المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر

تحولت معقلاً لليمين الأوروبي المتطرف بقيادة أوربان

رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
TT

المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر

رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)

المؤكد أن فوز حزب «فيديس» المجري برئاسة رئيس الوزراء الحالي فيكتور أوربان يعد دلالة على أن الخوف بات الطائر المحلق في سماوات وسط أوروبا تحديداً، فقد فاز الرجل وحزبه بنحو 49.5 في المائة من الأصوات، مما مكنه من ثلثي مقاعد البرلمان، أي 134 مقعداً من أصل 199 في برلمان بلاده.
ولعل الأكثر إثارة هو أن «القوميين المجريين»، قد جاءوا في المرتبة الثانية بنحو 20 في المائة من الأصوات، مما يمكنهم من الحصول على 27 مقعداً، بينما لم يستطع الاشتراكيون سوى حصد 11.85 في المائة من الأصوات.
النتائج المتقدمة تقودنا للتفكير مليا في الأسباب والدوافع التي من شأنها تمضي مسيرة الأصولية الأوروبية قدماً.
أوربان الرجل اللغز
يعد فيكتور أوربان حجر الزاوية في البناء المجري السياسي المعاصر، وله تاريخ نضالي كبير في أثناء الحقبة الشيوعية، حين كانت المجر واقعة تحت أسر نفوذ الاتحاد السوفياتي، ومنذ الرابعة عشرة من عمره يخوض غمار الحياة السياسية، وقد أسس حزبه المعروف باسم «فيديس» أي «حزب الشباب الديمقراطي»، وهو يشكل علامة استفهام للشرق والغرب سوية، بمعني أنه كان ممجوجاً من الروس رغم شيوعيته، وغير مقبول من الغرب باعتبار أنه السياسي الذي قاد التغيرات المفصلية في بلاده عبر كل المناحي، لكنه أخفق في السير على درب الديمقراطية، وفي تناقضاته البنيوية هذه وقع الجميع في الحيرة من حوله.
«فيكتور أوربان» نموذج مثير للأصولية الأوروبية المغايرة عن نظيرتها في ألمانيا أو فرنسا، وبعيد جداً عن النسق الأميركي، فهو يكاد يقترب من رؤية دول العالم الثالث للمؤسسات المالية والسياسية الدولية، ويكاد يلامس سقف الراديكاليين الشرق أوسطيين الذين يؤمنون بأن كل ما يجري حول العالم هو صنيعه مؤامرة غربية، ويزيد أوربان من الشعر بيتاً حين يبث خطاباته الكارهة للمنظمات اليهودية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، رغم أن بلاده عضو في جميعها.
هويته ورؤيته للإسلام
على أن مزايدات أوربان، على أطراف وأطياف العالم والعولمة يمكن رصدها في جهة، فيما الورقة الرابحة بشكل شبه مؤكد والتي تلاعب بها على أوتار المتناقضات تتمثل في جانب آخر، جانب مغازلة القوميين والشعبويين من المجريين الذين صوتوا له بكثافة هذه المرة، فيما يخص مسألة الهوية المجرية خاصة والأوروبية بشكل أكثر عمومية.
خلال شهر فبراير (شباط) الماضي وقبل بضعة أسابيع من الانتخابات البرلمانية كان «أوربان» يتحدث عن بلاده بوصفها آخر معاقل أوروبا في مواجهة ما أسماه «ظاهرة الأسلمة»، بل أكثر من ذلك، إذ يزايد على المتطرفين في الداخل المجري بالقول إن الأسلاك الشائكة التي أقامتها بلاده على حدودها وإجراءات الأمن المشددة التي اتخذت تجاه المهاجرين، قد نجحت دون وقوع ما أطلق عليه «غزو إسلامي» لبلاده التي أتهمتها الأمم المتحدة بخرق التزاماتها بموجب القوانين الدولية الأوروبية بسبب فرضها قيوداً على اللاجئين المسلمين.
والشاهد أن الأوروبيين لا سيما التيارات المعتدلة في داخلها قد اعتبرت الرجل ظاهرة تتوجب الرصد والتحليل خوفاً من تبعاتها واستحقاقاتها المستقبلية، ومثال ذلك ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عن مفردات أوربان التي يستخدمها ليذيع الكراهية في قلوب الأوروبيين تجاه المسلمين في القارة العجوز، مصطلحات من عينة «الغيوم السوداء» التي تحلق فوق سماوات أوربان.
