معرض استعادي يغطي «سنة العجائب» في حياة بيكاسو

نظّمه «تيت غاليري» في العاصمة البريطانية

لوحة «فتاة أمام المرآة» (1932)
لوحة «فتاة أمام المرآة» (1932)
TT

معرض استعادي يغطي «سنة العجائب» في حياة بيكاسو

لوحة «فتاة أمام المرآة» (1932)
لوحة «فتاة أمام المرآة» (1932)

نظّم «تيت غاليري» بلندن المعرض الاستعادي الأول للفنان الإسباني بابلو بيكاسو الذي بدأ في 8 مارس (آذار) الماضي ويستمر حتى 9 سبتمبر (أيلول) 2018. يضم المعرض أكثر من 100 عمل فني يجمع بين اللوحة والمنحوتة والرسم التخطيطي. تتميّز المعارض الاستعادية للفنانين التشكيليين الكبار بأنها تغطي عقدين أو 3 عقود أو أكثر من الزمان لكن هذا المعرض الاستعادي يغطي سنة واحدة فقط من المنجز الفني للرسّام والنحّات بابلو بيكاسو، وهذه السنة هي 1932، أي حينما كان بيكاسو في الخمسين من عمره حين جرّب الحُب غير مرّة، وحقّق الشهرة وهو في ذروة عطائه الفني.
على الرغم من أن عائلة بيكاسو عاشت حياة ميسورة إلى حدٍّ ما، فإنه عانى من الفقر في السنوات المبكرة من حياته في برشلونة، لكنه مع بداية القرن العشرين أصبح ثرياً ومشهوراً، مبتعداً عن دائرة الفنانين المعاصرين له، لأن زوجته الروسية أولغا كوكلوفا قد أحاطته بعدد كبير من الأصدقاء والمعارف الذين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية الفرنسية التي تجد ضالتها في الأدب والفن والموسيقى، بينما كان النقّاد يترقبون منه أن يخلق أعمالاً فنية مغايرة للأنماط السائدة والمألوفة في المشهد الثقافي الفرنسي.
لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً للتذكير بالمراحل الخمس التي مرّ بها بيكاسو منذ عام 1901 حتى عام 1919 وهي: «المرحلة الزرقاء، والوردية، والبدائية، والتكعيبية التحليلية، والتكعيبية التركيبية»، حيث كان منهمكاً بالمنحى التشخيصي، وساعياً لاكتشاف الفن الأفريقي البدائي من دون أن يلتفت إلى معطيات الفن الغربي، غير أن هذا الأمر سيتغيّر لاحقاً حيث تآزر بيكاسو مع صديقه جورج براك لتأسيس المذهب التكعيبي، كما أنجز بين الحربين العالميتين أعمالاً مُستلهَمة من الفن الكلاسيكي ومن الفنانين الآخرين الذين انقطعوا إلى السريالية وأبدعوا فيها.
ورغم أنّ بيكاسو كان شيوعياً فإنه لم يبدِ أي اهتمام بالسياسة، لكن الأمر سيتغير لاحقاً حينما قصفت الطائرات الألمانية مدينة غورنيكا عام 1937 ليرسم جداريته الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، وقد اعتبرها النقاد أهمّ بيانٍ فني مُناهض للحرب.
مقابل ولعه بالفن البدائي حاول بيكاسو إحياء تقاليد الفن الغربي، حيث دخل في منافسة كبيرة مع معاصره هنري ماتيس، وأولئك الذين سبقوه أمثال فيلاسكيز، وآنغر، ومانيه، حيث عاد إلى ثيمتَي العُري والأساطير الكلاسيكية مثل «المنيوتور» ومصارعة الثيران.
تزوج بيكاسو مرتين وأنجب 4 أطفال لكنه ارتبط بست عشيقات سرّيّات. وفي عام 1932 عانى من توتر علاقته الزوجية بأولغا بسبب ارتباطه العاطفي بماري - تيريز والتر ذات السبعة عشر عاماً التي ألهمته العديد من الأعمال الفنية وفي مقدمتها لوحة «الحُلم» التي تصدرت دليل المعرض وبيعت مؤخراً بمبلغ 155 مليون دولار أميركي.
تحتوي الصالة الأولى على 7 أعمال فنية من بينها «امرأة جالسة على كرسي أحمر بذراعين» رسمها الفنان في عيد الميلاد عام 1931. يُصوِّر بيكاسو في هذه اللوحة، على الأرجح، عشيقته ماري - تيريز، وقد رسم رأسها على شكل قلب مموّه بعدد من ضربات الفرشاة القوية باللون الأسود. تستحضر هذه اللوحة التوتر الذي حدث داخل أسرة الفنان، وتعكس تمزّقه الداخلي بين زوجته أولغا وعشيقته ماري – تيريز، الأمر الذي يثير سؤالاً دائماً ومؤرقاً مفاده: هل يتسع قلب الرجل لامرأتين في آنٍ واحد؟ ويبدو أنّ الجواب: «نعم»، قدر تعلّق الأمر ببيكاسو على الأقل. أما اللوحة الثانية فتحمل عنوان «امرأة مع خنجر» التي تتمحور ثيمتها حول كابوس ليلي مُفزع لامرأة تقتل غريمتها، وقد أنجزها خلال أسبوع واحد بينما رسم اللوحة الأولى في جلسة واحدة، فقد كان بيكاسو متدفقاً، غزير الإنتاج في هذه السنة التي سُميت «سنة العجائب».
