استئناس العزلة روائياً

المصرية سمر نور في روايتها «السِّت»

سمر نور
سمر نور
TT

استئناس العزلة روائياً

سمر نور
سمر نور

تتكئ الكاتبة سمر نور في روايتها «الست»، على العزلة، وتتخذ منها طريقاً لاكتشاف الذات، واضعةً بطلتها في فضاء مراوِغ تتسع فيه المسافة بين الأنا والآخر والعالم، حيث تحاول البطلة إعادة ترتيب علاقتها بالمجتمع والبشر بإرادة حرة مستقلة، بعيداً عن أقنعة التكيف والتصالح الزائف مع المتناقضات، وما يفرضه الإرث الاجتماعي، الذي يستهجن أن تنفرد المرأة بذاتها في حياة خاصة، لا يشاركها فيها الرجل.
على مدار 92 صفحة، هي قماشة الرواية الصادرة حديثاً عن دار «العين»، تنحاز البطلة لعزلتها، تتفنن في استئناسها وترويضها بشتى الطرق، حريصة على ألا تتحول إلى غربة، لا تتمكن من العيش مع نفسها في ظلالها، وملامسة وجودها والكشف عن مساحات المهمَّش المنسيّ، المسكوت عنه، في رحلتها مع الآخر والحياة.
يتم كل هذا بأناقة مخيلة وبصيرة فنية خصبة، ويسهم ضمير الأنا المتكلمة في تنويع حركة المونولوج من الداخل إلى الخارج بسلاسة وتلقائية، فالتفكير في العزلة مجرد وعاء خاص للذات تلجأ إليه في لحظة خطرة، كما يعزز من فكرة الاختلاء بالذات، ليمكنها التحاور بحرية وحيوية مع نفسها دونما حواجز، لكنه لا يلغي الآخر أو ينفيه، بل يعمق من النظر إليه، ويوسع من خطى المشترك الإنساني معه.
يمثل عنوان الرواية المستوحى من صورة أم كلثوم، الموسومة في الوجدان الشعبي بـ«الست» أولى عتبات استئناس العزلة. فالذات تعثر في ظلال صوتها العبقري على «ونسة» خاصة، تكسر بها فراغها الرخو، مستعيدة في رذاذه أصوات الماضي والحاضر، الأحلام والذكريات، في حياة بطلة وحيدة على مشارف الأربعين اختارت العزلة ملاذاً لذاتها من شرور العالم ووحشيته، ليس بحثاً عن حياة بديلة أو موازية، إنما محاولة للإمساك بزمن مخاتل هارب وراء الأشياء.
في حيِّز مكاني ضيق، مجرد شقة بسيطة بحي شعبي، تختبر البطلة عزلتها، تلملم خيوطها، وتروضها في أبسط نثريات الحياة ومفرداتها العادية اليومية، وتشدها أحياناً إلى تخوم أبعد، أشبه بالقفز إلى المجهول الغامض، عبر رحلات خاطفة بالصحراء، في محاولة لتقصي حركة النجوم في الليالي المقمرة، بل لمسها تحت سماء مكشوفة، وهو ما يمكن أن أطلق عليه «الوجود بالحلم».
هناك توظيف لطاقة الحلم، في كثير من فصول الرواية، فهو ينسرب من جراب الماضي والحاضر، ويقف كنقطة ضوء في آخر النفق، ويشكل مفاتيح الحل لفواصل وعقد سمجة سميكة، خصوصاً بين تعارضات الروح والجسد، والواقع والخيال. لا يبلغ الحلم ذروته بالشطح والنزق فحسب، أو بالتعالق في فانتازيا معادة ومستهلكة، بل بإمكانية تحققه، وتوسيعه لأفق ومسام الكتابة. فكما أن الكتابة فعل وجود، هي أيضاً فعل حلم بالضرورة.
تفصح الكاتبة عن ذلك في جمل وعبارات نصية دالة، تطالعنا في نسيج الرواية، منها على سبيل المثال: «أعيش الحياة التي تموج بداخلي، ولن تسكن إلا إذا توقفت عن الكتابة»، أو «فإن لم أعش بطريقتي فلا معنى لما أكتبه»، أو «أرغب في التعود على الحياة داخل فراغ يخصني وأملأه بما أحبه». بل إن الحبيب المجهول، يتحول تحت وطأة مراوغات الحلم بالوجود إلى «كائن الصدفة»، العابر المقيم، كغبار عاطفي قديم في سقف الذاكرة والنسيان معا. أو يتراءى في هيئة رجل نحيف أسمر يصطاد على حافة بحيرة، كما في طقوس قراءة الفنجان (ص34 و44).
يتسع الحيِّز المكاني الضيق لترويض العزلة، واكتشاف منحنيات نموها وذبولها، فتبدو كأنها ترحال دائم في الطبيعية، وفي مغارة الذات، فنبتة الظل «البوتس» تختصر هذا المشهد بقوة، حين تذبل وتحترق أوراقها وأغصانها، مخلِّفةً ما يُشبِه المرثية لدفء أصبح مفتَقَداً ليس بحكم عوامل الطبيعة وتحولات التربة، وإنما بحكم خطى الزمن الغليظة، التي تفتح المغارة من جديد للوحش القابع في هواجس الماضي والحاضر معاً، الذي يبدو في أحيان كثيرة، قريناً للعزلة، يجب مراودته، حتى لا تخسر الذات معركتها مع حلمها وواقعها الجديد، بل تخرج منها على الأقل في حالة من التعادل، فالوحش هنا، في الداخل والخارج معاً.
