ماذا نريد من أدب الطفل؟

على هامش افتتاح أحد أشهر معارض الكتب المتخصصة في إيطاليا

شعار مهرجان كتاب الطفل في إيطاليا
شعار مهرجان كتاب الطفل في إيطاليا
TT

ماذا نريد من أدب الطفل؟

شعار مهرجان كتاب الطفل في إيطاليا
شعار مهرجان كتاب الطفل في إيطاليا

يعتبر مهرجان كتاب الطفل في إيطاليا من أشهر المهرجانات العالمية في عموم أوروبا، إذ يشارك فيه سنوياً عدد كبير من دول أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا وأميركا اللاتينية ودول أفريقية وآسيوية، ومن ضمنها عدد من الدول العربية، مثل مصر ولبنان والإمارات العربية المتحدة. وهو ينظم في مدينة بولونيا، العاصمة الإقليمية لمقاطعة «إميليا رومانيا» الإيطالية، وهذه هي الدورة الخامسة والخمسون له.
وضم المهرجان عشرات الأجنحة وصالات العرض، وورش العمل وقاعات المحاضرات والندوات، على مساحة 20 ألف متر مربع، وشاركت فيه هذا العام 77 دولة، وحمل نحو 28 ألف عنوان كتاب. وفتحت في كثير من الأجنحة المشاركة ورش فنية، شارك فيها عدد من طلبة المدارس ومجموعة من الوافدين وأبناء الجاليات الأجنبية، وحضره 720 صحافياً من كل أنحاء العالم. وأعلنت لجنة التحكيم، التي تضم مجموعة من الفنانين وأصحاب دور النشر وأساتذة التربية الفنية، والتي اختير أعضاؤها من عدة دول مساهمة بالمهرجان، عن فوز الفنانة فيندي فيرنس، من كرواتيا، بالجائزة الأولى، كأفضل فنانة من مجموع 100 فنان متخصص برسوم الأطفال.
وفي مناسبات مهمة كهذه، لا بد من إعادة طرح السؤال القديم - الجديد، وهو: ماذا نريد من أدب الأطفال أن يقدم؟ وأي أدب يمكن توفيره للطفل لأجل الاطلاع عليه؟ هناك من يوظف اللغة بدرجة عالية من الشاعرية، ويؤدي غرضه بأشكال حالمة شفافة غامضة بعض الشيء، وهناك من يميل إلى الوضوح التام والفكرة المركزة المحددة، بمعنى أن هناك من يرى الطفل عالماً جميلاً لديه القدرة العالية على فهم الخيال والتأملات، وآخر يرى في ذلك خطراً محدقاً بالطفل، وابتعاداً متعمداً عن إيصال المعاني التي نريدها بوضوح إليه.
إن أدب الأطفال هو ورشة تحضير الروح البشرية، فالكتاب المخصص للطفل مدعو في الأساس لتربية المشاعر الجمالية لدى الأطفال، وأن يكون قادراً على فتح عيونهم على العالم، وأن يغني أرواحهم، ويرسم الجوانب الانفعالية في شخصياتهم.
الطفولة لا يمكن أن تزهر وتتطور خارج فضاءاتها التربوية السليمة، ذلك لأن هذه الفضاءات هي القادرة على إغناء خيال الطفولة بالانطباعات الأخلاقية والمعرفية والجمالية. ويأتي في مقدمة العوامل التي تنشط خيال الطفل للارتقاء بالمهارات الإبداعية عامل القراءة، على اعتبار أن ثقافة الطفل بدأت تأخذ حيزاً متنامياً من الاهتمام في كثير من دول العالم، مع العلم بأن أكثر من 40 بلداً في العالم لا يوجد فيها حتى الآن قوانين للتعليم الإلزامي، كما أن أكثر بكثير من هذا العدد من دول العالم يتجاهل حقوق الطفل ويخرقها، على الرغم من مرور أكثر من 35 سنة على إقرار حقوق الطفل عالمياً.
