ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

بين حراك فريقي حفتر و«الإخوان» ومحاولات السراج اختبار الواقع الجديد

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»
TT

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

طوال الرحلة إلى القاهرة؛ أي لمدة أكثر من سبع ساعات بالسيارة، لم يتوقف رنين الهواتف لتقصي الأحوال الصحية لقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، البالغ من العمر 75 عاماً. لم يكن الأمر يتعلق بقلق داخل أوساط سياسية وعسكرية من غياب المشير، لكن من احتمالات نزاع قبلي حول بنغازي في الشرق، وعودة الاقتتال بين ميليشيات حول طرابلس في الغرب.
فخلال الأيام القليلة الماضية وصل إلى العاصمة المصرية ضباط ليبيون وقادة مدنيون، عبر الحدود البرية، وعبر رحلات جوية أيضاً، وانشغل الجميع بحثاً عن خطط عملية لإنهاء فوضى تضرب بلادهم منذ إطاحة معمر القذافي في 2011. ومن الألفاظ المستخدمة لدى جلهم، تدرك كم هي مختلفة عن لغة المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة، الذي يتحدث عن إجراء انتخابات.

يقول محمد العبَّاني، رئيس المؤتمر الوطني العام الجامع «الليبي - الليبي»، بعد أن جاء من تونس إلى مصر بالطائرة «ما معني أن يطلب (سلامة) انتخابات في ظل انفلات أمني، وفي ظل انقسامات. من هو الليبي الذي سيأتي لكي ينتخب؟ وأين سينتخب؟ وأي مدينة هذه التي سيقيم فيها مثل هذه الانتخابات؟».
لا يظهر أن المشكلة في ليبيا - كما يحاول البعض أن يصورها - تخص استمرار حفتر أو اختفاءه من المشهد لأي سبب. فكل إنسان في النهاية عُرضة للمرض والغياب... الأمر يتعلق بما هو أعمق، ومنها أن جماعة «الإخوان» حققت في طرابلس تقدماً مثيراً، وذلك بترؤسها منذ أيام عدة واحداً من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم دولياً، وهو المجلس الأعلى للدولة. وقد تعجَّلَ بعض زعماء الجماعة، المنتشين بالنصر، باستغلال مجلس الدولة لإعادة الحياة لمجموعات معادية لقوات يعتمد عليها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في طرابلس، ومعادية للجيش الذي يقوده حفتر، ولدول بالجوار. وعلى رأس هذه المجموعات «مجلس شورى» مدينة درنة، التي يحاصرها الجيش في الشرق، و«مجلس شورى بنغازي»، المصنف منظمةً إرهابيةً. إضافة إلى «عملية إخوانية محمومة» لجمع معلومات عن أجهزة رئيسية يعتمد عليها السراج.
وبدأت الجماعة في الضغط سريعاً للإفراج عن قادة المتطرفين داخل سجون طرابلس ومصراتة، وصبراتة والزاوية، وفقاً لمصادر أمنية ليبية، مشيرة إلى أن من بينهم جنسيات مصرية وتونسية وجزائرية، وغيرها.
يقول ضابط كبير من نظام معمر القذافي، بعد أن عبر الحدود، إن تعبير «بوادر العودة إلى نقطة الصفر»، المستخدم هذه الأيام في بلاده يشير إلى أحداث صيف عام 2014، حينما احتدمت الحرب وقتذاك بين ميليشيات جهوية ومذهبية بقيادة «الإخوان» من جانب، والتيار المدني الذي فاز بالأغلبية في انتخابات برلمان تلك السنة، من جانب آخر، ونتج منها منع البرلمان من عقد جلساته في العاصمة، وكذا وقوع انقسامات كبيرة داخل مؤسسات الجيش والشرطة، والمصارف والنفط.
وخلال السنوات الأربع الأخيرة عملت الأمم المتحدة ودول الجوار، وعلى رأسها مصر وتونس والجزائر من أجل إنهاء خلافات الأفرقاء الليبيين. وحتى أسابيع قليلة مضت، كادت هذه الجهود أن تكلل بالنجاح، وبخاصة بعد تفاهمات مهمة جرت في القاهرة لتوحيد المؤسسة العسكرية، وأخرى تمت بين قادة سياسيين وقبليين شهدتها العاصمة التونسية، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، كما يقال.