لا يبتعد كثيراً عن هذه المشهد «رجل المول» الذي تراقبه الذات الساردة، وهي تكتب من مقعدها بـ«الكافيه»، رجل كهل أدمن الجلوس بمقعده المفضل، منذ أن يفتح «المول» ويغادره مع موعد الإغلاق... هذا الرجل بملابسه الأنيقة البسيطة أصبح يعرفه الجميع ويألفون حضوره، «يستند على رجال الأمن حتى دكته المفضلة، ويتطوعون بشراء ما يحتاج إليه من وقت لآخر إلى أن يحين موعد انصراف الموظفين، يقوم بصعوبة من مكانه، ولا يطلب مساعدة أحد، لا يتحدث كثيراً، لكن حين تسأل عنه أيّاً من المترددين على المكان سيقول عنه جملة واحدة: إنه رجل وحيد يستأنس بنا».
يفتتح هذه الرجل الذي يرفض العزلة، والبقاء بمفرده بالبيت بعد انصراف ابنته المدرسة للعمل، يفتتح عالم الرواية، وتنغلق عليه صفحاتها الأخيرة، ملوحاً للبطلة، وكما تقول: «اليوم، رآني، وهو متجه إلى سيارة ابنته، لوح لي مبتسماً، فلوحتُ لهما، له وللوحش الذي رافقه من (باب المول) حتى باب سيارة ابنته».
رمزيّاً يمثل «رجل المول» حجراً صغيراً في لعبة نظائر العزلة وتحولاتها الاجتماعية والإنسانية، يتعانق معه حجر آخر يمثله جار البطلة المسن العجوز ببسمته السمجة التي تنفر منها في البداية وتغلق الباب في وجهه، ثم تتعاطف معه بعد أن تتعرف عليه. وكما تقول: «لم يكن من يقف أمامي جار متطفل أتجنبه، بل رجل وحيد يستأنس بي».
نعم، نحن أمام لعبة بينها ملامح مشتركة من الوحدة والفقد والحرمان، لكنها بالنسبة للبطلة فعل اختيار محض وطريقة حياة، بينما يعيشها الآخرون بحكم وطأة الظروف الاجتماعية القاسية أيضاً.
اللافت هنا أن مدارات هذه اللعبة تعشق نقائضها وأضدادها أيضا، فشخصية سمير المهاجر صاحب البطلة الحميم الأقرب إلى نفسها، ورغم مرارة شعوره بالغربة يمثل إحدى هذه النقائض بقوة؛ فهو لا يخشى الوحدة التي تحدثه عنها بل يسخر منها أحياناً، لذلك تنتظر رسائله على «الشات» كأنها عاصفة صغيرة تزيح ما علق بالروح والجسد من غبار مكابدات ترويض العزلة، ومحاولة استئناسها.
على سلم العم فتحي النقاش، وهو يعيد طلاء جدران الشقة، وفي حوارات متقطعة معه، يتحدث عن حياته وواقع أسرته الاجتماعي المضطرب، وكأنه صورة مصغرة من واقع المجتمع، بينما تعري البطلة (الكاتبة) الساردة دخائل عزلتها، وتنكشف حمولتها النفسية في غمرة الألوان، التي تصبح مرادفاً لنظرتها لذاتها والحياة من حولها، هنا تستدعي فان جوخ، في لوحته «سماء لا نهائية»، فهر تنفر من اللون الأبيض بكل ظلاله، وتنحاز إلى الأزرق لونها المفضل، وإلى ألوان الصحراء بصفرتها الذهبية المتوهجة، غرفة النوم بلون أزرق سماوي، الصالة باللونين الأصفر والأزرق الأقرب إلى ألوان البحر.
لا تنفصل صداقة اللون عن صداقة الحياة الني تنشدها وتحلم بها، في هذه الحيز البسيط الذي يشكل غزوتها الوحيدة الجسور، تحت راية الاستقلال عن الأسرة، التي لم يبق فيها سوى حنان الأم المتلعثم بعد موت الأب عروة صداقتها وألفتها مع نفسها والحياة.
وإذا كانت لعبة استئناس العزلة تفترض اليقظة التامة، فإنها أيضاً تفترض النسيان أحياناً، فللأشياء دائما صورة شبحية، تكمن تحت قشرة اللاوعي لكنها تطل في لحظات فارقة، شديدة الحساسة مخلفة ربكة مجنونة في فضاء الذات والواقع معاً، فلا بأس إذن من مشاكسات العزلة في ألاعيب مغوية، تتساوي فيها الحقيقة أحياناً بظلالها... من هذه الألاعيب تبدو حكاية القطة التي أدمنت الجلوس أمام باب الشقة، وكأنه بيتها الخاص، وكذلك حكاية نسيان المفتاح في باب الشقة، ومع تكرارها، تلجأ البطلة إلى حلول أشبه بطقوس الخرافة الشعبية، أو لعبة القط والفأر، حين تتوهم أن ثمة فأراً يعبث في كائنات المطبخ، بل إن ما يحدثه من فوضى متوهمة يصل إلى مسامع الأصدقاء على شبكات التواصل الاجتماعي في أقصى بقاع الأرض، والبحث عن أحسن طريقة علمية لقتل فأر، بعيداً عن نوازع الانتقام والتشفي. لكن ليس ثمة فار. إنه مجرد صدى لاصطدام مخلفات يلقيها الجيران على أرضية «مَنوَر» العمارة.
تضفي هذه المشاغبات على الرواية روحاً مرحة، وتجعلنا أمام لغة سردية سلسة قادرة على الضحك، واصطياده ليس فقط من مفارقات الحياة والواقع، بل من المقدرة على جعله يمشي فينا بحيوية ودفء.