أدب الطفل أصبح خاضعاً لجملة من التقنيات الحديثة في الكتابة، إضافة إلى الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق كثير من الذين يكتبون للطفل لزرع المفاهيم والمثل الإنسانية في عقله، وإذكاء روح المحبة لديه. ومع أن المدرسة نجحت في تقديم مئات الأشكال الفنية والمعرفية، لتكون خطوة مهمة في إبداع الطفل، على اعتبار أن لكل طفل مولود مقدرة إبداعية، وأن الأطفال بشكل عام لديهم موهبة الخلق والتعبير، وإذا اختفت المقومات التي تدعم وتشجع هذه المهارات، فإنها تموت أحياناً في مهدها، فإن من أهم عوامل التطور عند الطفولة، بما تحمله من قدرات أولى للابتكار والتعامل الإنساني والعلمي، هو توجيهها نحو تعلم مهارة القراءة والكتابة والحساب، وتعلم المهارات الجسمية، واكتساب اتجاه سليم نحو الذات، وتعلم الدور الذي يليق بالجنس الذي ينتمي إليه، وتكوين الضمير ومعايير الأخلاق والقيم، وتنمية حس التخيل لديه.
إن أدب الطفل يخضع لعوامل كثيرة، منها الرؤية الفلسفية التي يحملها الكاتب نحو الطفل، وكذلك ميله الشخصي إلى الشفافية والمباشرة، ويضاف إلى كل ذلك قدرة الكاتب اللغوية، وقد يحتاج الموضوع إلى مباشرة، أو إلى التعبير الحالم أو الأسطوري، لكن باعتقادنا يجب ألا ننسى ميل الطفل إلى المادة القصيرة المركزة التي لا تحوي استطرادات في الكلام. فأدب الطفل ليس كتابة طارئة أو هامشية، بل هو عمل أدبي له مواصفات، أي إبداع آخر يجب أن تتوفر فيه الدقة اللغوية والبراعة في الأسلوب.
والكتاب الموجه للأطفال قوة تربوية وتعليمية، فهو قادر على أن يكون قلباً مفتوحاً. ومن يتصدى للكتابة للأطفال لا بد أن يكون لديه ما يقوله لهم، إذ لا يقتصر العمل في كتاب الأطفال على مجرد تقديم نص فني على مستوى عالٍ، يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الكلامية عند الأطفال وقومياتهم، بل إنه عمل يشمل النواحي التصويرية للنص، ذلك أن الأطفال هم أكثر من الآخرين تقبلاً للرموز، وهذا ما يكسب الكتاب المصور بالرسوم الملونة أهمية مضاعفة.
وكذلك فإن الكتب التي تتعلق بالحكايات السحرية والأساطير والشعر والقصص العاطفية والمغامرات والقصص العلمية الخيالية هي المفضلة لدى غالبية الأطفال، علماً بأن الأساليب في أدب الأطفال تتطور باستمرار، إلا أن أسلوب السرد القصصي الذي ينتقل من الحكاية الأسطورية إلى الحكاية ذات المغزى، التي لا تشكل المعجزة السحرية الشيء الرئيسي فيها، هو أقرب إلى نفوس الأطفال.
ولا نستطيع أن نفصل العطاء الثقافي عن العطاء التربوي، إذ من العبث أن ننتج ونرسم ونكتب للطفل مواد تحمل صوراً ووجوهاً وأفكاراً غير وجوهنا وأفكارنا، وتردد أصواتاً غير أصواتنا. ولو أخذنا مثالاً أية مادة علمية مقدمة في كتاب أجنبي مترجم، للمسنا بسهولة بعض الآثار السلبية لهذه العملية، رغم أن المادة العلمية واحدة، لا تختلف في عالمنا العربي عما هو موجود في العالم الغربي. والسؤال الآن: ما هذه الآثار السلبية؟ إن هذا التأثير يأتي من الصور أو المثال الذي يساق لشرح هذه الظاهرة أو تلك، فإذا قلنا للطفل مثلاً إن الفيتامين الفلاني يكثر في الفاكهة الفلانية، وذكرنا له اسم فاكهة لا يعرفها، وهي غير موجودة في بلاده، وتقدم مثل هذه الفاكهة على طبق لا يوجد مثيله لدى الطفل العربي، وفي مطبخ لا يشبه بكل الأحوال مطبخه، فهنالك احتمالات لأن تترسخ في نفس الطفل العربي مشاعر بأن ما يراه ملك لغيره، وليس له. من هنا، تأتي المهمة المعقدة لإنتاج الوسائل الثقافية للطفل، إذ يتوجب ترسيخ أصالة الثقافة لدى الطفل، عبر تعامله مع الصورة والكلمة والحادثة والواقع المحلي بشكل يشد الطفل إلى هذا الواقع، ويعزز ثقته به، ويربط به كل تطلعاته وأحاسيسه ومذاقاته الجمالية.
ومن المؤكد أن إبداع الطفل متأثر بالضرورة، سلباً أو إيجاباً، بتصورات وآراء الكبار، وسمات شخصياتهم ومستوياتهم الثقافية، ومواقفهم من إبداع الطفل بشكل عام. فعلى الرغم من تحديد المبادئ الأساسية التي ذكرناها للسلوك الإبداعي للطفل، فإن التعامل مع أسئلة الأطفال، واختباراتهم وأسئلتهم وتفسيراتهم، وإجاباتهم واستنتاجاتهم، يجب أن يتم باحترام وعدم سخرية. ومن الأهمية بمكان التعرف على إبداعات الأطفال. فكما أن الموسيقى تربي الطفل على الفضيلة، كما يقول أفلاطون، وتدعو إلى الخيال والتذوق، فإن الكتاب والمجلة والصحيفة الجيدة، المرتبطين بالفكر والثقافة والجمال، سيولد في الطفل عادات جيدة، ويكون باعثاً قوياً على التأكيد على ميل الطفل الغريزي للثقافة، واطراد نموه ورقيه إلى المستقبل.
المبدعون من الفنانين والأدباء والتشكيليين لهم رؤاهم في علاقة الطفولة بالإبداع، انطلاقاً من امتلاكهم للقدرات الإبداعية في مراحل طفولتهم، فالسنوات السبع الأولى من حياة الإنسان تشكل أساس حياته فيما بعد، ومعظم العقد النفسية تغرس جذورها في تلك المرحلة المبكرة من حياة الإنسان. ومن المعروف علمياً أن الطفل في سنواته الأولى تفوق ملكة الخيال لديه كل شيء، فإذا أدرك المربون هذه الملكة، وصقلوها بالقصص والقراءات التي تحلق بخيال الطفل إلى مراحل أعلى أفقاً، نما خيال الطفل، إذ ستختزن تلك الموهبة وتتفجر بكامل قواها في مجال الإبداع والابتكار. فمن 7 سنوات إلى مرحلة البلوغ، تنمو موهبة الملاحظة. وعلى المربي والكاتب إدراك ذلك، بحيث ينمي ملكة الملاحظة فيمن يربيهم، ويستعمل أسلوب المقارنة لتلهب القدرة الفكرية عند الطفل والإنسان عموماً فتصل به إلى الحقائق.
وإذا كانت الثقافة قد تراجعت في عدد من البلدان العربية أمام أولويات الطفل العربي، لتسبقها الحاجة الملحة للغذاء والصحة والتعليم، في ظروف الكوارث الطبيعية والحروب التي تشهدها كثير من بلداننا العربية في الوقت الحاضر، فهذا لا ينفي قيمة الثقافة، ودورها في صياغة طفل عربي يتمتع بمواهب وقدرات خاصة، ولا بد من أن يحتاج الأمر إلى وضع المبادئ الأساسية التي تحكم مجلات وكتب وصحافة الطفل العربي، لتحقيق الجوانب العلمية المرجوة من إنشائها.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.