ارتباط اللغة بالمكان والهُوية في شعر محمود درويش

بصفته فعلاً مضاداً للمشروع الاستيطاني

محمود درويش
محمود درويش
TT

ارتباط اللغة بالمكان والهُوية في شعر محمود درويش

محمود درويش
محمود درويش

كثيرة هي الدراسات التي تناولت شعر محمود درويش منذ بداياته الأولى، مروراً بتحولاته اللاحقة، والتي جعلت من إنتاجه الشعري عنواناً جمالياً وفكرياً وروحياً للفلسطينيين، سواء في أماكن الشتات أو على أرض الوطن. ولكن نادراً ما يجمع الدارس لتجليات درويش الشعرية بين الرصد العلمي المنهجي الموثق من جانب، وروح المبدع المتأججة وراء الكتابة من جانب ثانٍ، تلك الروح تلتقط نبض الإبداع الحي، وترى ما لا يراه العقل الأكاديمي المحايد. الجمع بين القراءتين هو ما نجده في كتاب «تغريدة الشاعر - أثر المكان على الهُوية في أعمال محمود درويش» تأليف الروائية الفلسطينية ليانة بدر.
الكتاب مأخوذ عن رسالة ماجستير قدمتها ليانة بدر لقسم الدراسات العربية المعاصرة في «جامعة بيرزيت» عام 2012، أي أنها تصدر في قراءة المكان من موقعها الفلسطيني، وصداقتها للشاعر - كما يظهر في إهداء الكتاب - مضافاً إلى ذلك خلفيتها الإبداعية، وحسها النقدي المرهف، وانضباطها العلمي.
يتناول الجانب النظري في الكتاب العلاقة بين المكان والهُوية، ويُبرز أهمية التركيز على دراسة علاقة الهُوية في تفاعلاتها مع المكان المفقود - المستحضر في شعر محمود درويش، وتتبع إمكانية الوصول إلى صياغات معرفية حول الهُوية والمكان في نتاجات الشاعر، بما يجاوز النظرة السائدة التي فرضتها معظم الدراسات التي عالجت الشعر الفلسطيني على أنه شعر «سياسي» و«نضالي» في المقام الأول والأخير، والتي قامت بعرضه بالتالي عبر سياق سياسي وتاريخي مباشر، منقطع عن أرضياته الجمالية والفكرية. لهذا السبب تولي الباحثة أهمية كبرى لمسألة الجانبين الجمالي والمعرفي في ظل النظر إلى تغييرات الأمكنة عبر حقب متعددة من حياة درويش، وحياة الفلسطينيين في أشعاره. كذلك تهتم بدر برصد سمات الهُوية في تغيراتها، بالنظر إلى علاقتها بمفهوم المكان عبر نتاجات الشاعر التي رسمت أشكالاً متعددة للهُوية الفلسطينية، بأبعادها الجمالية والتعددية، بعيداً عن القراءات السياسية المتعجلة، ذات البعد الواحد.
إن تتبع شعر محمود درويش من خلال رحلة الشاعر مع المكان (داخل الوطن - خارج الوطن - الرجوع - داخل الوطن وخارجه) سيكشف تعريفاً للمكان- الأمكنة من وجهة نظر أهله وأصحابه تعبر عن معاناة الفلسطينيين وإصرارهم على صياغة ذاكرتهم وصونها؛ وهو ما أدى بدوره إلى صياغة هُوية متعددة الأبعاد، تمثلها درويش وعبّر عنها باقتدار في أشعاره، خصوصاً في قصائده الأخيرة، وصولاً إلى الهُوية الكونية الأعم والأشمل. وفي هذه المرحلة استطاع درويش الوصول إلى محاورة تجربتي الوجود والعدم الإنسانيتين على المستوى الشخصي، لكي يصل إلى الانفتاح الدلالي الأشمل بمعناه الكوني.
وفي فصل بعنوان «تحولات الهُوية بالتوازي مع المكان عند الشاعر داخل الوطن» تُبرز الكاتبة ارتباط اللغة بالمكان والهُوية، فقد عمل درويش على بناء المكان الفلسطيني داخل النص عن طريق الاحتفاء باللغة العربية التي أراد الاحتلال محوها؛ لأنها تمثل قلب الهُوية النابض.