بعد 3 أشهر ونصف الشهر من المغامرة... كوسوفي يصل مكة المكرمة بدراجته الهوائية

سيكي هوتي مع دراجته التي قطع بها مسافة 6800 كيلومتر من كوسوفو إلى مكة المكرمة (الشرق الأوسط)
سيكي هوتي مع دراجته التي قطع بها مسافة 6800 كيلومتر من كوسوفو إلى مكة المكرمة (الشرق الأوسط)
TT

بعد 3 أشهر ونصف الشهر من المغامرة... كوسوفي يصل مكة المكرمة بدراجته الهوائية

سيكي هوتي مع دراجته التي قطع بها مسافة 6800 كيلومتر من كوسوفو إلى مكة المكرمة (الشرق الأوسط)
سيكي هوتي مع دراجته التي قطع بها مسافة 6800 كيلومتر من كوسوفو إلى مكة المكرمة (الشرق الأوسط)

مدفوعاً برغبة عميقة في تقوية إيمانه وإعادة اكتشاف ذاته قرَّر شاب كوسوفي في العقد الثالث من العمر يدعى سيكي هوتي ترك حياة الراحة والاستقرار خلفه ظهره واستقل دراجته الهوائية لبدء مغامرة استثنائية عابرة للقارات تنطلق من بلدته الصغيرة في جمهورية كوسوفو إلى مكة المكرمة.

وعلى مدار 3 أشهر ونصف الشهر، قطع سيكي أكثر من 6800 كيلومتر، وعبر دولاً عدة، مجابهاً صعوبات لا تُحصى ليصل إلى قلب العالم الإسلامي، «نعيش في عالم مليء بالملذات والماديات، وكثيرون منا ينسون الغاية التي خلقنا من أجلها»، بهذه الكلمات يشرح سيكي لـ«الشرق الأوسط» الدوافع خلف هذه الرحلة التي لم تكن مجرد مغامرة عادية؛ بل هي محاولة جريئة لإعادة الاتصال بروحه والتقرب إلى الله.

