليلة أمس، السبت، يطوي صفحة صعبة من تاريخه ويتطلع إلى صفحات أخرى تبدو اليوم من بعيد كما لو أنها ستكون انعكاساً لمرحلة حرجة.
فبصرف النظر عمن فاز وعمّن لم يفز، لم تكن هناك الكثير من الخيارات النوعية هذا العام. نعم كانت هناك خيارات عددية قوامها 21 فيلماً لكن معظمها لم يعلُ كثيراً عن المتوسط وقليل منها هبط دونه. هذا يحدث كل سنة، لكن هذه السنة تحديداً كان المعدل المتوسط أكثر عدداً من ذي قبل والأفلام التي تستحق السعي للفوز أقل من الحسابات التقليدية حيث تتكاثر التوقعات حول الجوائز الرئيسية من «السعفة الذهبية» وصولاً إلى جائزة «لجنة التحكيم» غير الخاصة (هناك جائزة أخرى باسم لجنة التحكيم تحمل كلمة «خاصة»).
كان المهرجان بدأ بفيلم أصغر فرهادي «الجميع يعلم» الذي لم يكن أفضل أفلام هذا المخرج الإيراني الذي وجد تمويله في إسبانيا وفرنسا. الفيلم لم يوفر جديداً على طروحات المخرج في الكتابة أو في الإخراج وما قدّمه إلى الجمهور كان تنويعاً على موضوعه الأثير الذي، وكما ذكرنا سابقاً، يلعب على أوتار اكتشاف مخبوء في حدث ما تم في الماضي، يغفل المخرج عمداً إظهاره ليوفر حالة من الغموض التي تواكب الفيلم.
مباشرة من بعده أنجز المهرجان اكتشافه الجيد الأول وهو فيلم «يوم الدين» لأبو بكر شوقي. إنتاج مصري كامل (ولو أنه بيع لشركة توزيع فرنسية وفّرت له دعماً) حول مصاب بمرض الجذام يحاول العودة إلى قريته في أقصى الصعيد من دون أن يعرف وجهته ومعه في الرحلة صبي يقرر مصاحبته لأنه يشفق عليه من ناحية ويعتبره بمثابة أب لم يرعه من ناحية ثانية.
بين نادين وأبو بكر
سنقفز هنا إلى فيلم عربي آخر في المسابقة وهو «كفر ناحوم» للبنانية نادين لبكي، وذلك لأننا نجد حكاية مهمشين آخرين بينهم ولد وطفل في عامه الأول يرفض الأول (لبعض الوقت على أي حال) ترك الثاني بعد اختفاء أم الطفل في ظرف غامض (نفهم أنه ألقي القبض عليها لكننا لا نشاهد ذلك). ليست هناك رحلة طريق لكن الاتكال على تمثيل أولاد في سن الثانية أو الثالثة عشر موجود في الفيلمين وبقدرة إدارية من قبل المخرجين شوقي ولبكي جيدة.
الاختلاف هنا هو أن الفيلم المصري يلتصق بواقعية ما يدور ولو تبعاً لتراث في المعالجات الدرامية التي تنتمي، كأبي الهول، إلى السينما المصرية. أما الفيلم اللبناني فيحمل أسلوب عرض واقعي من دون أن تكون حكايته قابلة للمنطق في أكثر من ناحية، وكما ذكرنا في رسالة يوم أول من أمس.
وهما يقفان جيداً كعملين بارزين لولا أن لبكي، بتاريخها القصير اللامع، هي من أبدت صلاحيتها لدى لجنة التحكيم للفوز بجائزة رئيسية. فالفيلم أحد ثلاثة أفلام من إخراج امرأة وأفضلها تشكيلاً وأنجحها في توفير وضع لافت. الفيلمان الآخران هما إيفا أوسون التي قدّمت «بنات الشمس» ربما كنموذج عما يجب تفاديه في أفلام تتعامل وقضايا شرق أوسطية، والثانية أليس روماكر صاحبة «سعيد كلازارو» وهو من تلك التي بالكاد ارتفعت عن المتوسط. والاعتبارات الخاصة كثيرة هذا العام.
فكما أن لبكي تصدرت الاحتمالات منذ عرض فيلمها «كفر ناحوم» جزئياً لأنها مخرجة امرأة في دورة تحكمها رئيسة لجنة تحكيم اسمها كيت بلانشت تعتبر أن من واجباتها الأساسية منح المخرجات التقدير الكافي لهن، فإن أكثر من عرض سينمائي حفل بمزايا الاعتبارات السياسية أو ما يشابهها، بما في ذلك فيلم الإيراني جعفر بناهي الذي قيل عنه، قبل إعلان النتائج، إنه إذا ما فاز، عبر فيلمه «ثلاثة وجوه» فإن ذلك سيكون نكاية بالنظام الإيراني وتأييداً لبناهي الممنوع من العمل (رغم منعه أنجز أكثر من ثلاثة أفلام منذ صدور الحكم) وليس لقيمة الفيلم الفنية.