لقد شحذ هذا الشاعر طاقته الإبداعية كلها من أجل امتلاك المكان باللغة، وذلك بصفته فعلاً مضاداً للمشروع الاستيطاني، حتى تصبح الذات الشاعرة مقيمة في اللغة، وداخل جغرافيا المدن المسلوبة في آن معاً. لهذا السبب تمثل قصائد درويش الأولى جزءاً من الذاكرة الجماعية، وتقترن بالمكان الأول الذي توحد به في دواوينه المبكرة مثل: «أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل»، «حبيبتي تنهض من نومها»، «محاولة رقم 7»، ففي هذه الأعمال لا نكاد نبصر الفرق بين الشاعر والمكان؛ إذ يلجأ الشاعر إلى المكان ويتوحد به لبناء ما تهدم من أشكال الحياة الفلسطينية الأولى.
وقد مثلت المرحلة البيروتية - حتى عام 1982 وما بعده بقليل - استمراراً للتركيز على الهُوية البطولية للفدائي على نحو ما يظهر في قصيدة «مديح الظل العالي» وغيرها، بينما تَبرز أيضاً الهُوية الفلسطينية المتحدية التي لا تذعن للجوء، وإنما تحاور الأمكنة الغائبة وتفاصيلها، وهي تفيض حياة في حضورها الشعري. ويَعتبر بعض النقاد أن بيروت مكان ثانٍ لولادة القصيدة الدرويشية، فقد كانت بيروت - في تلك الآونة - عاصمة للثقافة العربية التي حملت الثورة مع نشيد الحداثة، وتفاعل معها الشاعر، فأنجب حينها بعضاً من أعظم الملاحم في تاريخ الشعر العربي خلال سنوات السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن الماضي، مثل: «أحمد الزعتر»، «قصيدة الأرض»، «قصيدة بيروت»، «مديح الظل العالي».
كما تُعتبر مرحلة الإقامة في باريس مكاناً ثالثاً لتطور القصيدة الدرويشية؛ فقد ساعد تفرد المدينة الحضاري – بصفتها عاصمةً للكتابة والأدب والفنون - على الاندماج في سوية الحياة الموجودة هناك، بما أعطى أشعاره خلال تلك المرحلة عبقاً وجمالية وتميزاً له خصوصيته، بينما واصل فيها ملحمته الغنائية التي وظّف فيها أفقاً عريضاً لاستكشاف تجارب إنسانية متعددة، بدءاً من تكثيف استخدام رموز الأساطير اليونانية التي استخدمها سابقاً أو التركيز على الرموز المتعلقة بالتاريخ العربي أو مزجها معاً كما شاء، وكما شاءت له موهبته اللامعة.
أما الإقامة بين رام الله وعمان، فتمثل مكان القصيدة الرابع، غير أن درويش لم يكن ينتظر عودة منقوصة إلى الوطن؛ إذ رفضت السلطات الإسرائيلية إقامته في فلسطين 1948، لذلك أصبح كأنه عاد ولم يعد. وذلك بالإضافة إلى إدراكه أن كل لاجئ يكتشف بقلبه أنه من المستحيل أن يعود، وحتى لو استطاع العودة جسدياً؛ فهو قد تغيّر بعمق خلال منفاه.
وتشير أشعار درويش التي كتبت في المنفى بعد الخروج من بيروت إلى ذائقة جمالية مغايرة، حافلة بالتفاصيل الدقيقة التي تُظهر أن المنفى أثّر في تأسيس هوية مختلفة لأصحابه، تبعدهم عن تقشف الموضوع النضالي الخالص. ويظهر هذا بوضوح في أعماله الصادرة بين الخروج من بيروت وإلى ما قبل العودة إلى فلسطين. أما في أعماله الأخيرة، إثر عودته إلى فلسطين، فقد سجلت تغيُّر صورة المقاتل الفدائي الذي عاد إلى وطنه ليصير إنساناً عادياً، يتحكم القدر في مصيره، فهو ليس سوى «لاعب النرد» مثله في ذلك مثل الآخرين. كذلك برزت في قصائده خلال تلك المرحلة خيارات السيرة التي هي جزء من الجدل المعقد بين خيارات ثقافية وفكرية وجمالية كبرى، لم تنفصل عن بداياتها، بل أعادته إلى أغوار أعمق من تاريخه الشخصي، وتاريخ فلسطين المكان والعناصر، لكي يضيف إليها قدرات أكبر على النفاذ إلى الواقع الفلسطيني في تجلياته العربية والعالمية. هكذا اقترن سؤال الهُوية بالسيرة الذاتية، وظل في تغيّر دائم بعد ما خرج من المكان الأول.
ويعبّر الشاعر بشكل دقيق عن سؤال الهُوية المتغيرة خلال مقابلة أجريت معه حول كتاباته الشعرية بقوله:
