«إذا كان لا مفر من أذية أحد فلتؤذه بقسوة تجعلك لا تخاف من انتقامه». مقولة للمفكر نيكولو مكيافيللي قد تكون فعلياً استراتيجية يحتذى بها في أساليب الحرب والتعامل مع المتطرفين مثل «عدم التفاوض مع الإرهابيين»، إلا أن مرحلة ما بعد الإرهاب وكيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب تستلزم تعاملاً مغايراً لذلك، أشبه بالقوى الناعمة وأسلوب احتضان الأشخاص والاهتمام بهم عن كثب من أجل منعهم من الالتفات إلى الجماعات المتطرفة ومعاودة ممارسة الإرهاب.
استعادت السعودية مؤخراً المتطرف السعودي أحمد الدربي من معتقل خليج غوانتانامو الذي نقل إليه في عام 2003، بعد اتهامه بمساعدة تنظيم القاعدة في تفجير سفن في بحر العرب. وقد صرح اللواء بسام عطية المتحدث الرسمي برئاسة أمن الدولة أن المواطن سيخضع للأنظمة المرعية بالسعودية التي تشمل استفادته من برامج مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية. وذلك ليس بالأمر الجديد، إذ إن عدداً كبيراً من المعتقلين في غوانتانامو في السابق ممن شاركوا في القتال في أفغانستان قد تم نقله إلى هذا المركز لتتم إعادة تأهيله. كذلك أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض حكماً ابتدائياً بسجن عشرة متهمين سعوديي الجنسية لتأييدهم تنظيم «اعش» المتطرف بتهم تتراوح ما بين التواصل مع منتهجي الفكر الداعشي وما بين سفر أحدهم إلى سوريا ومشاركته في القتال، بمدد تتفاوت ما بين أربع إلى أربعة عشر عاماً.
عودة المقاتلين
عودة مثل هؤلاء المقاتلين تثير قضية أزمة مواجهة العالم أجمع باختلاف قاراته، أزمة عودة المقاتلين المتطرفين من مناطق الصراع مثل العراق وسوريا. وهو أمر ليس بجديد، بل من الممكن العودة إلى حقبات مختلفة في التاريخ واستلهام تجارب عودة مقاتلين تشربوا العنف الفكري واكتسبوا خبرة في حمل السلاح، إبان الثورة الأميركية والفرنسية والحرب الإسبانية الأهلية حرب الاستقلال اليونانية. تبع ذلك فيما بعد موجة أخرى من المقاتلين المؤدلجين بتطرف أصولي مثل ما حدث في الشيشان وأفغانستان وحالياً في كل من العراق وسوريا، إضافة بالطبع إلى مناطق أخرى تحمل هماً أمنياً وسياسياً مثل اليمن وليبيا وباكستان ونيجيريا. وإن أصبح الوضع أكثر خطورة حالياً، لا سيما أن العالم أصبح أكثر عولمة وانسيابية مما جعل من المتطرفين أشبه «بمتعولمين» لا دولة لهم، حتى يتم القبض عليهم وإعادتهم إلى أوطانهم، حيث تبدأ كل دولة بمعالجة مقاتليها بطرقها الخاصة.
إذ يشيع مؤخراً توجه يأتي من منطلق عدم وجود أي إرهابي ولد متطرفاً، وإنما وجدت مسببات وظروف قادته إلى مثل هذا الانتماء. إلا أن هناك نظرة براغماتية مغايرة من حكومات بعض الدول تتلخص حول فكرة القضاء على المتطرفين والتخلص من أزمة وجودهم. على سبيل المثال أكد وزير التطوير الدولي البريطاني السابق روري ستيوارت أن الطريقة المثلى للتخلص من المقاتلين البريطانيين الذين قاتلوا كجزء من تنظيم داعش في سوريا هي إبادتهم، وذلك نظراً لتمسكهم بخطاب وعقيدة الكراهية إلى الحد الذي لا يمانعون فيه بقتل أنفسهم في سبيل تحقيق مبتغى التنظيم. ويؤيده في ذلك وزير الدفاع البريطاني غافين ويليامسون، إذ يؤكد ضرورة قتلهم للتأكد من عدم عودتهم إلى بريطانيا.
ويخالف تلك النظرة عدد من المفكرين في علم الإرهاب، حسب دراسة قام بها الخبير المختص بالإرهاب البروفسور بروس هوفمان المختص بالتطرف، فإن أبرز أسباب الانتماء لجماعة إرهابية، من وجهة نظره، يكمن في الشعور بالنبذ في المجتمع، إضافة إلى مسببات نفسية اجتماعية واقتصادية وسياسية.
