«مهرجان أبو تمام» يجدد نفسه بحضور شعراء عرب وتحية من أدونيس

الموصليون يعبّون هواء الحرية بأثر رجعي

«مهرجان أبو تمام» يجدد نفسه بحضور شعراء عرب وتحية من أدونيس
TT

«مهرجان أبو تمام» يجدد نفسه بحضور شعراء عرب وتحية من أدونيس

«مهرجان أبو تمام» يجدد نفسه بحضور شعراء عرب وتحية من أدونيس

دائماً ما نسمع عن مهرجانات شعرية، كانت محطات مهمة لبعض الشعراء العرب، ومن هذه المهرجانات «مهرجان أبو تمام» الشعري في مدينة الموصل، ومن هؤلاء الشعراء ــ مثلاً ــ الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني، الذي يُروى لنا أنه كان ضيف الموصل في مهرجان أبي تمام في بداية السبعينيات، وقيل إنه دُعي إلى المنصة، وقد كان بصيراً وبسيط الثياب، فلم يعره الجمهور ــ أول الأمر ــ أي شيء، لكنه ما إن صعد المنصة، وقرأ قصيدته الشهيرة التي خاطب فيها أبا تمام ناسجاً فيها بهدي قصيدة أبي تمام الشهيرة في فتح عمورية، التي جاء في مطلعها الشهير:
السيف أصدق إنباء من الكتبِ
في حدِه الحدُ بين الجد واللعبِ
فيما جاءت قصيدة البردوني على نسجها ولكن بمزاج آخر ومطلعها:
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذبُ
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
«حبيب» وافيتُ من صنعاء يحملني
نسرٌ وخلف ضلوعي يلهث العربُ
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجــربُ
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمـــــنٍ
ولم يمت في حشاها العشق والطربُ
ويُقال ــ والعهدة على القائل ــ أن الجواهري الكبير لحظة سماعه هذه القصيدة، قام من مجلسه، وقال إن هذه القصيدة لا تُسمع إلا وقوفاً.
ومن هذا التاريخ أصبح للبردوني حضور وإشهار، ولا أقول «شعرية»، فهو شاعر كبير قبل مهرجان أبي تمام وبعده، ولكن الدعاية والإشهار، حصلا له بعد هذا المهرجان المهم.
لذلك بقي مهرجان أبي تمام في الذاكرة والذائقة، وها أنا أكتب هذه الكلمات، وأنا عائدٌ لتوي من مهرجان أبي تمام الخامس في الموصل، الذي عُقد وقد حضره عدد من الشعراء العرب، وعدد كبير من الشعراء العراقيين.
ما إنْ وطئت أقدامنا أرض الموصل، حتى شممنا روائح الفرح من عيون الناس، ومن ضحكاتهم، إنهم يعبون هواء الحرية بأثر رجعي، كما يدخنون النرجيلة بأثر رجعي، ويواعدون حبيباتهم بأثر رجعي، ويمارسون الحياة التي كانت عاطلة، ونصف ميتة، بأثر رجعي أيضاً، هذا ما شاهدته في عيون شبابها، ورجالها، ونسائها، الذين التقيتهم، وهم يسردون قصص الموت الخيالية، التي كانت تلفهم من زقاق إلى زقاق، ومن دمعة لأخرى، ها هم الآن ينفضون كل ذلك الرماد، ويبدأون بقص شريط الحياة الذي فقدوه رغم الخراب الذي شاهدناه في الجانب الأيسر من مدينة الموصل، الخراب الذي لا يتحمله قلب، وهو يرى البنايات مختلطة بأرواح الناس، وبضحكات الأطفال التي كانت تجوب تلك البيوت في يوم ما.