فبالإضافة للقلق من غياب حفتر لأسباب صحية، ظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان. إذ خرج من على خشبة المسرح، أحد اللاعبين الرئيسيين، وهو الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة. وحدث كل هذا مرة واحدة وفي وقت متسارع.
ويوصف السويحلي بأنه رجل معتدل، وحفيد لأحد رموز مدينة مصراتة التاريخيين. وقد بدأ يرسل في الشهور الأخيرة رسائل إيجابية تجاه الجهود المصرية والتونسية لتوحيد الجيش والمصالحة. كما أنه يتمتع بكلمة مسموعة في أوساط ضباط أقوياء بمدينة مصراتة. وفي هذا السياق، يقول أحد مساعديه، إن خسارته المجلس الرئاسي «بمثابة عرقلة لترتيبات تخص التقارب داخل الجيش، والتسوية بين حفتر في الشرق، ورئيس المجلس الرئاسي في الغرب».
وفي الانتخابات الداخلية على رئاسة مجلس الدولة، التي جرت قبل أيام، تمكنت جماعة «الإخوان» من الهيمنة على المجلس. وحققت الفوز لقائدها خالد المشري، المعروف بتشدده وخصومته للسلطات المصرية، ناهيك عن رفضه حفتر وميليشيات طرابلس الموالية للسراج.
ويجري في الوقت الراهن تصعيد مكتوم داخل فريقي حفتر، وجماعة «الإخوان»، بينما يبدو السراج كمن يبحث عن مخرج، وهو يدير دفة الأمور من العاصمة، في ظل وجود نواب للسراج محسوبين على الجماعات المتطرفة. يقول مستشار للسراج بهذا الخصوص «كانت مراجعات السويحلي لأعمال السراج كرئيس للسلطة التنفيذية غير مريحة له، والآن سيضطر السراج للتعامل مع (الإخوان) وطموحاتهم العابرة للحدود. وهذا غير مريح للجميع... هذه مشكلة. لقد بدأوا في تمهيد الأرض لأنفسهم بالفعل».
وفي خضم هذه التطورات العاصفة، جرى الترويج على نطاق واسع لأنباء تتحدث عن دخول حفتر في حالة صحية حرجة. وأشاعت منصات إعلامية محسوبة على جماعة الإخوان وتيارات متطرفة، ما قالت: إنه صراع داخل الجيش حول من يخلف حفتر، وذهبت إلى بث روح التنافس بين قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها قائد الجيش، وقبيلة العواقير التي لعب أبناؤها دوراً كبيراً في طرد الميليشيات المتشددة من بنغازي.
لكن الدكتور محمد زبيدة، القيادي في مؤتمر القبائل، يقول إن الظروف التي تمر بها البلاد «لا تتحمل بطبيعة الحال ترف أي خلاف قبلي حول المناصب العسكرية... أعتقد أن هذا أمر غير موجود... وعلى العموم فحفتر ليس في حالة مَرَضِية خطيرة تستدعي كل هذه التخمينات».
ويتحرك معظم قادة الجيش الكبار، المحسوبين على نظام القذافي، بعيداً عن الأضواء، بمن في ذلك من اشتركوا في قيادة عمليات حربية مع حفتر لهزيمة الجماعات المتطرفة، ولكسب الأرض في الشرق وبعض مناطق الوسط والجنوب.
وفي استراحته بضواحي القاهرة، وافق أحد هؤلاء على الحديث بشأن مستقبل الجيش في حال غياب حفتر، دون أن يتم ذكر اسمه في القصة لأسباب أمنية وقبلية.
يقول الرجل، الذي يعد من القيادات العسكرية التي تتواصل مع أطراف من عموم ليبيا، بمن فيهم حفتر «أنت تتحدث عن عسكريين... وعن جيش عريق. وفي هذا السياق، هناك دائماً قيادات بديلة، حتى في الحرب... فعندما يسقط أحد القادة، هناك بدائل. والمؤسسة العسكرية قادرة على إفراز قيادات جديدة. أعتقد أن المشكلة ليست في الشرق، لكن في الغرب، وبخاصة بعد عودة (الإخوان) للواجهة».