وقد يتطور ذلك من مظاهرات ليصبح جرائم إرهابية. وبناء على دراسات أقيمت على سجناء في كل من إيطاليا وألمانيا وتركيا فإن عامل الصدفة هو ما يحدد انتماء هؤلاء المتطرفين إلى جماعات يمينية أو يسارية. مما يؤكد وجود توجه نحو القدرة على تغييرهم، بالأخص وأن الفكر المتطرف لا ينشأ من الميلاد وإنما تتم صناعتهم وأدلجتهم. وإن لا تزال هناك بقاع محددة في العالم تعد بيئة خصبة لإنشاء المتطرفين، مثل ما حدث مع أبناء المتطرفين في «القاعدة» و«داعش» ممن ترعرعوا على أساس أن التطرف هو أمر حتمي وما يخالف ذلك يعد فكراً معادياً لهم.
ريادة تجربة المناصحة السعودية
الأمر الذي يسلط الضوء على برنامج المناصحة السعودي من خلال مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، والقدرة على إعادة تأهيل المتطرفين بشكلٍ عام، إذ تتفاوت طرق التعامل مع المتطرفين ما بين دول تسعى إلى إدماجهم في المجتمع بإيمان بقدرتهم على نبذ التطرف، وأخرى ترى أن أفضل السبل تكمن في التخلص من المتطرفين بشكلٍ عام.
وحيث إن المركز يعد من الرواد في هذا المجال، وقد واجه في بداياته تشكيكاً في القدرة على إعادة تأهيل المتطرفين، إلا أنه أصبح أنموذجاً يحتذى به ويتلقى طلبات استشارات دولية. بمبدأ يتمحور حول السعي نحو القضاء على كل ارتباط مع التنظيم الإرهابي، فإذا ما كانت العوامل اجتماعية مثل الدعم المعنوي والمجتمعاتي من جهة، من أجل التخلص من الشعور بالنبذ أو العزلة. فيما تعالج كذلك النواحي اللوجيستية مثل بناء القدرات والتعليم والتدرب الوظيفي، إضافة إلى الدعم المالي. وبالطبع معالجة التطرف الفكري.
فيما فشلت مثل هذه التجارب في إعادة تأهيل المتطرفين في دول أخرى تعاني اقتصادياً مثل إندونيسيا واليمن، بالأخص نتيجة لعدم قدرتها على تقديم رعاية والتفات لمن أطلق سراحه من أجل تقويض محاولات استقطابه من جهات متطرفة مرة أخرى.
ونجحت تجارب أخرى في منطقة جنوب شرقي آسيا، تمتلك قدرات اقتصادية أفضل مثل تجربة سنغافورة وماليزيا في إعادة تأهيل المتطرفين، وغالباً ما ينتمون للجماعة الإسلامية في تلك المنطقة.
وتتأتى فكرة المناصحة التي تعالج أزمة التطرف الفكري للإرهابيين من خلال عدة برامج، يعقب ذلك مرحلة التأهيل من خلال مقابلة أخصائيين نفسيين والخضوع لجلسات علاج نفسي والأنشطة الأخرى مثل العلاج من خلال الفن والأنشطة الرياضية والتدرب الوظيفي. ومن ثم مرحلة الرعاية ومساعدة المتطرفين في الحصول على وظيفة وسيارة وحتى الزواج. من أجل تمكينهم من الخوض في حياة طبيعية في المجتمع.
وحسب إحصائيات نشرت من مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، فقد وصل عدد المتطرفين الذين استفادوا من برنامج المناصحة في السعودية 3002 إرهابي، وقد تمت إعادة تأهيل 2597 منهم بما يصل إلى 85.8 في المائة، فيما عاد ما وصل إلى 14.2 في المائة من إجمالي المستفيدين إلى التطرف مرة أخرى. ويعد البرنامج الذي أنشئ في عام 2004، بمثابة إعادة تأهيل شامل سواء على الصعيد النفسي أو الشرعي، من أجل إعادة دمجهم في المجتمع بصورة طبيعية لا تؤدي بهم إلى العودة مرة أخرى إلى التطرف، وهو الاحتمال الأكبر لمن لم تتم إعادة تأهيله. من أجل التخلص من احتمال وجود «الستيجما» الاجتماعية، وهو إلى حد ما أقرب إلى طريقة معالجة المجرمين، إذ إن من الأسهل لهم مزاولة الأعمال الإجرامية مرة أخرى وإيجاد مجرمين آخرين يتقبلونهم في الوقت الذي يواجهون فيه استنكار المجتمع لهم ودحضهم.