أي خرابٍ صنعه خليفة «داعش» بعد يونيو (حزيران) 2014 بهذه المدينة، وبنا، وها نحن نقف الآن على أطلال منبره الذي أعلن دولته منه، نقف متحسرين لأن هذا المكان العظيم «جامع النوري ومنارة الحدباء» قد تهدما بالكامل، لأن الخليفة من هنا أعلن دولته الظلامية وهرب متخفياً، فيما بقي وكلاؤه يعضون هذا الجامع، ويتحصنون بالصغار والنساء.
الطريف في الأمر أن عدداً جيداً من الشعراء العرب، كان موجوداً في المهرجان. جاء هؤلاء الشعراء، دون أن يضعوا حاجزاً للخوف، أو القتل، أو الاختطاف، فيما أنا شخصياً قلت لزوجتي إنني مدعو لأربيل لأنني لو قلت سأذهب إلى الموصل لوقفت حائلاً بيني وبين الموصل، لكنني أرى أصدقائي العرب، فأصيح في داخلي، يارب هل هناك أحلى من أن تكون شاعراً مجنوناً في هذه اللحظات؟
المهرجان حضره أكثر من خمسين شاعراً عراقياً و7 شعراء عرب، وكان ناجحاً بكل تفاصيله التنظيمية، والإدارية، وما شاهدته أنَّ مجموعة رائعة من الشعراء الشباب، ملتفين مع من هم أكبر منهم في اتحاد نينوى، ولكنهم أشبه بروح هذا الاتحاد، بوجوههم الطافحة بالحياة، وبشعرهم الذي سمعناه في مقهى داخل الموصل «نادي الكتاب»، إذ كانت جلسة هؤلاء الشعراء من أجمل جلسات المهرجان، وهي على هامشه، حيث عقدت في التاسعة ليلاً، حتى إنها أغرت الشاعرة السورية ليندا إبراهيم أنْ تطلب من مقدم الجلسة أن ينادي عليها، لتقرأ بعض الأبيات، علماً أن قراءتها في الجلسة الختامية، ولكنها ــ كما ذكرت ــ أنها لم تستطع أن تمسك نفسها أمام جمال هذه الجلسة.
ما كان طافحاً بالحياة أكثر هو الليلة الأخيرة التي وصلنا فيها حد التعب، فقد قال لنا المنظمون إن هناك سهرة في مقهى «قنطرة» فرفض البعض المجيء، لأنهم تعبوا، ولكنهم ندموا فيما بعد أشد الندم، فقد فوجئنا بأن الموصل كلها في هذا المقهى الصغير، ولكن أي موصل؟ إنها الموصل التي تغني أجمل الغناء، وترقص بأجمل الدبكات، وتنشد لجميع القادمين من الشعراء العرب، أحلى أغاني أوطانهم.
كنتُ جالساً في زاوية المقهى، وأدخن متمنياً من إحداهن أن تقول لي «واصل تدخينك يغريني / رجل في لحظة تدخين»، ولكني بقيت أدخن وأنا شارد الذهن بهذه المدينة، التي ترقص الآن، فيما كانت ملفوفة بـ«غرابيب سود» قبل أيام، هذه المدينة التي سفح خيرة شبابنا دماءهم على أسوارها، ها هي الآن تولد من ركام الكهوف والأزمنة الغابرة.
الشعر في الموصل هو الصفحة الثانية بعد تحريرها عسكرياً نهاية عام 2017، لأن مهرجان أبي تمام الشعري هو العمل الإبداعي المهم، أو الأهم، بعد تلك اللحظة.
يجدر أن أذكر أن الشيء المهم الذي حدث في مهرجان أبي تمام، هي تحية كبيرة، ومهمة وجهها الشاعر أدونيس عبر رسائل نصية بعثها عن طريقي إلى المهرجان قبل يومين من انطلاقه، وقد قرأتها كاملة في الافتتاح، وهو يحيي المحتفلين، ويذكرهم بأهمية الشعر حيث يقول: «أحييكم تحية الإبداع الذي يؤكد لنا، اليوم أيضاً، أن ما حدث للعرب، خصوصاً المسلمين منهم، في بدايات القرن الحادي والعشرين، جدير بأن يذكرنا أن الشعر، استبصاراً وكشفاً، هو الطاقة الأعلى إنسانية، والأعمق رؤية».



«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.