ومثل كثير من قادة النظام السابق، يتحدث هذا الضابط، ذو الرتبة الكبيرة، بفخر حين يتعلق الأمر بالقوات المسلحة، ويقول على سبيل المثال «لقد تعرض الجيش للضرب بقوة (في 2011)، ونتج من ذلك تمزيق البنية التحتية، وفي المعسكرات، وفي سلاحي الدبابات والمدفعية، وسلاح البحرية. لكن تظل هناك قيادات عسكرية غير هيّنة، شاركت (فيما مضى) في حروب في أفريقيا، وفي مواجهات مع حلف الأطلسي عام 1986، واصطدمت بالبحرية الأميركية لعشر سنوات في خليج سرت. ودخلت في مواجهة مع حلف الناتو لمدة ثمانية شهور في 2011».
كما يتهم هذا الضابط «الإخوان» بالمشاركة في تفتيت ما تبقى من الجيش بعد مقتل القذافي، قائلاً، إنهم قاموا وقتها بتصعيد نجم عسكريين متقاعدين أو مفصولين من الخدمة لتولي مناصب قيادية، وطرد الضباط غير الموالين لهم. ويضيف: إن «الجماعة عادت من جديد هذه الأيام، من خلال نافذة مجلس الدولة. وهذه مشكلة كبيرة لحفتر والسراج، ولليبيين عموماً»، مشيراً إلى أن «جماعات متطرفة مرتبطة بـ(الإخوان) في ليبيا تسعى لاستغلال الموقف، والانتقام من القوات التي انخرطت في الحرب على الإرهاب من الشرق والغرب».
وبخصوص ما يمكن أن يحدث إذا ما اختفى حفتر من المشهد لأي سبب، يقول هذا الضابط «توجد قيادات عسكرية لديها خبرة تمتد لسنوات طويلة، ولدينا أقدميات في الجيش تحظى باحترام كبير». قبل أن يضيف موضحاً «لقد كانت هناك مشاورات لأشهر لتأسيس مجلس عسكري، يضم بعض هذه القيادات، لا يمكن ذكر أسمائهم الآن لأسباب أمنية. هذا المجلس سوف يقود هذه المرحلة، إلى أن يتكامل مع باقي القيادات العسكرية الأخرى في الغرب والجنوب، والوسط، من كل المؤسسة العسكرية، دون أي حساسية، لأن هؤلاء منتظمين في رتب وأقدميات».
ومن خلال حديث بعض كبار قادة النظام السابق ممن يؤيدون المشير حفتر، يستطيع المرء أن يشعر بأنهم غير مطمئنين بشكل كامل لبعض المتشددين في ولائهم للجنرال، الذي بدأ حياته العسكرية مع بزوغ نجم القذافي، بغض النظر عن كونه انضم لمعارضيه في ثمانينات القرن الماضي، ثم اشترك في الانتفاضة التي أطاحت به قبل سبع سنوات.
ويبدو أنه توجد أسماء لرتب عسكرية كبيرة موالية للنظام السابق موجودة داخل البلاد، ويمكن أن تظهر على رأس المؤسسة العسكرية في المستقبل، دون مقدمات.
من جانبه، أبدى الدكتور زبيدة دهشته من كثرة التكهنات عما يمكن أن يصيب المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها حفتر، في حال غيابه، بالقول: «حفتر ليس زعيم عصابة حتى تنتهي باختفائه... هذه مؤسسة عسكرية لديها تراتبية، وفيها ضباط على درجة كبيرة من الكفاءة والمهنية. فإذا اختفى خليفة حفتر، يوجد آلاف من الضباط الأكْفاء الذين سيقومون بما يقوم به وأفضل... المؤسسة ليست قائمة على المشير خليفة».