ليس أن بناهي وفرهادي وهما المعروفان الوحيدان في أوساط المهرجانات، بل على العكس لم تخلُ الدورة من أسماء أخرى معروفة. يكفي دخول جان - لوك غودار على الخط باسمه كما بنتاجه. آخر الأحياء من موجة السينما الفرنسية التي كانت جديدة في الستينات قدّم «كتاب الصورة» في كيان من سينما التجريب اعتاد عليه وهذا كان حرياً باستبعاد الفيلم من جائزة فعلية.
الأميركي سبايك لي عاد إلى المهرجان بفيلم ضد العنصرية عنوانه «كلاكسكمان» الذي، كما شرحنا، انتقد الوضع العنصري المتمثل في حكاية رجل أسود ويهودي أبيض يخترقان منظمة «كوكلس كلان» العنصرية. لكن مع كل سمات الفيلم في الموضوع والتنفيذ، فإنه ليس بالأصالة ذاتها لأفلام المخرج الأميركي.
المخرج الثالث المعروف في أوساط المهرجانات هو البولندي بافل بافليكوفسكي عبر فيلمه الذي عاد به، مرة أخرى، إلى الماضي البعيد. «حرب باردة» عن تلك الفترة التي سعى فيها البعض للتحايل على النظام وحين فشلوا آثروا السعي للهرب من البلاد. هذا الفيلم بدوره لم يأتِ أفضل أو أقوى من فيلم المخرج السابق «آيدا».
قبل خمس سنوات، كان من بين ما كتبه هذا الناقد عن «كان»، بالإضافة إلى موضوع آثر هو فرنسيته الأكثر من اللزوم، هو أنه ينتمي إلى مهرجانات تُقام تبعاً لتقليد قديم يحتفي بالفيلم وبالسينما على النحو الذي يستحقانه. آنذاك تبدّى تورنتو كمقابل حديث حيث لا تنافس على جوائز (هذا ما طالب به غودار نفسه خلال ثورة الطلاب التي أدت إلى إلغاء دورة 1968) ولا لجان تحكيم بل عروض متواصلة لجمهور عريض من الهواة والمحترفين على حد سواء.
لكن تورنتو ليس حلاً ولا نموذجاً يمكن الاحتذاء به لأن قربه من هوليوود هو السبب في تميّزه إذ تحضره عاصمة السينما بكل قوّتها. يخدمها، كونه يقع في مطلع موسم الجوائز ما يجعله واحد من علاماتها السنوية.
هذا لا يمكن نسخه لمهرجان يقع خارج كندا أو الولايات المتحدة. جل ما يمكن فعله هو قيام مهرجان فينيسيا، كونه يقع في سبتمبر (أيلول) كما حال تورنتو، باستقطاب أفلام أميركية أفضل شأناً من تلك التي تتوفر لمهرجان «كان» عادة، وهذا على عكس سنوات الأمس عندما كان المهرجان الفرنسي هو المستحوذ الأول على الأعمال الأميركية. في تلك الفترة (الستينات والسبعينات والثمانينات) استفاد المهرجان من وضع نال فيه المخرج الأميركي كلمة الفصل الفنية في هوليوود، فعرض أعمالاً رائعة لبوب فوسي وهال آشبي وجيري تشاتزبيرغ وسبايك لي وجون سايلس وروبرت ألتمن وبوب رافلسون، هذا إلى جانب مخرجين بدأوا حياتهم الفنية تحت سقف هذا المهرجان ومن بينهم ألكسندر باين وديفيد لينش وستيفن سودربيرغ.
إذ غربت شمس تلك الفترة فإن البديل كان، في مطلع الأمر، السعي لأفلام أميركية تتحاشى لجان التحكيم منحها جوائز رغم إجاداتها، وذلك لاعتبارات سياسية ومفاهيم من نوع «هوليوود لا تحتاج لجوائز».
اليوم انقلبت الآية إلى «هوليوود لا تحتاج إلى (كان)». صحيح أن المهرجان عرض فيلمين أميركيين («كلاكسكمان» و«تحت البحيرة الفضية»)، إلا أنهما مستقلان وقرار المشاركة بهما ليس هوليوودياً صرفاً.
البديل؟ تقديم «صولو: حكاية من ستار وورز» الذي لم يرض النقاد فقط، بل أوعز بأن المهرجان في حالة استماتة واضحة.