السؤال الذي كثيراً ما حاول النقاد طرحه وما زال موضع نظر واعتبار هو إذا ما كان الفيلم، أي فيلم، ينتمي إلى المخرج أو إلى الجهة الإنتاجية؟ وبالتالي، ما هي هوية فيلم «دنكيرك» لكريستوفر نولان؟ وكيف بالإمكان أن نعيده إلى هوية المخرج البريطاني إذا ما كان التمويل أميركيا؟ وماذا عن أفلام رشيد بوشارب، ومنها «أيام المجد» (2006)، أهي جزائرية تبعاً لهوية المخرج الأصلية أم فرنسية تبعاً لتمويلها؟
الأفلام التي يمكن أن يطرح عليها هذا السؤال كثيرة وتتكرر اليوم مع افتتاح الدورة الحادية والسبعين من مهرجان «كان» السينمائي بفيلم «الكل يعرف» (Everybody Knows) للمخرج الإيراني أصغر فرهادي. العمل أنتج بتمويل إسباني غالباً.
لا السؤال وحده الذي يتكرر، بل الخطأ ذلك لأن الذين يسندون الفيلم إلى هوية مخرجه انبروا يكتبون أن الفيلم إيراني. رغبتهم في ذلك إما سياسية أو أنهم يتوهمون أن منح الفيلم هوية مخرجه تعزيز لمكانته ودوره.
على الحياد
الذين يدركون أن المنتج ينتمي إلى من يموّله، يعلمون أن الفيلم إسباني المنشأ، ليس بسبب استخدام اللغة الإسبانية فيه وتصويره هناك مع ممثلين إسبان، بل لأن التمويل الأساسي ورد من شركة «مورينا» التي من بين إنتاجاتها «تشي: الجزء الأول» سنة 2008، ذاك الذي اعتبره النقاد حينها أميركياً بسبب مخرجه ستيفن سودربيرغ. و«مورينا» هي الشركة ذاتها التي أنتجت فيلم أوليفر ستون «كومانداتي».
هذا التمويل الإسباني يعاونه تمويل فرنسي متمثل بشركة «مومنتو» وآخر (أصغر) إيطالي من شركة «لاكي ريد». واختيار أصغر فرهادي لإخراجه يعود إلى نجاح أفلامه السابقة «البائع» (2016) و«الماضي» (2013) و«انفصال» (2011) والتزاماً أوروبياً بمؤازرة أي موهبة سينمائية بصرف النظر عن هوية صاحبها طالما أنجز عملاً أو أكثر دخل به أجواء العروض العالمية بنجاح وهذا ما فعلته أفلام فرهادي الثلاثة المذكورة.
هذا مع العلم أن أقدم هذه الأفلام، «انفصال» هو الوحيد الإيراني فعلياً أنتجه فرهادي نفسه واشترت حقوقه شركة «مومنت» التي أنتجت له فيلمه الآخر «الماضي». كلاهما قام مهرجان «كان» بتبنيهما وتقديمهما في دورتي 2013 و2016. الأول خرج بجائزة أفضل ممثل (شهب حسيني) وبجائزة أفضل سيناريو (فرهادي) والثاني لم ينل جائزة «كانية» لكنه خطف أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام التالي.
«انفصال» كان كذلك آخر حلقة إيرانية في أعمال فرهادي. قبله كتب أفلاماً لآخرين وأخرج أربعة أفلام فقط هي «الرقص في الغبار» (2003) و«مدينة جميلة» (2004) ثم «ألعاب الأربعاء النارية» (2006) و«عن إيلي» (2009).
فرهادي مخرج ذكي عرف كيف يكتب مواضيع اجتماعية تفصح للغرب طبيعة كل شيء إيراني، ثم كيف يتوّج نجاحه لتقديم أفلام لا علاقة لها بإيران مطلقاً كما حال «الماضي» و«الكل يعرف» الذي يدور حول امرأة (بينيلوبي كروز) هاجرت إلى بوينس آيريس عزباء وعادت متزوّجة من أرجنتيني (خافييه باردام) لتواجه مشكلات عاطفية واجتماعية نابعة من الماضي.
فكرة الفيلم راودت فرهادي ما بعد إنجاز «الماضي» وقبل تحقيق «البائع». والتصوير كان بدأ في صيف السنة الماضية. وهو اللقاء الثاني، في غضون سنة، بين بينيلوبي كروز وخافييه باردم. الأول كان «إسكوبار» لفرناندو ليون دي أرانوا الذي تم تقديمه في مهرجان فينيسيا الماضي.
وبينما سيجد فريق معروف أن افتتاح دورة «كان» الحالية بفيلم من إخراج فرهادي هو انتصار إيراني في محفل دولي، إلا أن النظرة الواقعية مختلفة تماماً. فالانتصار الأول هو لمخرج من العالم الثالث عرف، كسواه، شق طريقه عالمياً والثاني للسينما الأوروبية التي تتبنى من يبرهن عن قدراته وتجني، عادة، إيرادات كبيرة خلال ذلك.
ضد النظام
يعتبر فرهادي هو الإيراني الوحيد الذي يعمل خارج إيران ويمكن له أن يعود إلى النظام الداخلي المنغلق على ذاته في أي وقت يشاء. هذا على عكس أترابه الذين هم إما منتشرون ما بين ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإما عاملين ضمن النظام أو خارجين عليه وهم في هذه الحالة غير مسموح لهم بالعمل ناهيك بالسفر خارجاً. «الكل يعرف» لن يكون الفيلم الوحيد لمخرج إيراني في «كان»، بل أحد اثنين فالمسابقة تحتوي على «ثلاثة وجوه» لجعفر باناهي، وهو مخرج محكوم عليه لا بالمكوث في دارته فحسب، بل بعدم تحقيق أي فيلم.