يفتح أوربان الأبواب واسعة أمام إعادة النقاش الدائر حول «أسلمة أوروبا». ذلك التعبير غير العلمي وغير الموضوعي، والذي يستخدم اليوم كفزاعة لاستجلاب أصوات الناخبين، وعند أوربان أن: «عدد المسلمين الذين يعيشون في أوروبا قد تكاثروا جداً، مما يجعل القيم الثقافية والدينية الأوروبية تتراجع، عطفاً على تراجع أعداد سكان أوروبا أصحاب الثقافة المسيحية، وبداية مسيرة لأسلمة المدن الأوروبية الكبرى».
ولعل نتيجة الانتخابات الأخيرة تؤكد أن الخطاب الشعبوي لأوربان سيما تأكيده على أن «بلده يتعرض لغز مهاجرين وأجانب يريدون أخذ المجر من شعبه» قد آتت أكلها.
المجر تضحى أكثر راديكالية
لا يقتصر المشهد على فوز أوربان، بل يتخطاه إلى الإشكالية الحقيقية التي تتمثل في أن سياسات وشعارات الرجل دفعت وتدفع لصعود الحركات اليمينية المتطرفة والرأي العام المتأثر بتدفق المهاجرين إلى البلاد، مما جعل المجر قلعة للأصولية اليمينية في قلب أوروبا، تلك التي كانت يوماً مثالاً للتنوير وحرية الرأي، وحقوق الآخر. والمؤكد أن المتابع لمجريات الأحداث السياسية وحركة الأحزاب والجماعات الناشطة في الداخل المجري، يدرك تمام الإدراك المردود السلبي لخطابات «أوربان» الكارهة للمهاجرين والمتخذة كمنصة انطلاق لتصعيد شعبوي ضد المسلمين بحجة أنهم مصدر الإرهاب، وكذا أنهم يمثلون الجبهة المناوئة لليبرالية الأوروبية التقليدية.
أما عن تلك الجماعات فإن حركة «قوة وعزم» المتطرفة تعد دليلاً عليها من خلال خطابها الذي يكاد يقارب خطابات الفاشية والنازية الأوروبية، والأكثر خطورة في المشهد أن المجر اليوم بدأت تضحى بؤرة جاذبة لهجرات أوروبية داخلية، فعلى سبيل المثال هناك مواطنون ألمان قد شدوا رحالهم إلى المجر كراهية في أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، التي تفتح أبواب بلادها للمهاجرين، ليستقروا في المجر التي باتوا يعتبرونها أكثر أمناً وأماناً.
ومن أمثلة الأصوات الراديكالية الساعية في درب أوروبا يأتي «جيورجي شوبفلين» النائب المجري في البرلمان الأوروبي وعضو حزب فيديس، والذي يريد أن تصبح المجر مجتمعاً متعدد الثقافات، ويؤمن أن السياج الذي ضربته من حولها هدفه قطع الطريق على وجود مجتمع مسلم كبير في المجر، وهي الفكرة التي لا يقبلها حزب فيديس.
يخبر «أوربان» شعبه ونوابه، ومن خلال وسائل الإعلام التي يمتلكها بين أمرين: الديمقراطية التي يمكن أن تحول بلاده إلى جنة للمسلمين، وبين النموذج الحالي الذي يحاول الحفاظ على وحدة بلاده ودرء خطر الأجانب من المسلمين عنها.
والمقطوع به أن الخيار المتقدم زائف، لكنه في نهاية المطاف خيار يقود صفوف الناخبين لإعادة انتخاب أوربان من جديد.
مسلمو المجر ومعاناة واقعية
قبل نحو عام تحدث ستيفانوس ستافروس الأمين التنفيذي للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب عن أحوال المجر الداخلية بالقول: «نحن قلقون جداً من خطاب الكراهية الذي يستهدف الفئات الضعيفة، إنه من الخطر استعمال عبارات الغجر واليهود والمثليين والمتحولين جنسياً، وغيرها للحديث عن المهاجرين» غير أن الرجل لم يتحدث عن أحوال ومآلات المسلمين في المجر وهؤلاء قسم كبير منهم يعود إلى أواخر القرن الرابع الهجري عندما هاجرت بعض القبائل البلغارية التي اعتنقت الإسلام إلى المجر، فيما أسلم نفر آخر عندما احتل العثمانيون المجر عام 1586، وكان في بودابست وحدها في عام 1687 نحو واحد وستون مسجداً واثنان وعشرون مصلى، وعشر مدارس إسلامية ولاحقاً ازدادت أعداد المسلمين هناك بعد حركة الهجرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أوائل سبعينات القرن المنصرم وحتى تيار الهجرة الأخرى.
