دمج الأحزاب المصرية... تحت المجهر

دعوات متكرّرة تثير أسئلة عن الجدوى

دمج الأحزاب المصرية... تحت المجهر
TT

دمج الأحزاب المصرية... تحت المجهر

دمج الأحزاب المصرية... تحت المجهر

قضية قديمة متجددة عادت لتأخذ مساحة أكثر اتساعاً على ساحة المناقشات في مصر أخيراً، وتمثلت في الدعوات لدمج قرابة 100 حزب سياسي في كيانات أقل عدداً وأكبر تأثيراً، وزاد من انتشار ذلك الاتجاه في الأوساط المختلفة، أنه جاء مواكباً لمشروع قانون تقدم به نائب في البرلمان لـ«إلزام الأحزاب غير المؤثرة بالاندماج مع غيرها». لقد اكتسبت الدعوات إلى الدمج زخماً إضافياً خلال الشهور القليلة الماضية، مدفوعة بتصريح أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لدى مشاركته في فعاليات «منتدى شباب العالم»، أعرب فيه عن تطلعه لتبنى وسائل الإعلام الدعوة لدمج «100 حزب في 10 أو 15 حزباً ليقووا، وتقوى الأحزاب السياسية».
وعاد الرئيس المصري ليكرّر دعوته، الشهر الماضي، وإن في سياق مختلف، إذ أبدى ضيقاً من امتناع الأحزاب عن تقديم مرشحين في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد خلال مارس (آذار) الماضي، وكانت شبه محسومة، وفاز بها بسهولة.
قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في معرض رده على المنتقدين لضعف التنافسية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إن «تلك المسألة لا ذنب لي فيها، وكنت أتمنى وجود أكثر من منافس، لكننا غير جاهزين، ونحن نقول إن هناك 100 حزب، إذن فليقدموا مرشحين».
وعلى الرغم من أن حديث السيسي - في المرة الثانية - يُمكن فهمه في سياقه الزمني والسياسي، المرتبط بالرغبة في وجود أكثر من مرشح يخوضون الانتخابات الرئاسية أمامه، فإن ائتلاف «دعم مصر» (صاحب الغالبية البرلمانية) في مجلس النواب، بدأ في أعقاب الانتخابات الرئاسية الإعلان عن اتجاه لدراسة مسألة «التحول إلى حزب سياسي».
«نحتاج من 7 إلى 10 أحزاب فقط في مصر»، وفق ما يعتقد النائب البرلماني، أحمد رفعت، الذي أكد نيته التقدم بمشروع قانون «يلزم بدمج الأحزاب غير المؤثرة، ومن لا يلزم بالدمج، فإن العقوبة المتمثلة في قرار حل الحزب ستكون في انتظاره»، وفي رأي النائب نفسه فإن «مصر تعاني من كثرة الأحزاب التي تعطل تطور الحياة السياسية في البلاد».
إلا أن «العيب المعطل»، من وجهة نظر النائب البرلماني، لا يمثل المعنى ذاته لدى رئيس حزب التجمع «اليساري» وعضو مجلس النواب سيد عبد العال، الذي لا يرى أن هناك حاجة لدمج الأحزاب، بل إنه قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الأزمة ليست في عدد الأحزاب قطعاً، فهناك المئات منها تعمل في دول تحظى بالتعددية السلمية، المشكلة بحالتنا تظهر في العوائق أمام نشاطها، مثل حظر النشاط السياسي في الجامعات والأندية الشبابية».
- تقييم إيجابي
وبين اعتبار الدمج ضرورة لتجاوز «أزمة زيادة عدد الأحزاب»، والنظر إلى «عدم جدوى» الخطوة، يصف الدكتور عمرو هاشم ربيع، نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وخبير النظم السياسية والبرلمانية، في لقاء مع «الشرق الأوسط» المشهد الحزبي الراهن في مصر، بالقول إن نظرة إلى الفترة المواكبة لزيادة الأحزاب الكبيرة في أعقاب «ثورة 25 يناير» يمكن تقييمها بشكل إيجابي، خصوصاً أن تلك الحقبة أعقبت 30 سنة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي كانت تحصل فيه كثير من الأحزاب على ترخيص عملها بموجب أحكام قضائية، الأمر الذي يمثل عائقاً.
