ثقافة الترميم والتاريخ

في رحاب الدرعية التاريخية

جانب من الدرعية التاريخية
جانب من الدرعية التاريخية
TT

ثقافة الترميم والتاريخ

جانب من الدرعية التاريخية
جانب من الدرعية التاريخية

رحبت بي الرياض في زيارتي الثانية لها بريح البادية الساحرة ومطرها مترنم الهوى بعد أن كانت زيارتي الأخيرة لها في عام 2013 لإلقاء محاضرة حول سبب عدم تحقيق الدول الإسلامية المتعاقبة السيادة في نظام دولي أحادي القطبية، ولكن زيارتي اختلفت هذه المرة لأنني حرصت على زيارة مدينة الدرعية التاريخية والعاصمة الأولى للدولة السعودية والتي يمكن اعتبارها مركز التاريخ الحديث للمملكة، وتم ترتيب زيارتي وأنا في غاية السعادة فكانت حفاوة الاستقبال المعهودة شاهداً على الكرم تابعت خلالها فيلما تسجيليا عن المدينة وجمالها والقرار الملكي بإعادة ترميمها على نفس ما كانت عليه قبل تدميرها في 1818، وقد افتتنت من الدقة المتناهية لإعادة إحياء التاريخ بلمساته في منطقتي «الطريف» و«البجيري» بعدما استمعت لشرح دقيق على خلفية تجسيد مصغر للمدينة، وعلى الفور تدافعت الأفكار من كل اتجاه وأنا بين عمق التاريخ والرؤية المستنيرة للحفاظ عليه، فجاءت الأفكار على النحو التالي:
أولاً: إنه لا خلاف على أن الآثار في نهاية المطاف هي الرابط الحسي الوحيد بين الإنسان وتاريخه، فالمرء يستطيع أن يقرأ التاريخ ولكن اكتمال تذوقه لا يتأتى إلا بالأثر الملموس الذي يُدخل الإحساس في معادلة المعرفة والفكر ليخلق صورة ذهنية بل ووجدانية لمفهوم للتاريخ، وهو ما شعرت به، فالآثار ليست مجرد أحجار أو متعلقات من الماضي كما يعتقد البعض، فهي تجسيد للتاريخ والثقافة بين جسد أُحيي من جديد وزمن مضى وروح قرأت عنها ولكنني لم ألمسها إلا الآن، فلقد عشت للحظات في حضن التاريخ السعودي فتذكرت نفسي وأنا أمام القاهرة الفاطمية بعد ترميمها وتجديدها والجهد العظيم لكاتبنا الراحل جمال الغيطاني لتحقيق هذا الهدف.
ثانياً: لا أرى ولم أر مجالاً للاختلاف حول حقيقة ثابتة وهو أن مشروعي استقلال الدولة السعودية الأولى ومشروع إقامة الدولة المصرية على أيدي محمد علي واللذين لم يفترقا إلا بحقب معدودة هما في واقع الأمر بداية لتجسيد ثقافة الهوية الفردية والدولة القومية في المنطقة بعيداً عن الأممية العثمانية التي دفعت شعوبنا للترنح تحت وطأتها لقرون ممتدة ارتبطت بفساد الحكم والتبعية والتخلف عن مجاراة العالم من حولنا، فالفكر القومي في المنطقة بدأ بمصر والسعودية، وهو أمر يحتاج إلى رؤية كلية غير جزئية في تناوله لأثره المباشر على تشكيل هويتنا المختلفة وعمَّق ثقافتنا المرتبطة بنا وبتاريخنا.
ثالثاً: ولعل ما قد يتوازى من أهمية ترميم الآثار هي الحاجة إلى ما يمكن أن أغامر فأُطلق عليه ترميم الاستنتاجات من خلال البحث المستمر في الماضي وإصلاح بعض الأخطاء الشائعة لدى البعض وليس الكل بطبيعة الحال، وقد سعدت كثيراً بحجم الوعي التاريخي لمن كنت أحادثهم خلال الزيارة عندما أكدوا على أن من دمر الدرعية كانت الدولة العثمانية، فهناك خطأ مرتبط تاريخياً بظروف تدميرها على أيدي الوالي العثماني لمصر، ومن ثم الاستدلال الخاطئ بأن المصريين هم من دمروا الدرعية.
إن المتابع لظروف تلك الحقبة يدرك اختلافها الكامل عن الحالي، فالثابت تاريخياً أن محمد علي كان ألبانياً ساقته الأقدار إلى مصر ضمن أورطة ألبانية في الجيش العثماني لطرد الحملة الفرنسية، ولكنه استطاع بدهاء شديد أن ينفرد بحكم مصر بعد سلسلة من المناورات وحسن الطالع، وفشلت كل محاولات الدولة العثمانية للتخلص منه، بما في ذلك محاولة نقله والياً على جدة، وقد طلب منه السلطان التدخل لضرب المشروع القومي السعودي، وهو ما فعله مرغماً وراضياً في نفس الوقت، فشحن الجيوش وبدأت الحرب بالوكالة عن الدولة العثمانية.
وهنا يجب التأكيد على عنصرين أساسيين الأول هو أن هذا الصراع لم يكن في أي وقت من الأوقات صراعاً بين الشعبين المصري والسعودي، فلقد استغل محمد علي هذه الحرب للتخلص من التشكيلات العسكرية التي ورثها في مصر منذ هبوط الحملة الفرنسية في 1798، فكان جيشه يتكون من الدلاة والمغاربة والأرنؤوط والروماليين بل وبعض الأفارقة وغيرهم من الجنسيات المختلفة التي كانت تحارب باسم الدولة العثمانية تحت المظلة الأممية، والحقيقة الثابتة الثانية هي أن الجيش المصري لم يولد إلا في 1822 بمقتضى قرار التجنيد الإجباري للفلاحين، أي بعد تدمير الدرعية بأربع سنوات ولم يدخل هذا الجيش معاركه في شبه الجزيرة العربية بل كانت أولى مغامراته الخارجية في حرب استقلال «المورة» أو اليونان مرة أخرى نيابة عن السلطان ولأسباب مرتبطة بمطامع محمد علي، وهي حقائق ثابتة لا جدال حولها، فالمصريون لم يكن يُسمح لهم بالمساهمة العسكرية أو الانخراط في أي تشكيلات مسلحة قبل ذلك الوقت لأسباب مفهومة، وقد شربت مصر من تبعات الفكر الأممي للدولة العثمانية هذه المرة بمساندة الدول الأوروبية لضرب الدولة القومية المصرية في 1840. ولكن الظرف التاريخي لم يسمح بتحقيق هذا الهدف تماماً، فتم تحجيم الدور القومي المصري دون القضاء عليه لأن التجربة قد ترسخت خاصة مع وجود الجيش القومي، وبالتالي خرجت مصر عملياً من عباءة الأممية إلى المفهوم القومي وسرعان ما لحقتها الجزيرة العربية بمشروعي الدولة السعودية الثانية ثم الثالثة.
وقد لازمتني هذه الأفكار وأنا خارج من صرح الدرعية العظيم مدركاً أن الآثار قد ترممت ومعها بعض التعميمات الخاطئة، وعلى خلفية المدينة والسيارة تباعد بي عنها أدركت عمق التاريخ والجهد العظيم لإحيائه بالترميم والاستنارة.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