«القوى الناعمة» في مواجهة العائدين من «داعش»

المعتقلون السعوديون العائدون من غوانتانامو استفادوا من برامج المناصحة

مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
TT

«القوى الناعمة» في مواجهة العائدين من «داعش»

مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)

«إذا كان لا مفر من أذية أحد فلتؤذه بقسوة تجعلك لا تخاف من انتقامه». مقولة للمفكر نيكولو مكيافيللي قد تكون فعلياً استراتيجية يحتذى بها في أساليب الحرب والتعامل مع المتطرفين مثل «عدم التفاوض مع الإرهابيين»، إلا أن مرحلة ما بعد الإرهاب وكيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب تستلزم تعاملاً مغايراً لذلك، أشبه بالقوى الناعمة وأسلوب احتضان الأشخاص والاهتمام بهم عن كثب من أجل منعهم من الالتفات إلى الجماعات المتطرفة ومعاودة ممارسة الإرهاب.
استعادت السعودية مؤخراً المتطرف السعودي أحمد الدربي من معتقل خليج غوانتانامو الذي نقل إليه في عام 2003، بعد اتهامه بمساعدة تنظيم القاعدة في تفجير سفن في بحر العرب. وقد صرح اللواء بسام عطية المتحدث الرسمي برئاسة أمن الدولة أن المواطن سيخضع للأنظمة المرعية بالسعودية التي تشمل استفادته من برامج مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية. وذلك ليس بالأمر الجديد، إذ إن عدداً كبيراً من المعتقلين في غوانتانامو في السابق ممن شاركوا في القتال في أفغانستان قد تم نقله إلى هذا المركز لتتم إعادة تأهيله. كذلك أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض حكماً ابتدائياً بسجن عشرة متهمين سعوديي الجنسية لتأييدهم تنظيم «اعش» المتطرف بتهم تتراوح ما بين التواصل مع منتهجي الفكر الداعشي وما بين سفر أحدهم إلى سوريا ومشاركته في القتال، بمدد تتفاوت ما بين أربع إلى أربعة عشر عاماً.

عودة المقاتلين
عودة مثل هؤلاء المقاتلين تثير قضية أزمة مواجهة العالم أجمع باختلاف قاراته، أزمة عودة المقاتلين المتطرفين من مناطق الصراع مثل العراق وسوريا. وهو أمر ليس بجديد، بل من الممكن العودة إلى حقبات مختلفة في التاريخ واستلهام تجارب عودة مقاتلين تشربوا العنف الفكري واكتسبوا خبرة في حمل السلاح، إبان الثورة الأميركية والفرنسية والحرب الإسبانية الأهلية حرب الاستقلال اليونانية. تبع ذلك فيما بعد موجة أخرى من المقاتلين المؤدلجين بتطرف أصولي مثل ما حدث في الشيشان وأفغانستان وحالياً في كل من العراق وسوريا، إضافة بالطبع إلى مناطق أخرى تحمل هماً أمنياً وسياسياً مثل اليمن وليبيا وباكستان ونيجيريا. وإن أصبح الوضع أكثر خطورة حالياً، لا سيما أن العالم أصبح أكثر عولمة وانسيابية مما جعل من المتطرفين أشبه «بمتعولمين» لا دولة لهم، حتى يتم القبض عليهم وإعادتهم إلى أوطانهم، حيث تبدأ كل دولة بمعالجة مقاتليها بطرقها الخاصة.
إذ يشيع مؤخراً توجه يأتي من منطلق عدم وجود أي إرهابي ولد متطرفاً، وإنما وجدت مسببات وظروف قادته إلى مثل هذا الانتماء. إلا أن هناك نظرة براغماتية مغايرة من حكومات بعض الدول تتلخص حول فكرة القضاء على المتطرفين والتخلص من أزمة وجودهم. على سبيل المثال أكد وزير التطوير الدولي البريطاني السابق روري ستيوارت أن الطريقة المثلى للتخلص من المقاتلين البريطانيين الذين قاتلوا كجزء من تنظيم داعش في سوريا هي إبادتهم، وذلك نظراً لتمسكهم بخطاب وعقيدة الكراهية إلى الحد الذي لا يمانعون فيه بقتل أنفسهم في سبيل تحقيق مبتغى التنظيم. ويؤيده في ذلك وزير الدفاع البريطاني غافين ويليامسون، إذ يؤكد ضرورة قتلهم للتأكد من عدم عودتهم إلى بريطانيا.
ويخالف تلك النظرة عدد من المفكرين في علم الإرهاب، حسب دراسة قام بها الخبير المختص بالإرهاب البروفسور بروس هوفمان المختص بالتطرف، فإن أبرز أسباب الانتماء لجماعة إرهابية، من وجهة نظره، يكمن في الشعور بالنبذ في المجتمع، إضافة إلى مسببات نفسية اجتماعية واقتصادية وسياسية.
وقد يتطور ذلك من مظاهرات ليصبح جرائم إرهابية. وبناء على دراسات أقيمت على سجناء في كل من إيطاليا وألمانيا وتركيا فإن عامل الصدفة هو ما يحدد انتماء هؤلاء المتطرفين إلى جماعات يمينية أو يسارية. مما يؤكد وجود توجه نحو القدرة على تغييرهم، بالأخص وأن الفكر المتطرف لا ينشأ من الميلاد وإنما تتم صناعتهم وأدلجتهم. وإن لا تزال هناك بقاع محددة في العالم تعد بيئة خصبة لإنشاء المتطرفين، مثل ما حدث مع أبناء المتطرفين في «القاعدة» و«داعش» ممن ترعرعوا على أساس أن التطرف هو أمر حتمي وما يخالف ذلك يعد فكراً معادياً لهم.