ومع إشادة هاشم ربيع بسهولة تأسيس الأحزاب في أعقاب «ثورة يناير»، فإنه، ينبه إلى أن المعنى من وراء ذلك لم يعد مناسباً بعد نحو 7 سنوات، إذ «كان يُفترض أن تنضج الحياة الحزبية، وتتضح معالم التوافق والاختلاف بين الأحزاب، وبالتالي تتبلور كتل معبرة عن التيارات السياسية الرئيسية التي تدور في مجملها بين اليمين واليسار والوسط والتيار الإسلامي». وهنا تجدر الإشارة إلى أن القانون في مصر يُلزم وكلاء مؤسسي الحزب بجمع «توقيعات 5000 عضو من عشرة محافظات على الأقل، وبما لا يقل عن 300 عضو من كل محافظة»، حتى يتمكنوا من مزاولة نشاطهم بشكل قانوني تقره لجنة شؤون الأحزاب ذات الطابع القضائي.
- تجربة واقعية
ولا تعرف الحياة الحزبية الممتدة على مدار 40 سنة تقريباً، وقائع مؤسسة يمكن التوقف أمامها في مجال الدمج بين الأحزاب. خلال السنوات القليلة الماضية، تظهر تجربة دمج حزبي «الجبهة الديمقراطية»، و«المصريين الأحرار»، التي أقرتها قيادات الحزبين عام 2013، واستقْبلت آنذاك بترحيب واسع في الأوساط السياسية، لكن النهايات لم تبد متوافقة مع البدايات.
أحد صُنّاع وشهود عيان تجربة الدمج الوحيدة تقريباً بين الأحزاب في مصر، وهو أسامة الغزالي حرب، المفكّر السياسي ووكيل مؤسسي حزب «الجبهة الديمقراطية»، يُحمّل ما وصفه بـ«تدخلات بعض أجهزة الدولة في الحياة السياسية والحزبية» المسؤولية عن إخفاق تجربة الدمج بين «الجبهة الديمقراطية»، و«المصريين الأحرار»، ويضع شرط «وقف التدخلات كنقطة أساسية لإنجاح التجربة الحزبية».
وتختلف الأفكار والأسماء التي تنضوي تحتها الأحزاب المصرية، غير أن ممثلي بعضها ممن تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» توافقوا مع تباين مشاربهم على أنه «لا يمكن أن يحدث الدمج وفق قرار ملزم، ويجب أن يكون نابعاً من أعضاء الأحزاب»، ومن هؤلاء رئيس حزب «المؤتمر» عمر المختار صميدة، الذي يقول إن «الحياة الحزبية والسياسية مسألة تراكمية تحتاج إلى الوقت»، ويواصل: «الأحزاب لا تُصنع، فهي في حالتها الطبيعية تقوم على أفكار، ولا يمكن أن تتدخل الدولة لتصنعها». ويتفق المتحدث الرسمي لحزب «مستقبل وطن» أحمد الشاعر، مع الرأي السابق، ويقول إن «دعوة الدمج إيجابية، لكن يصعب تحقيقها»، ويعد الغزالي حرب الحديث عن الدمج بالإلزام بأنه «لا علاقة له بالسياسة، والأفضل أن تدمج الأحزاب نفسها بنفسها».
- الفصل المطلوب كأساس
ويضع هاشم ربيع، مسار «الفصل بين المكانة المعنوية السياسية والسلطة التنفيذية التشريعية» أساساً يجب تبينه من قبل السلطة في مصر، إذ يشير إلى تجنب «طريقة إقرار مشروع قانون يعتمد إلزام الأحزاب بالدمج، فيما يمكن أن يشبه «الوصاية والتدخل على قرارات هي بالدرجة الأولى سياسية ويجب أن تكون حرة». ويلفت إلى أن عصب «تحفيز السياسة في مصر، تمثله الأحزاب، وبالتالي يجب أن يكون المستهدف تنشيطها».
