هناك قصة رواها المدير الفني الفرنسي آرسين فينغر، في أكثر من مناسبة ومع أشخاص مختلفين على العشاء، وكان لها دائما التأثير المطلوب في كل مرة، إذ تحدث فينغر، الذي قرر الرحيل عن آرسنال الإنجليزي بنهاية الموسم الجاري بعد 22 عاما مع «المدفعجية»، عن كتاب قرأه عن قاتل كان يستطيع أن يوقف قلبه عندما يقتل الآخرين ثم يعيد تشغيله مرة أخرى، قبل أن يقول: «أنا أبحث عن مهاجم كهذا».
في الحقيقة، لا بد من أنها كانت جلسة مثيرة وشيقة للغاية، فهي تضم فينغر، ويجري الحديث خلالها عن قاتل محترف، وعن الموت وكرة القدم. ويصف أحد معارف فينغر الذي استمع إلى تلك القصة منه، كيف كان الأشخاص الحاضرون يستمعون بكل اهتمام إلى ما يرويه فينغر، قائلا: «آرسين كان يعطيهم الطعام بيده. إنه رفيق ساحر ورائع». لقد حظي فينغر بدعم هائل من جانب نادي آرسنال، ومن عالم كرة القدم كله، عندما أعلن أنه سيترك منصبه كمدير فني لآرسنال بعد 22 عاماً تقريباً في نهاية الموسم الجاري.
وفي الواقع، يجب الاحتفال في المقام الأول بقدرة المدير الفني الفرنسي على التواصل مع الجميع بشكل رائع على المستوى الإنساني. وهناك كثير من المراحل الموثقة جيدا لفينغر مع نادي آرسنال؛ لكن الشيء الثابت دائما هو سلوكه الرائع دائما حتى عندما كان يتعرض لضغوط لا يمكن تحملها، فضلا عن شجاعته الفائقة من وراء الكواليس.
يقول إيفان غازيديس، الرئيس التنفيذي لنادي آرسنال: «بعيداً عن كرة القدم، يُلهم فينغر الناس من حوله. إنه يفعل ذلك من خلال صفاته الإنسانية وفهمه وتعاطفه مع الناس. إنه قادر على أن يجعلهم يؤمنون بأنهم قادرون على تحقيق أشياء عظيمة، سواء داخل الملعب أو خارجه. لقد ألهم جورج ويا؛ لأنه يؤمن بأنه لا يستطيع فقط أن يكون أفضل لاعب في العالم؛ بل أن يكون رئيساً لبلاده أيضا». لقد كان من الرائع بالنسبة لكثير من الصحافيين أن يعملوا على توثيق السيرة المهنية الرائعة لفينغر، ولقد عايشنا جميعاً تلك اللحظات التي يبتسم فيها ويشرح بهدوء، لماذا هو على صواب والجميع على خطأ، وفي كثير من الأحيان في مواجهة التحديات الصعبة.
وفي كثير من الأحيان كانت الأحداث تسير كما توقع هو تماما، وهو ما كان يجبرك على تصديقه والاستماع إليه بكل اهتمام بعد ذلك. ودائما ما كان فينغر قادرا على جذب اهتمام الآخرين عندما يتحدث عن القضايا المهمة التي لا تتعلق دائماً بكرة القدم. وقال المدير الفني الفرنسي ذات مرة: «لماذا لا نتحدث فقط عن السياسة، سيكون ذلك أكثر إثارة للاهتمام؟»؛ لكن للأسف لم يحدث ذلك كثيرا. ويمتلك فينغر خبرات هائلة في الاقتصاد، كما يمكن القول إنه طبيب نفسي وعالم اجتماع. وعندما يبدأ الجملة بقوله: «نحن نعيش في مجتمع من...»، فاعلم على الفور أنه سيتحدث عن ملاحظة مثيرة وتستحق التفكير والتأمل. لقد كان يتحدث عن مجتمع يحترم التعددية والأفكار المختلفة، والبحث دائما عن تحقيق الأهداف الكبرى واحدا تلو الآخر، وغيرها من الأشياء المهمة.
وقال فينغر في عيد الميلاد الماضي: «أهم شيء هو الإيمان بقدرات البشر، فعندما تقضي مثل هذا الوقت الطويل في العمل، فأنت لست ساذجاً، ولا بد من أن تعرف كل نقاط القوة والضعف وكيف يكون الناس، في بعض الأحيان، أنانيين أو منحطين؛ لكن لا يزال يتعين عليك أن تؤمن بأن هناك نوراً داخل كل إنسان يمكنك أن تخرجه منه. ويتمثل الهدف النهائي في جعل الناس سعداء. وللأسف، لا يمكنك أن تنجح في تحقيق ذلك دائما؛ لكن يجب عليك أن تحاول القيام بذلك». ودائما ما كان فينغر يُظهر في المؤتمرات الصحافية أن كرامته أهم من أي شيء آخر، ولا سيما في المرحلة النهائية من ولايته مع آرسنال.