ويزيد زبيدة موضحاً، أنه يوجد في ليبيا ما يشبه المجلس العسكري، وإن كان غير معلن حتى الآن، مشيراً إلى أنه توجد أيضاً حظوظ لضباط من النظام السابق، وبخاصة أولئك الذين أبدوا صرامة عسكرية في مواجهة التنظيمات المتطرفة داخل مناطق عدة، خصوصاً المنطقة الشرقية في السنوات الأخيرة.
لكن الإعلامي رجب بن غزي، الذي تعرضت قناته التلفزيونية في طرابلس لهجمات بالقذائف الصاروخية أجبرته على النزوح للقاهرة، يرى أن «كل شيء مرتبط بحفتر؛ ولهذا فإذا غاب عن المشهد فجأة، فقد تنقلب منطقة شرق ليبيا رأساً على عقب... لماذا؟ لأنه لا يوجد شيء مبني على أساس متين. نحن هنا لا نتحدث عن دولة متماسكة مثل مصر، التي يوجد فيها جيش مؤسسي... في حالة ليبيا الكل مبني على شخص. وهذا أمر خطير». مشيراً إلى أن «قبيلة حفتر محسوبة على الوسط والغرب؛ أي على منطقتي سرت وترهونة، أما في الشرق فنخشى من أن تقول قبيلة من قبائل منطقة الشرق إنها الأوْلى بتولي المرحلة الجديدة، بعد المشير؛ وذلك بالنظر إلى أن أكثر من ضحوا واستشهدوا في الحرب ضد الإرهاب من أبنائها. وهذا أمر لا نتمناه في ظل هذه الظروف الصعبة».
وبعد أن عدَّد أسماء لقادة عسكريين معروفين في وسائل الإعلام بقربهم من المشير حفتر، يقول بن غزي، إن معظم هؤلاء يفتقرون لكاريزما مثل كاريزما المشير... «ولهذا؛ أتوقع أن يظهر اسم من أسماء القادة العسكريين غير المعروفين. هذا ممكن. ولا تنس أن معظم عسكريي النظام السابق كانوا يحاربون في المحاور المهمة في بنغازي مع حفتر».
وعلى كل حال، ففي الشهور الأخيرة أصبح من المعتاد أن تلتقي بكثير من الخصوم الليبيين، بعد وصولهم للقاهرة، وهم يتجادلون عن مستقبل بلادهم، لأيام عدة في غرف الضيافة المصممة على الطريقة الليبية، أو في بهو الفنادق المعتمة، بالنسبة لمن لا يفضلون الظهور تحت الأضواء. وقد تمكنت مثل هذه الزيارات المكوكية بين طرابلس وتونس والقاهرة من تذويب خلافات كثيرة، أهمها ما يتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية، برعاية مصر، وعقد «مؤتمر جامع» لليبيين في تونس كبلد محايد.
إلا أن أحد قيادات مصراتة العسكرية يقول، إن غياب السويحلي عن مجلس الدولة، وبقاء السراج وحيداً أمام سطوة «الإخوان» الجديدة، أمر ستكون له تداعيات على لمّ شمل المؤسسة العسكرية... «وببساطة، فقادة الجيش في الغرب، ممن كان يُسمح لهم بحضور اجتماعات القاهرة، سيجدون صعوبة في ذلك»، حسب تعبيره.
وحتى الآن ما زال كثير من الليبيين يثني على جهود مصر وتونس. وبهذا الخصوص يقول العبَّاني، بعد أن رجع للفندق من جولات على خصوم من القادة الليبيين في ضواحي القاهرة «مصر قريبة لنا... فهي تسعى وتبذل جهوداً كبيرة. مصالحنا واحدة. وقد استوعبت، مثل تونس، عدداً كبيراً من المُهجَّرين الليبيين. نحن نؤيد بقوة الاتفاق، الذي جرى في مصر (لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية). فأمن ليبيا أمن لمصر».
ويبدو من كلام العبَّاني أن «المؤتمر الجامع» الذي يقوم بالتحضير لعقده في تونس لا يحظى بالدعم، الذي كان يتوقعه من الأمم المتحدة، رغم أنه يزعم أنه هو صاحب الفكرة منذ نحو عامين بقوله «لقد عرضنا الفكرة على الأمم المتحدة منذ سنتين. عرضنا عليهم كيف يكون الحل في ليبيا... ولا بد أن يكون الحل ليبياً، وأننا نريد إشراف الأمم المتحدة على هذا الأمر... إشرافاً فقط على المؤتمر».