وللعلم، في برلمان مصر، الذي يضم أكثر من 590 نائباً، لا تبدو الكتل البرلمانية المُمثلة للأحزاب معبّرة عن الصورة الذهنية الراسخة لدى جمهور السياسية في البلاد. إذ يتمثل حزب «التجمع» أقدم الأحزاب في البلاد بنائبين برلمانيين فقط، وتضم الهيئة البرلمانية لحزب «مصر الديمقراطي الاجتماعي» 4 مقاعد رغم أن اثنين من قياداته توليا مناصب رفيعة في الدولة (زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق، وحازم الببلاوي رئيس الوزراء الأسبق) في أعقاب «ثورة 30 يناير». ومن ناحية أخرى، بينما يملك حزب «الوفد» الليبرالي، صاحب التاريخ الحزبي الطويل، 36 مقعداً في البرلمان، يبدو لافتاً أن حزب «المصريين الأحرار» صاحب الأكثرية الحزبية البرلمانية يمثله 65 نائباً، وكذلك حزب «مستقبل وطن» لديه 53 مقعداً، مع أن الحزبين الأخيرين أُسِّسا في عامي 2011، و2015 على الترتيب. ومع الأخذ في الاعتبار أن أعضاء الكتل البرلمانية الحزبية تم انتخابهم ضمن قائمة مرشحين لم تعبر بوضوح عن برامج أحزابهم، فإن الأكثر لفتاً للانتباه أن المستقلين يمثلون أكثر من نصف أعضاء البرلمان.
- إجراءات عملية
إن الكلام عن دمج الأحزاب، رغم استقباله «إيجابياً» من قبل ممثليها في بادئ الأمر، فهو عند طرحه واقعياً يصطدم بعدة أمور، أولها أن القانون يحظر على أعضاء مجلس النواب تغيير صفاتهم الحزبية بعد انتخابهم، الأمر الذي يصعب معه اندماج أحزاب ممثلة في البرلمان، وإلا فإنها تكون قد غامرت بكتلتها البرلمانية وهي «درة التاج» بالنسبة لأي حزب. وبناءً عليه، لن يتبقى إلا الأحزاب غير الممثلة في مجلس النواب، على الأقل حتى نهاية الدورة البرلمانية المقرر في عام 2021.
«كثير من الأحزاب لن تتخلى عن اسمها بسبب مكاسبها البرلمانية، أو الوضع الاجتماعي الذي اكتسبه قادتها» بحسب ما يتوقع رئيس حزب «المؤتمر» عمر صميدة. ويشارك في الرأي السابق أحمد الشاعر، المتحدث باسم حزب «مستقبل وطن»، الذي يعتبر أن «دعوة الدمج لا تتصل بالأحزاب والكيانات القوية الكبرى، الممثلة بالفعل في البرلمان، ولها بصمة على أرض الواقع، ونحن من بينهم». ووفق الشاعر فإن «الكرة في ملعب الأحزاب الضعيفة التي يجب عليها السعي لتقوية موقفها، أما الكتل والكيانات القوية فهي غير معنية بالأمر». وبشأن المعايير التي يعتقد أنها أساس لتقييم فاعلية الحزب، يقول الشاعر إنها تتضمن «الكتلة البرلمانية، وأعداد الأعضاء، وتوزيع المقرات في محافظات مختلفة».