التجربة الأوروبية في مكافحة الجماعات اليمينية المتطرفة
تضمن تقرير لمركز الولايات المتحدة للسلام كتب كل من جورجيا هولمر وأدريان شتني ما يصف التجربة الأوروبية في معالجة المقاتلين الأجانب خلال العقدين الماضيين، وشمل ذلك كلا من ألمانيا وهولندا وبريطانيا والدول الاسكندنافية التي طورت «برامج خروج» للأعضاء المنتمين للعصابات والجماعات اليمينية المتطرفة مثل النازيين الجدد ممن شكلوا هويات قوية وأواصر مجتمعاتية قوية.
وقد تمت الاستفادة من هذه التجارب وصهرها في قالب يلائم الجماعات المتطرفة دينياً في الآونة الأخيرة، وذلك من خلال فكر منبثق من مبادئ حقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية وإعطاء الفرص للمتطرفين أو المجرمين السابقين في الحصول على حياة جديدة وتقديم الرعاية النفسية والاستمرار في رعايتهم فيما بعد. وفي حال وجود أي خطر فعلي أو تهديد من الجماعة الإرهابية التي كان ينتمي لها سابقاً يتم نقله إلى مكان آخر أكثر أماناً. وإن كانت التجربة الأوروبية مختلفة، لا سيما وأن المتطرفين غالبيتهم ينتمون إلى أقليات تشعر بالتهميش والنبذ المجتمعاتي. فيما لا تعد هذه البرامج الأوروبية مركزية وإنما خيارية نابعة من المبادئ الأوروبية وهي بالتأكيد بحاجة إلى تفعيل أكثر من الحكومات من أجل معالجة مشكلة فعلية.
تجربة أممية في إعادة التأهيل
تجربة منظمة الأمم المتحدة أطلق عليها مسمى (DDR) بمعنى شل الحركة ونزع السلاح والدمج، وقد تم تطبيقها في عدة دول من خلال عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة في أفريقيا والنيبال وكوسوفو وتيمور الشرقية وكولومبيا، وتسعى نحو إبعاد هؤلاء المقاتلين السابقين من العودة إلى التنظيمات السابقة ودمجهم في مجتمعاتهم. فالتنظيمات المتطرفة بشكلٍ أو بآخر تنطلق طرق استقطابها للآخرين من مبدأ كسب القلوب والعقول، فإذا ما رفض مجتمع بأكمله هذا الفكر المتطرف صعب التغلغل فيه. الأمر الذي يعكس مدى أهمية إعداد برامج مجتمعاتية تحتضن هؤلاء المتطرفين وتظهر لهم الجانب الآخر من المبادئ الراديكالية التي سعت تلك التنظيمات لغلغلتها في أعماقهم.
ليس كل متشدد قابل للتأهيل
من أجل إعادة التأهيل لا بد من النظر في مسببات انتماء المتطرفين للتنظيم. إذ إن هناك من يتصف بالجهل الديني ويسهل انسياقه لأي شخص قادر على إقناعه، فيما ينضم آخرون للتنظيم نتيجة شعورهم بالنبذ في مجتمعهم مثلما يحدث لدى المتطرفين في أوروبا من أقليات مسلمة تشعر بالاختلاف وبالحاجة للانتماء إلى من يمثلهم بطريقة أو بأخرى. لا سيما، أولئك المتصفون بالسطحية الثقافية وعدم الإلمام أو الفهم لطبيعة الدين مما يجعلهم أكثر انقياداً لمن يتظاهر بفهمه أكثر منهم ويدعونهم للانضمام إلى دائرته التي ما هي إلا طريقة لاستقطاب متعاطفين بالإمكان تحويلهم إلى أعضاء للتنظيم. إضافة إلى أسباب أخرى اقتصادية أو قسرية مثلما حدث في سوريا والعراق، حين أجبر تنظيم داعش عدداً من الأهالي هناك الانضمام إليهم وإن كانوا غير راغبين في ذلك بعد أن تقلص أعداد مقاتليهم. وتزداد صعوبة إعادة التأهيل كلما زادت راديكالية وقناعة المتطرف في الفكر الإرهابي. فيما يلعب دور مرتبة المتطرف والدور الذي يلعبه في التنظيم عاملاً أساسياً، إذ كلما يصبح الإرهابي قائداً يستحيل إعادة تأهيله، فقد وصل إلى مرحلة تمسك بالرأي وقدرة على التأثير على اآخرين، مما يصعب تراجعه، الأمر الذي يفضي إلى إيثاره القتال حتى الممات. فيما يستحيل إعادة تأهيله، ووجوده في مقر يجمع متطرفين آخرين قد يقوده إلى تشكيل خلية جديدة.