الوجوه الملتبسة للجوائز الأدبية

لا تشكل معياراً للحكم على المبدعين وتحديد أحجامهم الفعلية وقاماتهم

تولستوي
تولستوي
TT

الوجوه الملتبسة للجوائز الأدبية

تولستوي
تولستوي

لطالما أثارت الجوائز المختلفة التي تمنح للكتاب والمبدعين لغطاً واسعاً وغير محدود في الأوساط الثقافية والنقدية والإعلامية. فلا تكاد هيئة من الهيئات المعنية بهذا الشأن تعلن أسماء الفائزين بهذا الفرع الأدبي أو ذاك حتى تتصاعد موجات متتالية من ردود الأفعال المنقسمة بين الابتهاج والاحتجاج، وبين التأييد والتشكيك. وهذه الردود لا تنحصر في أهلية الأشخاص الممنوحين وأحقيتهم في بعض الأحيان، بل تتعدى ذلك إلى التنديد بالفكرة نفسها واعتبارها نوعاً من الرشى التي تهدف إلى تدجين الكتاب وإعادتهم إلى حظائر السلطة وبيت طاعتها. وإذا كانت مثل هذه الشكوك لا تجد في بلدان الغرب وأقطاره المتقدمة مسوغاً كافياً لها، فإن الأمر يختلف كل الاختلاف في العالم العربي وبلدان العالم الثالث حيث تخضع كثير من الجوائز، وبخاصة الرسمية منها، لاعتبارات خارجة عن أهلية الأسماء والأعمال المرشحة ومتصلة بالأثمان السياسية والأخلاقية التي لا يتورع البعض عن دفعها من أجل غنائمه الموعودة. ومع ذلك فإن من الإجحاف أن نضع الجوائز الرسمية في سلة واحدة، إذ ينبغي التفريق جيداً بين الجوائز التي وظفها بعض الحكام لتلميع صورتهم وتزيين بلاطاتهم بصغار الكتبة والمداحين، وبين تلك التي تلتزم بالحد المعقول من معايير النزاهة والموضوعية، وتتخذ طابعاً تقديرياً للرواد والمكرسين وتشجيعياً بالنسبة للشبان من ذوي المواهب الواعدة.
وأعتقد أنهم نادرون أولئك الشعراء والكتّاب الذين لا يطمحون إلى نيل جوائز أدبية مرموقة يحققون من خلالها اعترافاً بمكانتهم ومنجزهم الإبداعي، فضلاً عن المكافأة المالية التي ترد عنهم غائلة الفقر والعوز، وبخاصة في زمني الكهولة والشيخوخة. ومع ذلك فإذا كان طموح الكاتب لنيل مثل هذه الجوائز مبرَّراً ومشروعاً ولا غبار عليه، فإن من غير المبرر بالطبع أن يتحول هذا الطموح إلى وسواس يومي أو هاجس مرَضي يقع البعض تحت وطأته مدى العمر. وما هو غير مبرر أيضاً أن يعمد البعض، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، إلى إعداد كتب ومؤلفات خاصة تراعي الشروط والمواصفات المطلوبة لنيل هذه الجائزة أو تلك، وهو ما تؤكده حالات وشواهد عدة في السنوات القليلة الفائتة. فالإنجازات الحقيقية لا يمكن أن تتحقق وفق تصميمات مسبقة أو غايات مادية بحتة، بل هي حفر في تربة النفس بحثاً عما يعصم الكاتب من الوقوع في شرك اليأس وبراثن العدم، وهي منازلة ضارية مع الكلمات فوق ساحة مأهولة بالوحشة والخوف. وهي تبعاً لذلك تتطلب إطفاء الأنوار تماماً والإخلاد إلى عتمة الداخل، بعيداً عن إغواء التصفيق وجاذبية المنابر وشبق المكافآت المادية ومراكز النفوذ السياسية والآيديولوجية. وإذا كان لهذه الجهة أو تلك أن تكافئ الكاتب على إضافاته الإبداعية فيجب أن يتم ذلك دون شروط أو تنازلات أو مساومات من أي نوع.
لكن الحقيقة التي لا ينبغي إغفالها هي أن الجوائز على أنواعها وتفاوت قيمتها وصدقيتها لا تشكل معياراً حقيقياً ووحيداً للحكم على المبدعين وتحديد قاماتهم وأحجامهم الفعلية، ولا يمكن بالتالي أن نربط بشكل حاسم بين قيمة الكاتب وبين ما يناله من جوائز وأوسمة وتكريمات. فالحقيقة الأدبية نسبية ومخاتلة وحمالة أوجه، وليس ثمة من معايير نهائية لتحديد مقاساتها والعثور عليها. ومهما بلغت ثقافة الأشخاص المنوطين بالتحكيم فإن آراءهم على وجاهتها لا تختزل آراء القراء ووجهات نظرهم في نتاج الشعراء والكتاب المرشحين لنيل هذه الجائزة أو تلك.
كما أن بعض الجوائز الأدبية قد أنشئت في الأصل لدواعٍ آيديولوجية، وقُدمت على صورة «إكراميات» ومكافآت لمن يتم التثبت من ولائهم الشخصي، أو ولاء دولهم وأحزابهم، للدولة المانحة. وهو ما بدا جلياً خلال الحقبة السوفياتية، حيث كانت جائزتا اللوتس ولينين تمنحان في الأعم الغالب لأسباب عقائدية وسياسية غير متصلة بالإبداع، ولأسماء متواضعة النتاج وشحيحة المواهب.
سيكون من الإجحاف بالطبع أن نخلط بين الجوائز الكبرى ذات التاريخ العريق مثل نوبل وغونكور وبوكر وبوليتزر وبين تلك التي تنتشر كالفطر في دول العالم المختلفة، وتبدو أقرب إلى الفولكلور والمسابقات المدرسية منها إلى أي شيء آخر. ومع ذلك فإن جائزةً من وزن نوبل نفسها لم تنج من تهم الانحياز الآيديولوجي والتعصب للثقافة الغربية وتهميش ثقافات معينة أو تغييبها، فضلاً عن المساومات الشخصية بين أعضاء أكاديميتها التي بلغت حدود الفضائح في بعض الأحيان. ورغم كونها الأهم والأقدم بين مثيلاتها فإن علامات استفهام كثيرة حول بعض من مُنحوها دون جدارة واستحقاق، أو الذين طوتهم بعد نيلها بقليل غياهب النسيان، حيث قلة في العالم تتذكر أسماء مثل برودوم وشبتلر وبونين وغيرهم. في حين أن بعض الذين لم يمنحوها خلخلوا بعنف معاجم لغاتهم وخلقوا من بنات أخيلتهم نماذج للعيش عصية على النسيان، من مثل الروسي ليو تولستوي صاحب «الحرب والسلم» و «أنّا كارنينا»، والفرنسي مرسيل بروست صاحب «البحث عن الزمن الضائع»، والآيرلندي جيمس جويس صاحب «عوليس» و«صورة الفنان في شبابه»، واليوناني نيكيس كازانتازاكيس صاحب «زوربا اليوناني»، والأرجنتيني خورخي بورخيس والفرنسي أراغون، والإنجليزية فيرجينيا وولف، وكثيرين غيرهم.
ولا يمكن للمرء أن ينسى أولئك الذين «تعالوا» على الجائزة التي يحلم بها معظم كتاب العالم، من مثل جان بول سارتر الذي اعتذر عن قبولها بدعوى رفضه لكل أشكال المؤسسات، وجورج برناردشو الذي شبهها بطوق الأمان الذي يُرمى لمن بلغوا في الأصل بر الأمان، والذي صرح على طريقته في السخرية «إنني أغفر لنوبل أنه صنع الديناميت، ولكنني لا أغفر له إنشاءه لهذه الجائزة}.
لا يختلف وضع الجوائز العربية التي تتزايد باطراد في الآونة الأخيرة عما هو الحال في الإطار العالمي. فبصرف النظر عن كثير من الأسماء الهامة التي نالتها، سيعثر البعض بين حين وآخر على من لا يرون فيه من حيث الأهمية الأدبية مستحقاً للظفر بجائزة كبرى من وزن جائزة زايد للكتاب وجائزة الملك فيصل وجائزة كتارا وجائزة السلطان قابوس وجائزة سلطان بن علي العويس والبوكر بنسختها العربية، أو غيرها من الجوائز المماثلة. وما يزيد من حساسية الموقف أو حدة المنافسة بين المبدعين هو المكافأة المالية العالية التي تمنح للفائزين، والتي توازي على هذا الصعيد ما تمنحه أرفع الجوائز العالمية وأكثرها عراقة. ولن يعدم أي منا العثور على ثغرات وعيوب تطال هذه الجائزة أو تلك في غير وجه من الوجوه، كأن تفضي بعض التسويات بين المحكمين، أو بين هؤلاء وبين مانحي الجائزة ومجالس أمنائها، بمراعاة الاعتبارات الكيانية والقطرية في اختيار الفائزين، أو أن يحظى بالفوز من يعتبرهم البعض أسماء من الدرجة الثانية على حساب مبدعين أكثر أهمية منهم. أو أن تطغى الرواية على الشعر بصورة كاسحة في بعض الحالات. على أن كل تلك الهنات لا ينبغي أن تطال المبدأ بحد ذاته، حيث يحتاج الكتاب الذين سخروا حياتهم برمتها من أجل رفع منسوب الحرية والفرح والجمال على هذا الكوكب البائس لمن يشد على أيديهم وينتبه لمغامرتهم الإبداعية الشاقة، في ظل انهيار القيم واستتباب الغرائز وانصراف الناس عن القراءة. أما القول بأن الجوائز، وبخاصة الكبرى بينها، قد تودي بالحائزين عليها إلى درك الزهو والانتشاء بالنفس والكف عن التطور فهو لا ينسحب إلا على الكتاب الزائفين والنرجسيين الذين نضبت مواهبهم في الأصل، فيما لا نُعدم على الجانب الآخر من يشيحون بوجوههم سريعاً عن الحدث لينقبوا في أعماق ذواتهم عن الكنوز الأثمن التي لا سبيل إلى نفادها.



دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
TT

دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)

تُعد دراما السيرة الذاتية للمشاهير والشخصيات العامة من أهم أنواع الدراما التي يُقبل عليها المشاهد عالمياً، لكن الأزمة الأساسية التي تواجه هذا النوع الدرامي تتعلق بالصراع مع الورثة حول أحقية تقديم العمل من عدمه، وفق متابعين ونقاد.

وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا وسائل إعلام بتصريحات على لسان الممثل كريم نجل النجم الراحل محمود عبد العزيز أنه «يرفض تحويل حياة والده إلى عمل درامي».

في حين أن محمود عبد العزيز قدم أحد أشهر مسلسلات السيرة الذاتية وهو «رأفت الهجان» عن قصة عميل المخابرات المصرية الذي عاش في إسرائيل رفعت الجمال، وحقّق العمل الذي بُث الجزء الأول منه لأول مرة عام 1988 نجاحاً ساحقاً في أجزائه الثلاثة.

مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

وعلى الرغم من أن الفنان الراحل أحمد زكي قدم 3 أفلام سيرة ذاتية عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر «ناصر 56» عام 1996، والرئيس الراحل أنور السادات «أيام السادات» عام 2001، والمطرب الراحل عبد الحليم حافظ «حليم» عام 2006، بيد أن شقيقته إيمان زكي رفضت رفضاً قاطعاً تقديم قصة حياته في مسلسل.

حق عام بضوابط

قال حسن حافظ الباحث في تاريخ مصر لـ«الشرق الأوسط»: إن «سيرة أي شخصية مشهورة هي ملكية عامة، ومن حق أي مبدع تقديمها في عمل فني». وتابع: «بيد أن هناك بعض المعايير، أهمها الاحتفاظ بالسياق التاريخي للأحداث دون تزييف، مع حق المبدع أن يتعمّق في دوافع الشخصية لفهم القرارات التي اتخذتها، وهنا يكون الورثة أحد مكونات عملية البحث، مع التدقيق في ما يقولونه».

أمر آخر لا بد من أخذه في عين الاعتبار حسب حافظ، وهو أن العمل الدرامي لا يحكي قصة الشخصية العامة كما جرت بالضبط، بل هو مبني في جزء منه على الخيال، بعكس العمل الوثائقي.

ويتفق معه الناقد الفني أمجد مصطفى، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا يحق للورثة حتى طلب أموال مقابل السماح بتناول القصة، ولكن من حقهم الاطمئنان لخروج العمل الدرامي دون تشويه للشخصية، فهناك بعض كتاب الأعمال الدرامية الذين يتعمدون إضافة أشياء قد تكون غير حقيقية وربما جارحة من أجل التشويق والإثارة».

ولفت إلى أن ذلك لا يعني أن العمل الدرامي يجب أن يُركّز فقط على الجوانب الإيجابية في حياة الشخصية، فهناك أمور قد لا تفيد في رصد حياة الشخصية، وفق مصطفى.

تخليد للشخصية وشركائها

من أهم السير التي قّدّمت وخلقت حالة في مصر، مسلسل «أم كلثوم» (إنتاج 1999)، وحقق نجاحاً كبيراً، وفق نقاد، ومع ذلك يقول حسن حافظ إن «هذا المسلسل قدم سيرة بيضاء لأم كلثوم، ولم ينخرط مثلاً في صراعاتها مع نجوم عصرها».

في حين يرى أمجد مصطفى أن «مسلسل (أم كلثوم) إلى جانب أنه يخلّد سيرتها، فإنه كذلك يرصد حياة جميع من شاركوا في قصة نجاحها من ملحنين وشعراء، ولكن هذا المسلسل مثلاً تجاهل دور الموسيقار محمد الموجي في حياة أم كلثوم، ومن هنا يجب على كاتب دراما السيرة الذاتية أن يكون أميناً في الرصد».

سيرة أم كلثوم في مسلسل من بطولة صابرين (يوتيوب)

الجدية شرط النجاح

على المستوى العالمي هناك انفتاح لتقديم دراما السيرة الذاتية سواء في أميركا أو أوروبا، مثل مسلسل «كليوباترا» الذي عرضته منصة «نتفليكس» الأميركية في مايو (أيار) 2023 وأثار الجدل لأنه قدم الملكة المصرية الفرعونية ذات بشرة سمراء، وهو ما عدّته السلطات المصرية «تزييفاً للتاريخ»؛ لأن المصادر تؤكد أن كليوباترا كانت بشرتها فاتحة اللون.

في حين أن مسلسل «التاج» (The Crown)، الذي يتناول سيرة الملكة إليزابيث الثانية، حقق نجاحاً كبيراً.

ويُرجع حافظ سبب نجاحه إلى «ما لمسه المشاهد من جدية القائمين عليه لتقديمه في أحسن صورة وأدق تفاصيل».

وشدّد على أن «غياب الجدّية والدقة تسبب في فشل مسلسلات عن سير المشاهير في مصر خلال السنوات الأخيرة، مثل مسلسلات (العندليب) عن سيرة عبد الحليم حافظ، و(السندريلا) عن سيرة سعاد حسني، و(الضاحك الباكي) عن سيرة نجيب الريحاني».

ويرى أمجد مصطفى كذلك أن «فيلم حليم لأنه كان في آخر أيام أحمد زكي وقت مرضه أُنجز بسرعة ولم يكن متّقناً بالقدر اللازم لنجاحه».

تصبح المهمة أسهل حينما تكون للشخصية المشهورة مذكرات كتبتها قبل وفاتها، وهذا ما حدث في فيلم «أيام السادات» الذي كتب السيناريو له من واقع مذكراته الكاتب الراحل أحمد بهجت، الذي يقول نجله الشاعر محمد بهجت لـ«الشرق الأوسط»: «لم يواجه والدي مشكلات مع الورثة عند كتابة الفيلم لأنه اعتمد على كتاب البحث عن الذات للرئيس السادات، وكذلك بعض كتب الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، وأيضاً مذكرات جيهان السادات التي كانت على قيد الحياة وقتها وأثنت على سيناريو الفيلم قبل تصويره حينما عرضه عليها والدي والفنان أحمد زكي».

أحمد زكي في فيلم «أيام السادات» (فيسبوك)

موقف القانون

وعن موقف القانون من دراما السيرة الذاتية يقول المحامي بالنقض محمد إصلاح في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «وفق المبادئ القانونية المستقرة في القانون المدني المصري فإن مجرد التجسيد لا يرتب حقاً قانونياً للورثة في الاعتراض، ولكن لهم رفع دعوى تعويض إذا أثبتوا أن النشر والتجسيد قد أضرّ بسمعة المتوفى، ولا يستطيعون رفع دعوى منع ما لم يتمكنوا من إثبات تحقّق هذا الضرر للمحكمة من واقع العمل الفني».