50 سنة على سينما من الإبداعات الكبيرة

يزمع مهرجان «كان» السينمائي الذي سينطلق في الثامن من هذا الشهر في دورته الحادية والسبعين الاحتفاء بمرور خمسين سنة على أحداث سنة 1968 الثقافية. في مايو (أيار) من ذلك العام خرج الطلاب والشباب في مظاهرات حاشدة في باريس تعبيراً عن رغبتهم في تغيير واقع فني وثقافي يهدف إلى مزيد من التحرر الإبداعي. لكن مهرجان «كان» لم يكن ملماً تماماً بما يقع في العاصمة الفرنسية. كان قد انطلق بباقة من الأفلام الجميلة يعرضها لجمهوره المستمتع بشمس مشرقة وبهدوء يثير غيرة المدن الأخرى.
فجأة انتقل الصخب إلى المهرجان ذاته بوصول المخرجين جان - لوك غودار وفرنسوا تروفو داعين إلى إيقاف المهرجان. تروفو اتصل برومان بولانسكي الذي كان عضو لجنة التحكيم آنذاك وكان يحتل شقة في فندق مارتينيز مع زوجته الراحلة شارون تَيت وطلب منه الحضور إلى مؤتمر صحافي.
هب المخرج من سريره في ذلك الصباح ووصل إلى المؤتمر ليكتشف سعي تروفو وغودار إيقاف المهرجان. قال متذكراً: «تروفو كان هادئاً في دعوته، لكن غودار كان مرتفع الصوت ومحرضاً». ما طالب به غودار هو تغيير ماهية الأفلام التي يجري ترشيحها للمهرجان وإلغاء الجوائز.
فيلمان لبرغمن
1968 في السينما كان أكثر من ذلك الحدث على أهميته. كان عاماً غزير النتاجات الفنية الممهورة بأسماء كبار المخرجين حول العالم. الدورة حملت الرقم 21 وقدمت 28 فيلماً في المسابقة من بينها سبعة أفلام لسبعة مخرجين نابغين هم ميكلوش يانشو، وميلوش فورمان، وآلان رينيه، وكارلوس ساورا، وألكسندر زاركي، وكارلو ليزاني وجيري منزل. الأفلام الباقية تتلألأ عن بعد اليوم أيضاً ومنها أفلام لبيتر كولنسون وجاك كاردف ورتشارد لستر وماي زترلينغ وألبرت فيني وساندور سارا.
خارج المسابقة كان هناك أربعة أفلام واحد منها للعملاق فديريكو فيلليني والآخر للفرنسي المبدع لوي مال.
لكن الوضع لم يكن وقفاً على «كان» بأسره، بل شهد ذلك العام تحديداً أعمالاً رائعة كثيرة في موجة كانت بدأت قبل بضعة أعوام واستمرت، بعد ذلك، لبضعة أعوام أخرى. كل واحد من هذه الأعمال يمكن الاحتفاء به اليوم بمناسبة مرور 50 سنة على إنجازه. كل واحد عاش هذه المساحة الزمنية ولم يَشِخْ كما تفعل مئات الأفلام الأخرى وهي بعد في سنواتها الأولى.
كان هناك، وعلى سبيل انتقاء بعض الأفضل، تحفة ستانلي كوبريك 2001: A Space Odyssey الذي، في عرف غالبية النقاد، أهم فيلم خيال - علمي في تاريخ السينما. فكرة التقطها من سيناريو للكاتب المتخصص في ذلك النوع آرثر س. كلارك ليحكي عبرها رؤيته لتاريخ العالم ثم لمستقبله. التصاميم الفنية التي اشتغل عليها ثلاثة من كبار العاملين في هذا الجانب، كانت لا تقل إجادة عما يرد في الفيلم من مشاهد في فيلم من 149 دقيقة مذهلة بلا قصّة.
في الاتجاه المعاكس قدم السويدي إنغمار برغمن فيلمه الممتع «عار» الذي تم ترشيحه لتسعة أوسكارات لم يفز منها بشيء لكنه فاز بـ73 جائزة أخرى. ففي حين ذهب كوبريك إلى المدى الأقصى في الزمان والمكان، توجه برغمن إلى الذات البشرية وحدها كما اعتاد ليحكي عن رجل (ماكس فون سيدو) وزوجته (لِف أولمن) اللذين يجدان نفسيهما في زوبعة حرب أهلية.
