قصتي مع «الأمير الصغير»

70 عاماً على صدور كتاب أنطوان إكزوبري الشهير

قصتي مع «الأمير الصغير»
TT

قصتي مع «الأمير الصغير»

قصتي مع «الأمير الصغير»

في عام 1978 صعدت الطائرة لأول مرة في رحلة طويلة من العراق إلى المغرب.
كنت هارباً من البعث إلى أي بلد يمنحني حق الإقامة القصيرة والعمل فيه، ريثما يثور الشعب أو الجيش ويحصل انقلاب، وهو كما عرفت حلم يقظة لشاب هارب!
ودون أن أدري كنت أفكر بإمكانية سقوط الطائرة في الصحراء، دون أن يصيب الأذى ركابها بالطبع، فتحصل لنا مغامرات لطيفة بعد أن نلتقي في الصحراء بالأمير الصغير!
كنت سأقول له إنني أعرفه منذ زمن طويل، وأعرف أنه من الكوكب 612، وسأتولى تقديمه وتعريفه للركاب الذين لا يعرفونه... وعلى هذا المنوال سأواصل معه أحاديث أنطوان سانت إكزوبري الذي أخبرنا بقصته!
كان حلم يقظة لشاب يصدّق بما يقرأه في الكتب وما زال يصدّق!
---
كتاب «الأمير الصغير» كان من أكثر الكتب التي صدّقت بها، وكان كتاباً محيراً للملايين من البشر منذ صدوره وحتى اليوم.
فهو كما يُفترض كتاب أطفال، كما في نية كاتبه، لكنه أصبح كتاب كبار جداً في المغامرة والفلسفة والأسئلة العميقة، وهو ترجم إلى كل لغات العالم، بل إن بعض الدول قامت بوضعه في مناهج المدارس!
وذات مرة التقيت بصديق عراقي - إيراني يحب القراءة فاقترحت عليه أن يقرأ كتاب «الأمير الصغير» فقال لي إن هذا الكتاب كان ضمن المنهاج المدرسي في إيران أيام الشاه!
تصور!
---
وفي أول أسبوع لي في المغرب تعمّق إحساسي بالغربة، وكنت أبحث عما يشبه تفاصيل روحي وحيرتي.
ووقفت يوماً أمام مكتبة فرنسية في الرباط... وشعرت فجأة بأن يداً تلوح لي كي أدخل.
دخلت ووقفت أمامه... وكان ذلك كتاباً اسمه «الأمير الصغير»!
لا أعرف الفرنسية، لكنني عرفت الكتاب من غلافه... ففي كل لغات العالم صدر الكتاب بالغلاف الذي رسمه وصممه المؤلف.
اشتريت الكتاب وعدت مسرعاً إلى غرفتي و«قرأته» من خلال ذاكرتي ومن خلال رسوم المؤلف الداخلية وليس من خلال الكلمات!
شعرت حين عثرت عليه واشتريته بأنني أقل وحشة وغربة.
---
أزعم بهذه المناسبة، وخارج معايير النقد، أن بعض الكتب لها روح!
بعض الكتب لها روح فاسدة وبعضها روح منعشة وبعضها تسكنك للأبد ما أن تمر عليها!
كتاب «الأمير الصغير» بالنسبة لي، كان يملك هذه الروح التي تسكن وتسيطر على قارئها. ولعل تلك الروح تعود إلى أنه كُتب بروح طفل لم يعجبه تفكير الكبار يوماً.
لأوضح هذه الفكرة أشير إلى اختصار بليغ قدمه بابلو بيكاسو. فهو قال يوماً إنه في الثامنة من العمر كان يحاول تقليد رافاييل ومايكل أنجلو، لكنه عندما بلغ الخمسين كان يحاول تقليد الأطفال!
وأميري الذي سيطر عليّ عرف أن امتلاك نظرة الطفل للأشياء كفيل بكشفها وفضحها حتى لو اتفق العالم كله على تغطيتها... ولأني كبير أتحدث إلى كبار، سأوغل في الإيضاح وأذكّر بثياب الإمبراطور، وهي قصة درسناها في الابتدائية في العهد الملكي في العراق قبل أن يقوموا بتدريسنا العقائد والشعارات.
خلاصة تلك القصة، أن محتالين أوهموا الإمبراطور أنهم سيخيطون له ثياباً لم يلبسها أحد من قبل.
وبسبب كثرة المتزلفين خاطوا للإمبراطور ثياباً من وهم... وعندما جاء وقت الاستعراض ظهر الإمبراطور بثيابه الجديدة التي أثنت عليها الحاشية وكل الجمهور الخائف... لكن طفلاً ضحك وصرخ:
الإمبراطور عارٍ!
وفجأة وجد الجميع أنفسهم أمام حقيقة ذلك العري بعد أن أزالت عين الطفل الوهم عنه. ولطالما خطر ببالي أن ذلك الطفل لم يكن سوى أميري الصغير!
---
غادر أميري الصغير كوكبه الذي لم يكن فيه سوى ثلاثة براكين صغيرة ينظفها كل يوم ويجلس ليشاهد الغروب أكثر من مرة؛ فكوكبه صغير جداً، فيزداد حزناً وحيرة، خصوصاً بشأن زهرته الغريبة... وبلغ من حزنه أنه شاهد الغروب أكثر من أربعين مرة في يوم واحد! فقد كان في الحب، والحب مثير عظيم للقلق والحزن أيضاً!
ويأخذ في التجوال في الكواكب حتى يصل إلى الأرض بعد أن رأى في كل كوكب مخلوقاً يدفعه إلى الرحيل بسبب تفاهته أو بسبب واقعيته الفجة أحياناً... فهذا يحسب النجوم ويضيفها إلى رصيده كي يكون الأغنى ولو نظرياً... وذاك يشرب باستمرار وعندما يسأله لم تشرب؟ يقول له اشرب لأنسى عاري! وما هو عارك؟ عاري أنني أشرب!
كل المخلوقات التي مر بها أميرنا الصغير كانت مشغولة بما ينشغل به رجال اليوم: الحصول على مال أكثر، الحصول على سلطة أكبر، الحصول على نجاح أو أي شيء أكثر... وهم في ذلك المسعى ينسون ويخنقون الطفل في داخلهم... يخنقون أميرهم الصغير!
لا يكاد أحد ينجو من هذا الفخ مع الأسف الشديد.
---
لكن محور القضية هنا أن زهرة ما تنتظره ولا ينبغي أن ينساها.
زهرة تجيد الدلال والإغراء والتشكي... وهي فريدة من نوعها لأنها زهرته.
لقد استطاعت تلك الزهرة أن تدجّنه وسمحت له أن يدجّنها... وعندما تعلق برف طيور مرت بكوكبه كان يريد أن ينعتق منها ومن الحب، ومن أشياء لا نعرفها. وعندما يصل إلى الأرض يلتقي ثعلباً في حقل مليء بسنابل القمح، فيقول له الثعلب:
«دجّني» أرجوك! ويعلمه كيف يكون التدجين، وهو شيء أشبه برمي الشباك والقلب أمام امرأة، فيقول له الأمير: لكن الفراق سيأتي وسيكون مؤلماً، فماذا استفدت؟ فيرد الثعلب:
استفدت أن السنابل الذهبية ستذكرني بشعرك!
بمثل هذا المنطق الطفولي والعميق استمتع مئات الملايين من القراء في العالم... ولعل جملة في هذا التجوال تغريك بقراءة «الأمير الصغير» فتكتشف أنك أمير فعلاً!

- كاتب عراقي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.