مسرحية «ثور فالارس»... الطغاة «والمبدعون المطبلون»

عن «دار المطبعة والوراقة الوطنية» بمراكش، صدرت مسرحية «ثور فالارس»، للأديب العراقي ماجد الخطيب، وهو صحافي وكاتب مسرحي ومترجم مقيم في ألمانيا منذ ثلاثين عاماً. و«ثور فالارس» هي العمل المسرحي السادس له، إضافة إلى ترجمته لمسرحيات كثيرة عن المجرية والإنجليزية والألمانية، ودراسة مفصلة عن شاعر ألمانيا الكبير هاينريش هاينه.
ويبدو أن دراسة ماجد الخطيب لهاينه قد قادته إلى فكرة البحث «عن تَأَوهات الألم وعذاباته التي تتحول إلى همسات موسيقية لدى البعض الآخر».
يقول في معرض تقديمه لمسرحيته: «ألهمني هاينه أيضاً فكرة كتابة مسرحية (ثور فالارس)، بل وسمعتُ لأول مرة عن هذا الثور الجهنمي بفضله».
وتدور أحداث المسرحية حول أكثر طغاة التاريخ وحشيةً وساديةً، وهو الحاكم «فالارس» الذي استخدم الثور النحاسي، الذي أهداه له الفنان والنحات بيريليوس طمعاً في الهدايا والامتيازات، حتى يتمكن الحاكم من الانتقام والبطش بعبيده وخصومه، برميهم داخل هذا الفرن الذي يتكون على هيئة ثور نحاسي له فتحة واحدة، تُغلق بعد إدخال الضحية. وتمتد شبكة من الأنابيب في جوف الثور لتحول الصراخ في أحشاء الثور إلى موسيقى راقصة تصدر من فمه ومنخريه. وهكذا، تتحول في داخل الثور عذابات المحروقين والضحايا ورعب صرخاتهم إلى موسيقى تجعل فالارس منتشياً بوحشيته وساديته.
وقد صممتْ المسرحية كي تحاكي تلك الأحداث التاريخية، بحيث وزعها الكاتب إلى اثنتي عشرة لوحة أو فصلاً. ولقد وظّف ماجد الخطيب هذه القصة المؤلمة لإدانة الإبداع والمبدعين الذين يجعلون من فنهم وسيلة تدميرية بيد السلطة والحاكم لتعذيب الإنسان المُستضعف، والذين صمتوا وشوهوا الحقائق من أجل مصالح ذاتية، كما حدث للنحات «بيريليوس». وهو بذلك يمجّد الفن الملتزم، الذي يسمو بفنانيه، ويجعل فنهم أداة لإسعاد البشر، لا لتدميرهم. وفي الوقت نفسه،، سعى الكاتب إلى إدانة الأنظمة الديكتاتورية المعاصرة التي جيشت المبدعين، من شعراء وأدباء ومغنين، من أجل تحسين صورة أنظمتهم القمعية، على حساب عذابات ضحاياهم.
ولكننا نرى أن الفنانين المطبلين يقعون في البئر نفسه الذي حفروه لغيرهم. فالطاغية «فالارس» أذاق فنانه (بيريليوس) كأس العذاب نفسه الذي صممه لغيره، وكأن الكاتب يرمز إلى أن مصير المبدع الذي يقف مع السلطات الغاشمة سيكون مشابهاً لمصائر ضحاياه.
وكم تقول لنا المسرحية، خلال ذلك، أن الإبداع الحقيقي ليس المهارة في الإنجاز الفني أو الأدبي، بل هو الإبداع الذي يكتنز القيم الإنسانية النبيلة. وبعكس ذلك، فهو لا يعدو كونه عملاً ميكانيكياً مثيراً للرعب.
كان الثور البرونزي معجزة فنية وعلمية قياساً إلى عصره، ولكنه لم يرتق إلى صفة الجمال، لأنه تحول إلى آلة تعذيب وقتل؛ إنه معجزة فنية بشعة وكاذبة، لأنها تسعى إلى تشويه حقيقة الوجع الإنساني، لتجعله شبيهاً بالموسيقى الراقصة التي تُدخل السعادة في نفس الطاغية، وتجعله مدمناً على الإيقاع الذي يأتي من خلال ألم الضحايا.
كما حاولت المسرحية أن تعقد مقارنة بين السلطة المستبدة، ممثلةً بالطاغية «فالارس»، وسلطة الشعب، مُمَثلة بالفيلسوف فيثاغورس، الإنسان والفيلسوف الذي يؤمن بقيم العلم والفن، ويدعو إلى العدل والمساواة: السلطة الأولى تستمد قوتها من خلال القمع، أما الثانية فتنتصر حتى إن كانت ضعيفة لأن قوتها تنبثق من خلال العطاء الإنساني.
وهكذا، انتصر فيثاغورس على القوة الغاشمة، وسقط الطاغية فالارس، وأعدم حتى الموت في بطن ثوره الجهنمي.
لقد حرص ماجد الخطيب على استلهام التاريخ لبناء القيم الأخلاقية التي تتناغم مع الفن النبيل والأدب والكلمة التي تلامس أوجاع الناس. كما تناول الكاتب ثنائية الخير والشر، وكيف أن الخير سينتشر لأنه أكثر التصاقاً بالحياة، وأكثر قدرة على التناغم مع القيم الإنسانية. أما الشر، فيبقى منطوياً على ذاته، شحيحاً أنانياً. ورغم قوته الشكلية، فإنه يحمل عناصر فنائه.
ولا شك أنّ انشغال القارئ بتحليل الرموز، وتفكيك الإشارات، يصرفه عن الجمال الكامن في المسرحية ذاتها، باعتبارها عملاً فنياً، بصرف النظر عما تهدف إليه.
«ثور فالارس» قد تم بناؤها بحبكة مسرحية تتصاعد فيها الأحداث والتوترات، من خلال رؤية فنية تُدرك ماهيّة الشد المسرحي، فلم يكتف الكاتب بسرد الأحداث، بل نقلنا إلى فضاءات غريبة مشحونة بالوحشية والعنف وغياب العدل وسيادة الجنون البشري، وكأنه يقنعنا بأن التاريخ يُعيد تدوير نفاياته. وتميزت المسرحية أيضاً بالحوار المُختصر، الذي تنمو عبره الأحداث وتتطور، مانحاً الشخصيات وزنها وقيمتها، كما نلاحظ أن الشبح الذي يبرز بين الفينة والأخرى يمثل بشكل أو بآخر المؤلف نفسه في عملية السيطرة على إيقاع الأحداث.
وأبرز لنا الحوار أيضاً بعض اللمسات الفكاهية، أو ما يسمى بالسخرية السوداء، من خلال المهرج الذي يحاول أن يكون مصدراً للتسلية والفكاهة. ولكن هذه الفكاهة مثقلة بالهم والخوف، وتبرز بشكل خاص أثناء محاولة الحاكم إحراق المهرج في أحشاء الثور، حينما لم يجد سواه من الضحايا، وردود فعله في لحظة كوميدية تقوم بكسر حدة الدراما السائدة في العمل.