تشتمل الصالة الثانية على 11 لوحة كلها لشخصية واحدة جالسة على كرسي بذراعين يُعتقَد أنها لعشيقته ماري – تيريز، وبأوضاع مختلفة وهي تقرأ أو تنام أو تستمع إلى الموسيقى، ويبدو أن هذه اللقطات مُتخيلة أكثر منها لنموذج جالس أمام الرسّام. نُفذت هذه اللوحة خلال أمسية واحدة في 26 فبراير (شباط) 1932 عندما كانت ماري - تيريز في عامها الثاني والعشرين. لا يجد المتلقي المتخصص صعوبةً في إرجاع هذه اللوحة إلى المدرسة الوحوشية التي تتميّز بخطوطها البسيطة، وألوانها المتضادّة كما هو الحال في لوحة «الحُلم» التي حمّلها النقاد أكثر مما تحمل من رموز إيروسية، وتأويلات بعيدة عن الواقع.
بعد أن بِيعت لوحة «مُصفِفة الشَّعر» بمبلغ 26000 فرنك عام 1932، اشترى بيكاسو قصراً فخماً في النورماندي سيكون ملتقى لأهله وأصدقائه، وفي حال غيابهم سيكون ملاذاً آمناً للقاءاته السرية مع ماري - تيريز والتر. اختار بيكاسو غرفة في الطابق الثاني تطل على قرية «جيزور» لتكون مرسماً له، بينما حوّل أحد الإصطبلات إلى مُحترَف لمنحوتاته التي أخذت أشكالاً بصَلَية كما رأينا بعضها في الصالة الثالثة.
تبدو الصالة الرابعة كأنها مخصصة للأشجار والورود مثل «شجرة الحُب» والتوليب التي تتطلع من خلالها نماذجه العارية التي نُفذّت بأسلوب تشخيصي يمكن أن يكون حديثاً لو حقنهُ الفنان بنَفَسٍ حسّي جديد مثل الذي تُلهمه إيّاه عشيقته والتر.
تُعد لوحة «فتاة أمام المرآة» واحدة من تحف بيكاسو الفنية التي تعكس رؤيته الفلسفية للجمال، فالشخصية الحقيقية المرسومة ببشرة ناعمة، وعينين واسعتين تمثل الأوقات السعيدة التي عاشتها مع بيكاسو، أما الجانب الآخر من الوجه المزيّن بالماكياج فيعكس حيويتها وشبابها، بينما توحي الصورة المشوهة في المرآة بالخوف من الكِبر والشيخوخة. ولا شك في أن القارئ المتابع يكتشف أوجه الشبه بين هذه اللوحة ومثيلتها للفنان الفرنسي المعروف إدوارد مانيه.
يجمع بيكاسو في لوحته بين عدة مذاهب مثل التكعيبية، والتعبيرية، والكلاسيكية الجديدة، ولكننا نرى فيكَراته في اللوحات السبع المعروضة في الصالة الخامسة قد تحوّلت من عاريات إلى كائنات أخطبوطية مثل «العارية المتكئة» وسلسلة النساء المسترخيات على شاطئ البحر.
تتضمن الصالة السادسة 11 عملاً فنياً أهمها لوحة «الراقصون الثلاثة» التي تبدو أعقد مما هي عليه، حيث أحبّ كارلوس كازاجيماس، الموديل جيرمين غارغلو لكنها لم تبادله الحب لأنها كانت تعشق الفنان رامون بيكوت فأطلق النار على نفسه وفارق الحياة في الحال. تتكرر في الصالتين السابعة والثامنة نماذج لنساء يقفن أمام المرايا، أو يسترخين على الرمال أو يعزفن الموسيقى، أو يستمعن إليها، وثمة بورتريهات لأولغا، وباولو ولبيكاسو نفسه. فيما تضم الصالة التاسعة 26 لوحة ومنحوتة تتمحور غالبيتها على ثيمة الصلب التي استلهمها من الرسّام الألماني ماتياس غرونيفالت، وثمة لوحات أخرى لنساء يعزفن المزمار.
أما الصالة العاشرة والأخيرة التي تحتوي على 14 عملاً فنياً فتدور حول فكرتي الغرق والإنقاذ التي استوحاها من عشيقته ماري - تيريز التي سبحت في مياه المارن الملوثة وفقدت شعرها الأشقر لتنتهي سنة العجائب نهاية كارثية. وفي عام 1935 سوف تحمل ماري - تيريز من بيكاسو وتنجب له بنتاً أسمياها مايا ستضع حداً لعلاقته الزوجية مع أولغا التي غادرت مع ابنها باولو إلى الجنوب من دون أن تُطلّق منه لأن القانون الفرنسي كان يقضي بمنح نصف ثروته لزوجته حال وقوع الطلاق.



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.