ريادة تجربة المناصحة السعودية
الأمر الذي يسلط الضوء على برنامج المناصحة السعودي من خلال مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، والقدرة على إعادة تأهيل المتطرفين بشكلٍ عام، إذ تتفاوت طرق التعامل مع المتطرفين ما بين دول تسعى إلى إدماجهم في المجتمع بإيمان بقدرتهم على نبذ التطرف، وأخرى ترى أن أفضل السبل تكمن في التخلص من المتطرفين بشكلٍ عام.
وحيث إن المركز يعد من الرواد في هذا المجال، وقد واجه في بداياته تشكيكاً في القدرة على إعادة تأهيل المتطرفين، إلا أنه أصبح أنموذجاً يحتذى به ويتلقى طلبات استشارات دولية. بمبدأ يتمحور حول السعي نحو القضاء على كل ارتباط مع التنظيم الإرهابي، فإذا ما كانت العوامل اجتماعية مثل الدعم المعنوي والمجتمعاتي من جهة، من أجل التخلص من الشعور بالنبذ أو العزلة. فيما تعالج كذلك النواحي اللوجيستية مثل بناء القدرات والتعليم والتدرب الوظيفي، إضافة إلى الدعم المالي. وبالطبع معالجة التطرف الفكري.
فيما فشلت مثل هذه التجارب في إعادة تأهيل المتطرفين في دول أخرى تعاني اقتصادياً مثل إندونيسيا واليمن، بالأخص نتيجة لعدم قدرتها على تقديم رعاية والتفات لمن أطلق سراحه من أجل تقويض محاولات استقطابه من جهات متطرفة مرة أخرى.
ونجحت تجارب أخرى في منطقة جنوب شرقي آسيا، تمتلك قدرات اقتصادية أفضل مثل تجربة سنغافورة وماليزيا في إعادة تأهيل المتطرفين، وغالباً ما ينتمون للجماعة الإسلامية في تلك المنطقة.
وتتأتى فكرة المناصحة التي تعالج أزمة التطرف الفكري للإرهابيين من خلال عدة برامج، يعقب ذلك مرحلة التأهيل من خلال مقابلة أخصائيين نفسيين والخضوع لجلسات علاج نفسي والأنشطة الأخرى مثل العلاج من خلال الفن والأنشطة الرياضية والتدرب الوظيفي. ومن ثم مرحلة الرعاية ومساعدة المتطرفين في الحصول على وظيفة وسيارة وحتى الزواج. من أجل تمكينهم من الخوض في حياة طبيعية في المجتمع.
وحسب إحصائيات نشرت من مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، فقد وصل عدد المتطرفين الذين استفادوا من برنامج المناصحة في السعودية 3002 إرهابي، وقد تمت إعادة تأهيل 2597 منهم بما يصل إلى 85.8 في المائة، فيما عاد ما وصل إلى 14.2 في المائة من إجمالي المستفيدين إلى التطرف مرة أخرى. ويعد البرنامج الذي أنشئ في عام 2004، بمثابة إعادة تأهيل شامل سواء على الصعيد النفسي أو الشرعي، من أجل إعادة دمجهم في المجتمع بصورة طبيعية لا تؤدي بهم إلى العودة مرة أخرى إلى التطرف، وهو الاحتمال الأكبر لمن لم تتم إعادة تأهيله. من أجل التخلص من احتمال وجود «الستيجما» الاجتماعية، وهو إلى حد ما أقرب إلى طريقة معالجة المجرمين، إذ إن من الأسهل لهم مزاولة الأعمال الإجرامية مرة أخرى وإيجاد مجرمين آخرين يتقبلونهم في الوقت الذي يواجهون فيه استنكار المجتمع لهم ودحضهم.