لكن هؤلاء باتوا اليوم يعانون من التمييز العنصري ضدهم من قبل السلطات الرسمية، تلك التي تمنع بناء المساجد أو رفع الآذان، عطفاً على عدم السماح بارتداء النقاب أو البوركيني كما حدث في مدينة «اسوثالوم» القريبة من حدود صربياً». وفي تبريره لتلك الإجراءات يقول لازلوتورو زكاي، رئيس البلدية المتشدد: «إن القرار اتخذ بهدف الحفاظ على قيم المجتمع المسيحي وتقاليده في وجه أي استيطان خارجي حاشد»، والجدير بالذكر أن رئيس البلدية هو كذلك نائب رئيس حزب «يوبيك» اليميني المتشدد، الذي يشابه في تعصبه وكراهيته للأجانب وبخاصة المسلمين حزب «فيديس» الذي يتزعمه أوربان نفسه.
> لم يقف مسلمو المجر مكتوفي الأيدي أمام هذا الغبن، وقد عبرت عن شؤونهم «الجمعية الإسلامية المجرية» التي أنشئت عام 1990، وهي أبرز الجمعيات المسلمة في البلاد ويقدر عددها بنحو عدة آلاف جمعية.
مسلمو المجر رفعوا شكواهم إلى المحكمة الدستورية للبلاد للنظر في التمييز العنصري الواقع عليهم، وكذا وجهوا رسالة إلى أوربان نفسه، لكنهم لم يتلقوا رداً، كان ذلك قبل عام تقريباً، وعليه فإن على القارئ أن يستنتج كيف يمكن أن يرسم مستقبل المسلمين في المجر... خطوطه وقسماته المؤلمة؟
ومن بين الملامح المثيرة والمقلقة في الوقت ذاته التي استتبعت فوز «فيكتور أوربان وحزبه، تلك الأريحية وذلك الترحيب من قبل قوى أوروبية يمكن القطع بأنها تميل نحو اليمين المتطرف ميلاً كبيراً جداً، وكأنها تسعى إلى بناء جبهة يمينية أوروبية موحدة.
خذ إليك على سبيل المثال تصريحات وزير الداخلية الألماني الجديد هورست زيهوفر، الرجل الذي تحدث مؤخراً بالقول إن الإسلام لا يمثل جزءاً من ألمانيا، على العكس من تصريحات المستشارة أنجيلا ميركل التي تؤكد دوما على أن الإسلام والمسلمين جزء من السبيكة الديموغرافية لألمانيا عبر التاريخ المعاصر.
زيهوفر وفي اليوم التالي مباشرة لفوز «أوربان» رحب بانتصار الأخير، وحث الاتحاد الأوروبي على التخلي عما وصفه «بسياسة الغطرسة والتفضل تجاه ما أسماه «الدول الأصغر في التكتل».
بل أكثر من ذلك، إذ أشاد «زيهوفر» بنتائج الانتخابات المجرية.... أما لماذا يفعل وزير داخلية ألمانيا ما يفعل، فالجواب يسير للغاية وهو أن الرجل عضو في حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي المناصر القديم لأوربان.
ومن ألمانيا إلى بولندا التي تتعالى فيها وبقوة الأصوات الراديكالية اليمينية نجد نائب وزير الخارجية ومبعوث بولندا لدى الاتحاد الأوروبي «كونارد شومانسكي» يصرح بأن فوز أوربان في الانتخابات إقرار بسياسة تحرر وسط أوروبا، وإن كان ذلك لا يعني استهداف أو محاربه أي شخص، وإن لم يقل لنا تحرر من قبل من ولماذا الآن؟
هل الاتحاد الأوروبي في خطر؟
السؤال الذي يراود أذهان الكثيرين في أوروبا اليوم: «هل فوز أوربان والتضامن الأوروبي اليميني معه يضع الاتحاد الأوروبي في منطقة الخطر، خوفاً من التفكك والتفسخ؟
يلاحظ أنه رغم خلافات أوربان مع بروكسل في شأن مسألة الهجرة وقبول المهاجرين، فإنه لم يهدد يوماً بالانسحاب من الاتحاد والمجر من الدول الرئيسية التي تستفيد من الأموال الأوروبية، تلك التي ساهمت في إنعاش الاقتصاد بعد الأزمة التي شهدتها البلاد في نهاية سنوات العقد الأول من القرن الحالي.
لكن وعلى الرغم من ذلك فإن فوز «أوربان - فيديس» يجعل التمدد الشعبوي لمعسكر الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي في أفضل أحوالها، مع تجمع المزيد من المكتسبات، وتحقيق انتصارات في انتخابات برلمانية كما الحال في ألمانيا والنمسا، إيطاليا والتشيك، وفي مقابل إخفاق الأحزاب التقليدية، مما يجعل الأصولية اليمينية هي الغيوم الحقيقية التي تخيم على سماوات أوروبا في الحال وتتهددها في الاستقبال.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