ويضيف العباني موضحاً: إن البعثة الأممية في ليبيا أطلقت مبادرة مماثلة، و«تجاهلت ما نقوم به... أعتقد أن السبب هو تمسكنا في اللجنة التحضيرية بأن تكون المبادرة ليبية صرفة، أي دون تدخل في التفاصيل الخاصة بالليبيين».
وعلى ما يبدو، يجد العبَّاني تشجيعاً لما يقوم به من جهود من كثير الفرقاء، وبخاصة أنه كان قد بدأ، مع المشير حفتر، منذ وقت مبكر في طرابلس، البحث عن طريق لاستعادة الدولة. وهو لديه خطط مشابهة لما هو مطروح من الأمم المتحدة، لكنها معكوسة، أي أنه لا يريد أن تبدأ الأمور بالانتخابات، كما يسعى لذلك الدكتور سلامة، لكن أن تبدأ بالمصالحة أولاً.
يقول العبَّاني في هذا الصدد «أساساً نحن ليس لدينا دستور، فعلى أي أساس سيتم انتخاب رئيس للدولة، أو حكومة؟ قلنا من قبل إنه لا بد أولاً من مصالحة وطنية شاملة، ثم بعد ذلك إنشاء الدستور، ومن خلاله يتم تحديد شكل الحكم والحكومة، ومدتها. يجب أن نضع قاعدة للدولة أولاً. ثم بعد ذلك تبدأ الانتخابات. لكن أن تجري الانتخابات، ثم تبحث عن مرحلة انتقالية. أقول لك: لا».
ويعيش العبَّاني، خريج كلية القانون، في طرابلس، لكن أصوله من مدينة ترهونة القريبة من العاصمة من ناحية الجنوب الشرقي، وهي مدينة تضم جانباً من قبيلة حفتر. ويقول، إن بداية نشاطه في العمل العام كانت منذ 2012، و«كان معنا المشير حفتر، وكل رجال المصالحة الوطنية الآخرين. بدأنا سوياً للمّ شمل ليبيا».
ويضيف موضحاً «وقتذاك، وبالدرجة الأولى، بدأ (حفتر) في محاولة بناء الجيش الموحد انطلاقاً من طرابلس. كنا نخشى مما حدث. قلنا إذا سارت الأمور على ما هي عليه، فإن الوطن سوف يتشتت. كنا نجتمع في أماكن عامة، منها مقر للمصالحة الوطنية في طرابلس، ولم نكن نجتمع في الخفاء».
وتعرض حفتر منذ ذلك الوقت لهجوم من تيارات متطرفة كانت تشجعها حكومات طرابلس وجماعة «الإخوان». ويتذكر العباني هذه المرحلة بقوله «كانت هناك تيارات إسلامية خطيرة. وأفشلتنا الحكومات المتعاقبة التي سيطرت عليها التيارات الإسلامية الرافضة لإعادة بناء الجيش. وهذا ما دفع حفتر للخروج من طرابلس. كانت الحكومات السابقة ضد بناء الجيش».
وانتقل حفتر إلى بنغازي، وأسس نواة لاستعادة الجيش. ثم بدأ عملية ضد الجماعات المتطرفة، أطلق عليها «عملية الكرامة» منذ عام 2014، وشملت الحملة قيادات محسوبة على جماعة «الإخوان» أيضاً. بينما واصل العبَّاني جهوده في المصالحة من طرابلس، فتمت معاقبته باغتيال ابنه الضابط في الشرطة عبد السلام في العام التالي... «ورغم هذا لم ننكسر، وما زلنا مستمرين حتى نصل إلى المراحل الأخيرة من المصالحة».