ويمكن القول من دون أدنى شك، إن فينغر لم يفقد هدوءه ورباطة جأشه سوى في مرات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة، وقد حدث ذلك بسبب تعرضه لضغوط هائلة. لقد طُلب من فينغر على فترات منتظمة خلال السنوات الخمس الماضية، على الأقل، الإعلان عما إذا كان الوقت قد أصبح مناسباً لرحيله عن آرسنال، مع وجود قدر كبير من التدخل من جانب من يطرح الأسئلة، وكأن فينغر لم يعد مسؤولاً عن قيادة الفريق.
وبعد إحدى المناسبات النادرة التي فقد فيها فينغر أعصابه - قبل مباراة في دوري أبطال أوروبا ضد بايرن ميونيخ في فبراير (شباط) عام 2013 بعد سؤاله عن عقده مع الفريق – قال أحد زملائي المقيمين في مدينة مانشستر، إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال توجيه مثل هذا السؤال للمدير الفني لمانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون. وربما يكون السبب وراء ذلك هو الهدوء الشديد الذي كان يتسم به فينغر في تعامله مع وسائل الإعلام. وقد تراجعت علاقة فينغر مع الصحافة إلى درجة التجميد، وشعر معظم الصحافيين بأن هذا التراجع قد بدأ عندما توقف المدير الفني الفرنسي عن عقد مؤتمره الصحافي في غرفة منفصلة. وكان لدى الصحافيين حالة من الولع بكشف كافة التفاصيل المتعلقة بفينغر، لدرجة أنهم توصلوا إلى أنه يحب الاستماع للمغني البلجيكي بلاستيك برتراند!
ولم يكن فينغر يعارض مطلقاً الحديث عن أي قضايا يومية؛ لكنه كان يرغب في عدم الحديث عن حياته الخاصة ومشاعره الشخصية، وهذا من حقه بكل تأكيد. ولم يجد فينغر حرجاً في أن يعلن أن حالة الشك المحيطة بمستقبله مع آرسنال الموسم الماضي قد أثرت بالسلب على مستوى الفريق. لقد حافظ فينغر بكل وعي على وجود مسافة بينه وبين الصحافة البريطانية في القرن الواحد والعشرين، التي لم يكن يتعامل معها كأفراد، وإنما ككيان ليس له شكل واضح. فلم يكن فينغر يخاطب الصحافيين بأسمائهم مطلقاً، بل كان يتعامل مع الصحافيين من منطلق «نحن وهم». وعندما أصبحت الشكوك تحوم حول مستقبله مع الفريق، بدأ يتعامل مع الصحافة بقدر كبير من المراوغة.
وكانت بعض مؤتمراته الصحافية في الفترة الأخيرة لا تتجاوز خمس دقائق، وكان ينظر خلالها بشكل طويل ومتعمد إلى ساعته، ولم يعد لديه البريق نفسه الذي كان في عينيه، وأصبحت أجوبته متوقعة، وهو ما كان يحمل قدراً كبيراً من الرمزية في حقيقة الأمر. ومع ذلك، ما زال فينغر يحتفظ بالقدرة على إثارة مشاعر الولع الحقيقي، فعندما أعلن عن رحيله يوم الجمعة الماضي، كان كثير من أنصار آرسنال سعداء؛ لكن إذا كانوا حقا يريدون ذلك، فلماذا يشعرون بالاستياء في الوقت نفسه؟
تكمن الإجابة في أنهم يعرفون تماماً أن فينغر يعد رجلاً نبيلاً، قبل كل شيء، كما أنه كان جزءاً من حياة كثير من الأشخاص لفترة طويلة. وبالنسبة لمشجعي آرسنال الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً، فهو المدير الفني الوحيد الذي يعرفونه حقاً لفريقهم، وقد كان وجوده مطمئنا بشكل غريب في عالم دائم التغير، على الرغم من أنه قد سبب لهم بعض الإحباطات في السنوات الأخيرة.
وسوف يواصل فينغر، الذي يمكن وصفه بأنه «شهيد لقيمه»، القتال حتى اليوم الأخير من عمله مع آرسنال. ورغم كل الجدل الذي أثير حول المدير الفني الفرنسي القدير، فلا يزال هناك شعور بالتقدير لكل ما قدمه خلال مسيرته التدريبية الطويلة مع آرسنال.
صفات فينغر الإنسانية جعلت أشد منتقديه يحزنون لرحيله
جماهير آرسنال شعرت بالاطمئنان لوجوده طيلة 22 عاماً رغم إحباطات السنوات الأخيرة
صفات فينغر الإنسانية جعلت أشد منتقديه يحزنون لرحيله
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة