أنشطة السوريين الثقافية والفنية تكرّس اندماجهم في المجتمع المصري

مؤسسات الدولة تساعدهم في تنظيم الفعاليات

فرقة المرعشلي السورية في ساقية الصاوي بحي الزمالك
فرقة المرعشلي السورية في ساقية الصاوي بحي الزمالك
TT

أنشطة السوريين الثقافية والفنية تكرّس اندماجهم في المجتمع المصري

فرقة المرعشلي السورية في ساقية الصاوي بحي الزمالك
فرقة المرعشلي السورية في ساقية الصاوي بحي الزمالك

«سنواتٌ سبعٌ من الحزن مرّت، ماتَ فيها الصفصافُ والزيتونُ... سنواتٌ فيها استقلتُ من الحبِ، وجفّتْ على شفاهي اللحونُ»... سنوات سبع مرّت على الأزمة السورية، لكن على العكس من هذه الأبيات للشاعر «نزار قباني»، لم تجف «اللحون» خاصة خارج الديار، ولم يمت الإبداع السوري بعد أن تشتّت المبدعون في البلاد.
في مصر؛ مثال حي على تلك الحالة، بعد أن حلّ عليها خلال السنوات الماضية الفنانون والمطربون والمثقفون والتشكيليون والمفكرون والشعراء والأدباء والأكاديميون والطلاب والباحثون السّوريون الذين فروا كغيرهم من ويلات الحرب، ونقلوا خبراتهم الإبداعية إلى مصر، قبل أن يندمجوا مع الثقافة المصرية من دون استئذان.
بخلاف دول اللجوء، لا تدير مصر مخيمات للاجئين السوريين - الذين يقدر عددهم فيها بنصف مليون سوري في الوقت الراهن حسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين - إلا أنّه يمكن اعتبار هذه الدور والمراكز الثقافية المصرية بمنزلة «مخيمات للإبداع»، بعد أن انخرط فيها عشرات المبدعين السوريين جنباً إلى جنب مع نظرائهم المصريين، وذلك كي لا يتوقّف نشاطهم الفني والثقافي، ومن خلالها ينقلون صدى صوتهم للعالم الخارجي ليسمع آلامهم ويرى حجم معاناتهم.
تُعدّ المعارض التشكيلية التي تنظم بين حين وآخر، في غاليريهات وزارة الثقافة المصرية أو في صالات العرض الخاصة، من أبرز الأنشطة الفنية السورية في مصر، وتنقسم هذه المعارض إلى جماعية أو فردية. الفنان التشكيلي سمير ظاظا الذي نظّم مؤخرا معرضا في دار الأوبرا المصرية، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك فنانون تشكيليون يأتون إلى القاهرة لعرض أعمالهم، كما يتواجد ممثلون ومخرجون ومنتجون فنيون، وشعراء وأدباء، وكل منهم يعمل في مجاله، فلا يستطيع أي مبدع أن يجلس من دون عمل، كما أنّ ما يشجع على ذلك هو المناخ الثقافي والفني في مصر الذي يدفع على العمل والإبداع، حيث تُنظّم أمسيات وفعاليات تسمح بتواجد كل الاتجاهات الفنية».
ويشيد الفنان التشكيلي باحتضان مصر للمبدعين السوريين قائلا: «استقبال مصر لنا ممتاز، فلا نشعر أنّنا غرباء، وهو ما يساعد على نقل تجاربنا من سوريا إلى مصر. وعن تجربة شخصية، فعندما أطرح فكرة تنظيم معرض على مسؤولين مصريين يكون هناك ترحيب ومساعدة كبيرة، وتقريبا لموعد انعقاده، وذلك تشجيعا لنا كفنانين سوريين، وتقديرا لدور الفن ورسالته إلى جانب أنّ الجمهور المصري متذوق للفن ويشجّع ما يراه من فنون أبدعتها أيادي الفنانين السوريين، فمعرضي الأول زاره 40 ألف زائر خلال 9 أيام فقط».
في السياق نفسه، ارتفعت نسبة مشاركة المطربين والمنشدين والفرق الموسيقية السورية في الكثير من المراكز الثقافية بمصر، مع ازدياد تدفق اللاجئين إلى جانب ظهورهم في الأمسيات التي تنظمها الكثير من الجمعيات الأهلية السورية والمؤسسات المجتمعية التي انتشرت في القاهرة.
وتعد فرقة «الإخوة أبو شعر» للإنشاد الديني إحدى التجارب الفنية والثقافية الناجحة، وهي فرقة يسكن أعضاؤها مصر ويقيمون الاحتفالات بها، وتتكون من عشرة أعضاء، ستة منهم إخوة من عائلة «أبو شعر»، وقد تأسست عام 1983. وهي تقدّم حفلاتها بدار الأوبرا المصرية ومسرح القلعة وفي مركز ساقية الصاوي الثقافي على ضفاف النيل، وتلقى هذه الحفلات رواجا كبيرا خاصة بين الجمهور المصري، وتحديداً في شهر رمضان الكريم والمناسبات الدينية المختلفة. كما دأبت مجموعات من الشباب السوريين على تشكيل فرق فنية ومسرحية وموسيقية، تقدم عروضا تمثيلية وغنائية وأخرى فلكلورية، وأمسيات شعرية وأدبية، وتعمل على تنمية المواهب الشابة خصوصاً في مجال الغناء السوري، وتعليم مهارات العزف على عدد من الآلات الموسيقية مثل العود والغيتار.
من بين هذه الفرق فرقة «أنتيكا»، وهي الأولى من نوعها في مصر لتوصيل القضايا المجتمعية والإنسانية السورية عبر العروض التمثيلية والغنائية والشعرية، كما تهدف لإحياء فن المسرح من خلال التركيز على بعض القضايا. كذلك يقدم فريق «فرحة» خدمات ترفيهية وثقافية للتغلب على المشاكل النفسية التي تواجه اللاجئين وتنظيم الأمسيات التي تركز على العادات والتقاليد السورية.
ياسر حلاق، الباحث السوري، ورئيس فريق الطوارئ السورية التطوعي الذي يعد «المنتدى الثقافي السوري» إحدى فعالياته في مصر، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «الأنشطة السورية لم تتوقف طيلة السنوات الماضية، فهناك أنشطة ثقافية متعددة تقدم من خلال الصالونات الثقافية وكذلك الجمعيات الأهلية، وهناك مكتبات تقدم خدماتها من الكتب وخدمات ثقافية، والحال نفسه ينطبق على الأنشطة الفنية، خاصة الإنشاد الديني، حيث تلمع عدة فرق في القاهرة والإسكندرية».
إلى ذلك، يتمتع اللاجئون السوريون بخدمات التعليم الأساسي والعالي نفسها التي تُقدم للمصريين. كما تسجل مصر أعلى معدلات التحاق لأطفال اللاجئين السوريين بالمدارس، حيث يبلغ عدد المسجلين فيها 39314 طالبا سوريا، ويبلغ عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات المصرية نحو 14 ألف طالب، وفق إحصائيات رسمية للخارجية المصرية.
ويعلق ثائر الناشف الإعلامي والكاتب السوري على هذه القضية قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «منذ أن وصل السوريون إلى مصر في مطلع عام 2012. حمل الكثير منهم خبراتهم الفنية والمهنية، ليواصلوا حياتهم الجديدة في مصر بعد أن دفعتهم الحرب لمغادرة البلاد».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».