ومع الإقرار بوجود أحزاب «كارتونية غير فعالة» بحسب وصف الغزالي حرب، يبدي رئيس «التجمع» موافقة على إحكام الرقابة على «لائحة عمل الأحزاب، ومعاقبة كل الكيانات التي لا تلتزم بتطبيق لائحتها الداخلية وما تتضمنه من تداول المناصب، وإجراء انتخابات دورية، وعقد مؤتمرات عامة بحضور كل الأعضاء، ويكون معيار المحاسبة هو اللائحة التي تقدم بها المؤسسون عند طلبهم الموافقة على تأسيس الحزب». ويُقرّ صميدة بأنه «لا يمكن منع الأحزاب الضعيفة من الوجود، وزيادة عددها لا يجب أن يكون هاجساً». ومع ذلك يؤيد «مزيداً من إجراءات الرقابة على نشاط الأحزاب وتجميد غير الملتزمين بتفعيل أنشطتها».
- ما العوائق؟
«الدمج بالإلزام» إذن لا يبدو مقنعاً لممثلي الأحزاب المختلفة الذين تحدثت معهم «الشرق الأوسط»، فما العوائق التي تحول دون فاعلية الأحزاب إذا لم تكن المشكلة في تشابه برامجها وتعدد كياناتها؟
يعد الدكتور هاشم ربيع أن «النظام الانتخابي بالقائمة المُطلقة، بمثابة الكارثة التي تحيط بالعمل الحزبي»، ويشرح أنها «تعتمد على إنجاح القائمة الكاملة للمرشحين الذي ينالون نسبة الأغلبية من أصوات الناخبين»، بينما تتضمن نسبة «القائمة النسبية» التي يتبنى ربيع الدعوة لها مسألة أن يتم إنجاح مرشحين عن القوائم المختلفة الممثلة لتيارات وتوجهات تتساوى مع معدلات ما حصلوا عليه من نسبة أصوات الناخبين، وبالتالي يكون نواب البرلمان معبرين عن الأوزان النسبية المختلفة لتياراتهم، دون إهدار أو إقصاء لبقية الأحزاب.
وغير بعيد عن العائق السابق، ينتقد رئيس حزب «التجمع» مشكلة «الحظر المفروض على الأحزاب بضرورة عدم ممارسة أنشطة تمكنها من تمويل عملها، فضلاً عن العقبات المتعلقة بحظر النشاط السياسي في المصانع والجهات والمؤسسات المختلفة، الأمر الذي يتقلص معه جمهور الأحزاب في مصر». ورغم تأكيده على أن ثمة عوائق أخرى تعرقل عمل الأحزاب في مصر وتقلل من جدواها ومنها فرض حالة الطوارئ واستمرار العمل بقانون «التظاهر»، فإنه يعتبر أنه الأهم هو «تهيئة البنية القانونية والتشريعية، من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية، لتمكين الأحزاب من العمل عن طريق تعديل قوانين الانتخابات وآلياتها بما يساعد على تمثيلها بشكل واقعي ودون تدخلات».
ولفت هاشم ربيع إلى «منهج غير صحي سياسياً يعتمد تحفيز وإبراز الكيانات الاجتماعية وليس السياسية»، ضارباً المثال بحالة «الاحتفاء التي يقدم عليها بعض المسؤولين عند الحديث عن وجود نسبة كبيرة من السيدات أو الشباب أو أصحاب الاحتياجات الخاصة ضمن أعضاء مجلس النواب، وكذلك تنظيم مؤتمرات لفئات الشباب والمرأة والأسرة المصرية»، في حين أن «الأجدى» - وفق رأي هاشم ربيع - أن يكون المستهدف من الفعاليات الحكومية والرئاسية «تحفيز الكيانات الحزبية في إطار سياسي، باعتبارها معبرة عن توجهات فكرية عامة وواسعة، وليس فئات اجتماعية بعينها».
- من الأحكام إلى الإخطار... هكذا تطوّرت أحزاب مصر؟
> جاء ظهور الأحزاب في مصر نتيجة لتأسيس أول مجلس نيابي في البلاد (مجلس شورى النواب) في عام 1866 وفي عهد الخديوي إسماعيل، إذ كانت هناك تجربة مبكرة أقدم عليها أنصار الزعيم المصري أحمد عرابي، الذين أقدموا في عام 1879 على إنشاء كيان أطلقوا عليه اسم «الحزب الوطني»، غير أن هذا التجربة لم يُكتَب لها النجاح بفعل تعرض مصر للاحتلال الإنجليزي عام 1882.