باناهي كان أثار سلطات بلاده القمعية عندما قام بتصوير أوضاع المرأة الإيرانية وما تعيشه من إحباط أولاً في «البالون الأبيض» (1995) الذي تحدّث عن فتاة تحول طينة الحياة الصعبة دون تحقيق أقل أحلامها المتمثلة بسمكة حمراء. «الدائرة» كان أقوى. أنجزه سنة 2000 وحاولت السلطات منع عرضه عالمياً لكنه تسلل إلى مهرجان فينيسيا (ثم تورنتو ونيويورك وثيسالونيكي بين أخرى) وفيه حديث عن ثلاث نساء تعانين من وضع مجحف بحق المرأة ومن منوال العلاقة الذكورية التي تحيط بها.
بعد فيلم عن وضع الرجل أيضاً عنوانه «ذهب قرمزي» (2003) عاد إلى موضوع المرأة فصوّر «أوفسايد» الذي تداول التجربة المرة التي تتعرض لها المرأة إذا ما أرادت حضور مباراة كرة قدم.
في الواقع أفلامه هذه هي أصدق فعلاً ومنهجاً من أفلام محسن مخملباف (الذي يعيش في باريس الآن) والراحل عبّاس كياروستامي معاً. كذلك هي أصدق من أفلام فرهادي التي تناولت أوضاعاً محلية كون ذاك اختار أن يموّهها بحالات تبقى شخصية يمكن لها أن تقع في أي مجتمع تحكمه التقاليد ذاتها أو القريبة منها.
بعد «أوفسايد» صدر عليه الحكم بالسجن الذي استبدل بحكم حبسه في منزله ومنعه عن العمل والسفر (طبعاً). لكن باناهي أذهل كثيرين عندما استطاع تصوير فيلم داخل منزله عنوانه «ستائر منسدلة» (2013) حول مخرج (هو) يعيش في منزله غير قادر على مغادرته وتداهمه شخصيتان قد تكون إحداهما عين السلطة المتسللة.
شهد الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين. بطريقة ما، استطاع تهريبه إلى المهرجان الألماني العريق حيث خرج بجائزة فضية. للقارئ أن يتصوّر ما يعنيه ذلك لمخرج صوّر فيلمه سرّاً وقام بتوليفه سرّاً وإرساله سرّاً إلى أحد أهم مهرجانات العالم ليعود إليه بإحدى الجوائز الأولى. باناهي كان أسر آنذاك أن ما يمنعه من الانتحار هو الاستمرار في تحقيق الأفلام. من دونها، قال، لن يرغب في البقاء حياً.
لنا أيضاً أن نتصوّر ذهول السلطات عندما اكتشفت الأمر. هذا الفوز حمّس باناهي لتحقيق فيلم آخر (بالسر أيضاً) عنوانه «تاكسي» أودعه مسابقة برلين سنة 2015.
ازدواجية
لكن قبل أن نجاري الإيحاء بأنه لا يمكن منع المبدع عن العمل حتى في أقسى الظروف، يبدو أن تسلل «تاكسي» إلى قارعة الطرق المهرجاناتية ليس بريئاً من استغلال ثغرة ما في نظام الحجز عليه على الأقل. إذ كيف يمكن للمخرج تصوير نفسه سائق سيارة تاكسي والتجوال فيها ملتقطاً نماذج لديها انتقادات (مبطنة هنا) للوضع العام إذا كان هناك أمر محكمي بإبقائه في البيت؟
هل تسلل الفيلم فعلاً أم أن تلك الثغرة كانت مدبّرة؟
إثر فوزه هنأته السلطات من ناحية ثم هاجمت مهرجان برلين لأنه سمح بعرض فيلم تعتبره طهران يسيء إلى المجتمع الإيراني ويشيع على الملأ فحوى «كاذبة» عن ذلك المجتمع.
إنه أقصى ما يمكن إطلاقه من ازدواجية ورياء. من جهة تمنع المخرج من حياة طبيعية يزاول فيها عمله بحرية كاملة، ومن ناحية أخرى تقوم بتهنئته على فوزه، ثم - من جهة ثالثة - تنتقد مهرجان برلين لقيامه بعرض الفيلم!
هذا الموقف ذاته تكرر مع خروج فيلم «انفصال» لأصغر فرهادي والتقاطه بضع جوائز توّجت بأوسكار أفضل فيلم أجنبي سنة 2012. فمن ناحية تظاهرت بالانزعاج لفوزه لأنه «لا يمثل المجتمع الإيراني جيداً»، لكنها سعدت بكون الفيلم، الذي كان من إنتاج إيراني صرف، حمل اسم السينما الإيرانية إلى المحافل العالمية الأولى.
الوضع الآن هو أن باناهي أنجز فيلماً «سرياً» آخر في مواجهة مخرج إيراني كان عليه أن ينتقل للعمل خارج بلاده لكي يستحوذ على المزيد من النجاح. «تاكسي» لم يكن فيلماً جيداً، لكنه على الأقل عكس روحاً صامدة ضد قهر النظام ومحاربته لكل ما هو إبداعي باستثناء ما قد يمر كترفيه أو لا يعكس الوضع القلق لمجتمع لم تنقله الثورة الخمينية من حال بائس إلى حال أفضل، فحاول بعض مخرجي تلك السينما التذكير بالأحلام والوعود التي لم تتحقق بل سارت في الدرب الشاق ذاته.