التجربة الأوروبية في مكافحة الجماعات اليمينية المتطرفة
تضمن تقرير لمركز الولايات المتحدة للسلام كتب كل من جورجيا هولمر وأدريان شتني ما يصف التجربة الأوروبية في معالجة المقاتلين الأجانب خلال العقدين الماضيين، وشمل ذلك كلا من ألمانيا وهولندا وبريطانيا والدول الاسكندنافية التي طورت «برامج خروج» للأعضاء المنتمين للعصابات والجماعات اليمينية المتطرفة مثل النازيين الجدد ممن شكلوا هويات قوية وأواصر مجتمعاتية قوية.
وقد تمت الاستفادة من هذه التجارب وصهرها في قالب يلائم الجماعات المتطرفة دينياً في الآونة الأخيرة، وذلك من خلال فكر منبثق من مبادئ حقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية وإعطاء الفرص للمتطرفين أو المجرمين السابقين في الحصول على حياة جديدة وتقديم الرعاية النفسية والاستمرار في رعايتهم فيما بعد. وفي حال وجود أي خطر فعلي أو تهديد من الجماعة الإرهابية التي كان ينتمي لها سابقاً يتم نقله إلى مكان آخر أكثر أماناً. وإن كانت التجربة الأوروبية مختلفة، لا سيما وأن المتطرفين غالبيتهم ينتمون إلى أقليات تشعر بالتهميش والنبذ المجتمعاتي. فيما لا تعد هذه البرامج الأوروبية مركزية وإنما خيارية نابعة من المبادئ الأوروبية وهي بالتأكيد بحاجة إلى تفعيل أكثر من الحكومات من أجل معالجة مشكلة فعلية.

تجربة أممية في إعادة التأهيل
تجربة منظمة الأمم المتحدة أطلق عليها مسمى (DDR) بمعنى شل الحركة ونزع السلاح والدمج، وقد تم تطبيقها في عدة دول من خلال عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة في أفريقيا والنيبال وكوسوفو وتيمور الشرقية وكولومبيا، وتسعى نحو إبعاد هؤلاء المقاتلين السابقين من العودة إلى التنظيمات السابقة ودمجهم في مجتمعاتهم. فالتنظيمات المتطرفة بشكلٍ أو بآخر تنطلق طرق استقطابها للآخرين من مبدأ كسب القلوب والعقول، فإذا ما رفض مجتمع بأكمله هذا الفكر المتطرف صعب التغلغل فيه. الأمر الذي يعكس مدى أهمية إعداد برامج مجتمعاتية تحتضن هؤلاء المتطرفين وتظهر لهم الجانب الآخر من المبادئ الراديكالية التي سعت تلك التنظيمات لغلغلتها في أعماقهم.

ليس كل متشدد قابل للتأهيل
من أجل إعادة التأهيل لا بد من النظر في مسببات انتماء المتطرفين للتنظيم. إذ إن هناك من يتصف بالجهل الديني ويسهل انسياقه لأي شخص قادر على إقناعه، فيما ينضم آخرون للتنظيم نتيجة شعورهم بالنبذ في مجتمعهم مثلما يحدث لدى المتطرفين في أوروبا من أقليات مسلمة تشعر بالاختلاف وبالحاجة للانتماء إلى من يمثلهم بطريقة أو بأخرى. لا سيما، أولئك المتصفون بالسطحية الثقافية وعدم الإلمام أو الفهم لطبيعة الدين مما يجعلهم أكثر انقياداً لمن يتظاهر بفهمه أكثر منهم ويدعونهم للانضمام إلى دائرته التي ما هي إلا طريقة لاستقطاب متعاطفين بالإمكان تحويلهم إلى أعضاء للتنظيم. إضافة إلى أسباب أخرى اقتصادية أو قسرية مثلما حدث في سوريا والعراق، حين أجبر تنظيم داعش عدداً من الأهالي هناك الانضمام إليهم وإن كانوا غير راغبين في ذلك بعد أن تقلص أعداد مقاتليهم. وتزداد صعوبة إعادة التأهيل كلما زادت راديكالية وقناعة المتطرف في الفكر الإرهابي. فيما يلعب دور مرتبة المتطرف والدور الذي يلعبه في التنظيم عاملاً أساسياً، إذ كلما يصبح الإرهابي قائداً يستحيل إعادة تأهيله، فقد وصل إلى مرحلة تمسك بالرأي وقدرة على التأثير على اآخرين، مما يصعب تراجعه، الأمر الذي يفضي إلى إيثاره القتال حتى الممات. فيما يستحيل إعادة تأهيله، ووجوده في مقر يجمع متطرفين آخرين قد يقوده إلى تشكيل خلية جديدة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.