لم يكن «عار» فيلم برغمن الوحيد في ذلك العام بل كان الثاني بعد «ساعة الذئب» حيث كلاهما (لِف وسيدو) زوجان يعيشان فوق جزيرة نائية. هي لا تتحمل العزلة والوحدة فقط، بل نزوع الزوج إلى هلوسات النفس ومشاعرها المكبوتة.
السينما الإيطالية كانت منقسمة بين فيلمين متناقضين في النوع والأسلوب وكل شيء آخر: «نظرية» لبيير باولو بازوليني و«ذات مرّة في الغرب» لسيرجيو ليوني. طبيعياً، كان فيلم ليوني الأكثر انتشاراً وشهرة حتى بين النقاد: فيلم وسترن عن انتقام فريد يقوده تشارلز برونسون ضد هنري فوندا. أكثر من أي فيلم آخر لليوني، كانت مشاهد الفيلم فصولاً كاملة من المواقف الأخاذة رغم أنها كانت - إلى حد كبير - مصطنعة.
مخرج إيطالي ثالث قدّم عملاً لافتاً جداً وجديراً بالإعجاب هو فرانكو زيفريللي. هذا الشاعر الموسيقي البديع وجد تمويلاً بريطانياً مكنه من نقل «روميو وجولييت» إلى الشاشة الكبيرة كما لم يستطع أحد تجسيده على النحو ذاته لا قبل زيفريللي ولا بعده.
السينما البريطانية كانت حاضرة بقوّة في ذلك الحين: لندساي أندرسن قدّم فيلمه الثوري If الذي، من دون قصد، يلتقي مع تلك الثورة الاجتماعية والثقافية التي قام بها طلاب السوربون في باريس آنذاك. كارول ريد قدم فيلماً آخر مقتبسا عن مادة أدبية هو «أوليفر!» (رواية تشارلز ديكنز الشهيرة). وأنطوني هارفي عمد إلى مسرحية جيمس غولدمان «أسد في الشتاء» وصنع منها فيلماً حصد ثلاثة أوسكارات.
في الجانب الفرنسي، وبينما قدّم روجيه فاديم لهواً بعنوان «بارباريللا» من بطولة جين فوندا، عمد فرنسوا تروفو إلى فيلمين رقيقين أحدهما «قبلات مسروقة» والثاني «العروس ارتدت السواد».
البولندي - الفرنسي رومان بولانسكي، الذي اتصل به تروفو ليحضر المؤتمر الصحافي كما تقدّم، حقق فيلماً أميركياً يدخل في نطاق الرعب عنوانه «طفل روزماري» حقق به نجاحاً كبيراً ولو داكناً.
في هذا الحين كانت هوليوود قررت تسليم القيادة للمخرجين ولو على سبيل التجربة بعد نجاحات رائعة خلال السنوات العشر السابقة.
البريطاني بيتر ياتس أذهل هوليوود والمشاهدين معاً بقدرته الفائقة على خلق مطاردات سيارات فوق شوارع سان فرانسيسكو الساحرة في «بوليت» من بطولة ستيف ماكوين. الناقد المتحوّل إلى الإخراج بيتر بوغدانوفيتش حقق «أهداف» حول قناص يصطاد ضحاياه في صالة سينما مفتوحة. وجون كازيفيتيس عمد إلى سينما المؤلف ولو بأسلوبه الخاص في «وجوه»، ثم ها هو جورج أ. روميرو يقدّم فيلم رعب أفضل من فيلم بولانسكي على أكثر من صعيد عنوانه «ليلة الموتى الأحياء».
هي سينما كبيرة في إبداعاتها وتوهجاتها كما في أسماء الواقفين وراءها. معظمهم رحلوا والباقون على الطريق.

... أما عربياً‬

> خلا استفتاء «أفضل 100 فيلم عربي» الذي أشرف عليه مهرجان دبي السينمائي سنة 2013 من ذكر أفلام عربية من إنتاج 1968 باستثناء فيلم واحد هو «البوسطجي» لحسين كمال الذي احتل المركز 36. وهي كانت بالفعل سنة قاحلة، لكن «البوسطجي» لم يكن الفيلم المصري الجيد الوحيد. ثلاثة أخرى كانت تستحق التتويج:
> «القضية 68» لصلاح أبو سيف
> «الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ
> «قنديل أم هاشم» لكمال عطية...
.... ولم يكن هناك فيلم ليوسف شاهين في ذلك العام