«هذه فعلاً رحلة بحث عن الأنا المنقسمة والموزعة. البحث عن المكان أسهل؛ لأن المكان تغيّر بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى التغيّر في شكل المكان، هناك صورة بصرّية (على الأقل) لا تحتاج إلى استقراء استشرافي، ولا إلى بصيرة، فالمكان تغيّر عياناً. الصعب هو علاقة تغيُّر المكان بتغيُّر الأنا أو تغيُّر الأنا وعلاقتها بتغيُّر المكان. من الذي غيَّر الآخر؟ هذا إشكال لم أجد له حلاً».
ويبدو هذا السؤال نفسه حاضراً في قصائد درويش، ولا سيما في آخر أشعاره في ديوانه الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» (2009) خصوصاً في قصيدة بعنوان «على محطة قطار سقط عن الخريطة». والجواب عند الشاعر يتكرر في إعادة للسؤال الوجودي عن كيفية تشكيل المكان الضائع، ومعناه، وانعكاسه على هُوية الإنسان. فالوقوف على المحطة لا يرتبط بانتظار القادم، ولا البحث عن جماليات ما، بل هو محاولة لإدراك موضع الذات في الكون، ومحاولة لتقصي أسباب النفي والإبعاد:
«وقفت على المحطة... لا لأنتظر القطار- ولا عواطفي الخبيثة في جماليات شيء ما بعيد- بل لأعرف كيف جُنّ البحر وانكسر المكان- كجرة خزفية، ومتى ولدت وأين عشت...».
يتمركز السؤال الحيوي في القصيدة حول فعل الولادة، أي الوجود، مترافقاً مع فعل تموضع الإنسان في حياة المكان، أي تحديد المكان الشخصي داخل المكان العام من أجل قراءة الهُوية. يحدد الشاعر علاقته بالمكان مجيباً عن سؤاله الأول في القصيدة نفسها بإعادة اكتشاف انتمائه إلى تفاصيل أرضه الأولى، محافظاً على علاقته الجسدية، وعلى أسمائه المتعددة التي تحيلنا إلى هويات متعددة، لا تكف عن التواجد في المكان الأصلي؛ ذلك أن الوجود الإنساني لأصحاب الأرض داخل المكان لا ينمحي، وهو وجود عضوي لا بديل له:
«أرى مكاني كله حولي - أراني في المكان بكل أعضائي وأسمائي».
تلك هي الهُوية- الهُويات المتعددة التي لم يتوقف عن تأكيدها في أشعاره كلها، حيث لا يمكن للاحتلال أن ينتزع منه علاقته بالأرض الأولى، حتى لو تشظت الأمكنة وانبثقت منها الهُويات المتحولة التي تجعله لاجئاً طريداً.
وفي هذا السياق، يُثْنِي درويش على إدوارد سعيد، لأنه ظل مخلصاً لصوته الأساسي بوصفه ضحيةً تقاوم الاستعمار الاستيطاني بحيث توحي قصيدته «طباق»- المهداة لسعيد - وكأنه يحاور توأمه الروحي حول أسئلة البقاء والوجود، هو الأليف الذي لا يألف المنفى، ويمتلك الحنين إلى حياة عادية مستقبلية، لها بساطة الاعتيادي، على الرغم من الرؤية المركبة. يقول درويش في هذه القصيدة:
«والهوية؟ قلتُ- فقال: دفاع عن الذات...- إن الهوية بنتُ الولادة، لكنها- في النهاية إبداعُ صاحبها، لا- وراثة ماضٍ. أنا المتعدّد. في- داخلي خارجي المتجدّدُ... لكنني- أنتمي لسؤال الضحيّة».
لقد نجح درويش في بناء منظومة جمالية كاملة، وامتلك القدرة المعرفية والموهبة الشعرية على فرض نماذج من اللغة والرؤيا والخيال على الساحة الشعرية العربية، والعالمية أيضاً من خلال الترجمة. وباختصار، ابتكر منظومة من القيم هي في وقت واحد جمالية وأخلاقية وضرورية، مثّلت برهة تاريخية وأدبية استثنائية، عاشها درويش، وهو يعلم أنه مكلف بمهمة كبرى، تمثلت في التقاط الوجدان الجمعي للأمة، وتحويل الشعر إلى قوة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية. وقد فعل.
* كاتبة وناقدة مصرية



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