وتحت وطأة الاحتلال، وبداية من عام 1907، تدافعت القوى السياسية المختلفة في اتجاه النضال الوطني عن طريق الكيانات الحزبية، فظهرت أحزاب، منها الأمة، والجمهوري المصري، والإصلاح الدستوري، والأحرار، ثم عاد الحزب الوطني للظهور مرة أخرى على يد السياسي المصري مصطفى كامل.
لقد شكلت «ثورة 1919» الدفعة القوية لحزب الوفد ليأخذ موقعة ككيان جماهيري واسع الانتشار، لكن السنوات التالية لها شهد انشقاقات علية تكوّنت على أثرها أحزاب مثل «الحزب السعدي» و«الكتلة الوفدية» و«الأحرار الدستوريين».
أصحاب الاتجاهات الاشتراكية كانوا كذلك أصحاب حضور في المشهد الحزبي المصري، وكان منها أحزاب «مصر الفتاة» و«الشيوعي المصري»، وكان ذلك في الفترة من منتصف الثلاثينات وحتى أواخر الأربعينات.
ومع قيام «ثورة 23 يوليو 1952» التي أنهت النظام الملكي في مصر، قرّرت قيادتها حل الأحزاب القائمة وحظر تكوين كيانات جديدة، ثم ظهرت تنظيمات سياسية رسمية في مراحل مختلفة منها «الاتحاد القومي» و«الاتحاد الاشتراكي العربي» و«هيئة التحرير».
ظلت الأحزاب محظورة لنحو 25 سنة، إلى أن عادت مرة أخرى لتظهر بقرار رسمي أصدره الرئيس الراحل أنور السادات بعودتها، على مرحلتين أولهما تجربة المنابر داخل «الاتحاد الاشتراكي العربي» التي تعبّر عن اليمين واليسار والوسط، وكان ذلك عام 1976. وسريعاً ما تقرر تأسيس أحزاب منها «مصر العربي الاشتراكي»، الذي أصبح «الوطني الديمقراطي» وترأسه السادات، وكذلك حزب «التجمع الوطني التقدمي» و«الأحرار الاشتراكيين» و«العمل» و«الوفد الجديد»، لكن الأخير لم يعمل طويلاً وتقرر تجميده لفترة، ثم عاد للعمل في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
تنوّعت طرق الحصول على تصريح عمل الأحزاب بين طريقين في عهد مبارك، أولهما قرارات رسمية من لجان شؤون الأحزاب والتي وافقت على تأسيس أحزاب منها «الوفاق القومي» عام 2000، و«الغد» 2004، و«الجبهة الديمقراطية» 2007. أما الطريق الثاني فكان محوره ساحات القضاء، حيث تمكن 11 حزباً من نيل أحكام قضائية بالعمل، رغم رفض لجنة الأحزاب، ومنها «الأمة» 1983، و«مصر الفتاة» عام 1990، و«العربي الناصري» 1992، و«التكافل» 1995، و«شباب مصر» 2005.
لقد كانت «ثورة 25 يناير 2011» بمثابة المتغير الجوهري، الذي دفع «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» إلى إصدار مرسوم بقانون فتح الباب أمام تسهيل تأسيس الأحزاب لتصبح بالإخطار بدلاً من انتظار الحصول على تصريح. وكان من بين أبرز الشروط التي لا تزال قائمة «أن يوقع على إخطار قيام وتأسيس الحزب 5000 عضو مؤسس من عشرة محافظات على الأقل، بما لا يقل عن 300 عضو من كل محافظة»، وإلغاء الدعم المادي الذي كانت تقدمه الدولة لتدعيم الأحزاب.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