بيد أن عملية التقارب بين الشرق والغرب، تبدو الآن برمتها محفوفة بالمخاطر. وتنذر بالعودة بالبلاد إلى مواجهة بين تيار الإخوان المدعوم من المتطرفين، والتيار المدني المتمثل في أغلبية البرلمان، الذي يعقد جلساته في طبرق شرقاً، وبعض قيادات المجلس الرئاسي بقيادة السراج. أما مجلس الدولة، الذي كان طرفاً أصيلاً في محاولة لم الشمل، فقد انقلبت أحواله بعد خروج السويحلي منه الأسبوع الماضي.
يقول مصدر أمني ليبي مسؤول، إن هيمنة التيار المتشدد على مجلس الدولة «جرت بترتيب من التنظيم الدولي لجماعة (الإخوان)، ومن بعض الدول الإقليمية المتهمة برعاية الإرهاب، وهذا من شأنه أن يزيد التعقيد في موضوع توحيد الجيش، والمصالحة»، مشيراً في ردود مكتوبة وأخرى مسجلة إلى أن أبرز المستفيدين من خروج السويحلي من المجلس هي شخصيات وكيانات ليبية وغير ليبية، مدرجة في قائمة الإرهاب.
وبخصوص تأثير ذلك على المحاولات التي تقوم بها مصر وتونس، وأطراف أخرى، لإخراج ليبيا من الفوضى التي تمر بها، يجيب قائلاً: «هذا له تأثير سلبي كبير... الأمر لا يتعلق بليبيا فقط، لكن هناك خطراً عابراً للحدود، ويمس عدداً من دول الجوار».
ويشير المصدر نفسه إلى تحركات «إخوانية» «غير مبشرة على الإطلاق»، ويقول إن «ثلاثة قادة من التيار الإخواني الليبي قدموا قبل يومين ملفاً مزعوماً لدبلوماسي غربي، التقوا به في طرابلس، عما قالوا فيه إنها انتهاكات السلطات المصرية ضد جماعة (الإخوان) منذ عام 2013، وطلبوا تحريك الضغط الدولي على القاهرة».
ووفقاً لتقرير أمني، كان أحد هؤلاء القادة الليبيين الثلاثة من المعتصمين في ساحة «رابعة العدوية»، المؤيدين للرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في تلك السنة بالقاهرة. وفرَّ من الميدان قبيل فض السلطات المصرية للاعتصام، كما «شارك كذلك مع تيارات متشددة في تونس».
وزار الدبلوماسي الغربي المشار إليه أطرافاً في المجلس الرئاسي بعد ذلك بساعات. وتطرق خلال الاجتماع إلى لقائه بالإخوان الثلاثة في مقر سفارة بلاده في طرابلس، وقدم تطمينات عن التطورات في العاصمة، بحسب مصدر على اطلاع بالموضع.
لكن في مساء اليوم التالي، حسبما يقول المصدر نفسه، تلقت أطراف بالمجلس الرئاسي تقارير مقلقة عن «أوامر فجة» أصدرتها قيادات «إخوانية» لجهات عدة في الدولة، لـ«جمع معلومات حساسة عن قضايا من اختصاص السلطة التنفيذية والقضائية».
ومن بين هذه الطلبات، أمر للنيابة بتقديم كشف يحوي كل أسماء المساجين المنتمين للتيارات المتطرفة، ومن بينها أيضاً أوامر لست قيادات كبيرة تابعة للسراج، من الجيش، والشرطة، والحرس الرئاسي، والقوات البحرية، والغرفة الأمنية الليبية الإيطالية، والمباحث العامة، بأن يقدموا لجماعة «الإخوان» تفاصيل كاملة عن التسليح والعتاد وعدد القوات وأسماء الموقوفين لدى كل جهة.
وبينما يعيد «إخوان ليبيا» ترتيب الأوراق بسرعة كبيرة في غرب البلاد، مشحونين بالعداء لميليشيات طرابلس الموالية للسراج، يبدو الشرق مشغولاً إلى حد كبير بمستقبل حفتر. وما بين هذا وذاك، يحاول المجلس الرئاسي في طرابلس الابتعاد عن نقاط الصدام في الواقع الجديد، انتظاراً لما ستسفر عنه مجريات الأحداث في الفترة المقبلة، وسط آمال معقودة على محاولات غسان سلامة، للحل، وكذلك وسط مخاوف من العودة بالبلاد إلى نقطة الصفر.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».