إعداد الجسد والعقل

لم يكن الاستعداد لهذه الرحلة سهلاً؛ إذ حرص سيكي على تعلم أساسيات صيانة الدراجات وحمل معه قطع غيار للطوارئ، كما جهز نفسه بمعدات بسيطة للطهي والنوم، بالإضافة إلى ذلك عمل على تقوية عزيمته ليكون مستعداً لما هو قادم، معتمداً بعد الله على قوته البدنية، التي كان يثق بأنها ستعينه على تحمُّل مشاق الطريق، وعن ذلك يقول: «اعتمدت على إيماني العميق وثقتي بأن الله لن يخذلني مهما واجهت من مصاعب. وقطعت على نفسي عهداً بأن أصل إلى وجهتي مهما كانت الظروف».

بعد رحلة دامت 3 أشهر ونصف الشهر وصل هوتي أخيراً إلى مكة المكرمة ليؤدي مناسك العمرة (الشرق الأوسط)

تحديات لا تُنسى

رحلة سيكي هوتي شملت دولاً عدة منها مقدونيا الشمالية، وبلغاريا، وتركيا، وإيران والإمارات العربية المتحدة، حتى وصل إلى المملكة العربية السعودية. وكان لكل محطة تحدياتها الخاصة، ففي تركيا، شكلت التضاريس الجبلية تحدياً له، خصوصاً بعد خروجه من مدينة إسطنبول. فالطرق الوعرة والأمطار الغزيرة جعلت الرحلة مرهقة. لكن وسط هذه الصعوبات، وجد سيكي دفئاً في كرم الناس. حيث استقبله أحد عمال محطة وقود مر عليها، وقدم له مأوى ومشروباً دافئاً. عن تلك التجربة يقول: «في أكثر اللحظات صعوبة، كان لطف الغرباء هو ما يدفعني للاستمرار».

أما إيران، فيتذكر سيكي أنها كانت واحدة من أكثر المحطات إثارة، فحاجز اللغة، واختلاف الثقافة، وصعوبة التعامل مع العملة المحلية، أموراً مزعجة. لكن مع ذلك، قال: «إنه رغم كل الصعوبات، أدركت أن الإنسانية تجمعنا. الابتسامة واللطف كانا كافيين لتجاوز تلك الحواجز».

سيكي هوتي إلى جانب العَلم السعودي بعد وصله مكة المكرمة (الشرق الأوسط)

وفي الصحراء السعودية، وحين كان على مشارف الطائف، استقبلت سيكي أمطار غزيرة، شكّلت له تحدياً، لكن لحسن الحظ وقبل أن تسوء الأوضاع بشكل كبير التقى مواطناً سعودياً يُدعى فيصل بن مناعي السبيعي الذي مدّ له يد العون وقدم له المساعدة التي يحتاج إليها لمواصلة رحلته إلى خير البقاع. عن تلك التجربة يقول سيكي: «لن أنسى فيصل ما حييت. كان وجوده في ذلك الوقت معجزة أنقذت حياتي. وبفضله تمكنت من الوصول إلى مكة المكرمة».

مكة فرحة العمر

وعند دخوله إلى أم القرى بعد أشهر من مواجهة التحديات، يقول سيكي شعرت بسلام داخلي عميق، وأضاف: «كانت لحظة وصولي إلى مكة المكرمة أشبه بتحقيق حلم العمر. شعرت بالطمأنينة والفرح، توجهت إلى الله بالدعاء لكل من ساعدني في رحلتي ولكل إنسان يحتاج إلى الدعاء».

ولا تتوقف رحلة سيكي هوتي عند مكة المكرمة. فهو يخطط لمواصلة رحلته إلي المدينة المنورة وزيارة المسجد النبوي.

الكوسوفي هوتي حقّق حلم عمره بعد وصوله إلى مكة المكرمة (الشرق الأوسط)

إندونيسيا وجهة الحب

يقول سيكي: «زيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة حلم كل مسلم، وأنا ممتن لله على هذه الفرصة»، لكنه ينوي بعد مغادرة طيبة الطيبة، البدء في رحلة جديدة إلى إندونيسيا، الهدف منها هذه المرة هو التقدم لخطبة المرأة التي يحبها. مدركاً أن هذه الرحلة ستكون مليئة بالتحديات، خصوصاً أن بعض الدول التي سيعبرها لا تعترف بجنسية كوسوفو. إلا أنه عبَّر عن تفاؤله بالوصول إلى وجهته الجديدة قائلاً: «حين يكون لديك إرادة، ستجد دائماً طريقاً لتحقيق حلمك. أنا مؤمن بأن الله سييسر لي هذه الرحلة كما فعل مع رحلتي إلى مكة المكرمة».

نصيحة للمغامرين

رحلة سيكي هوتي ليست مجرد مغامرة بالدراجة الهوائية، بل هي قصة عن الإيمان، والصبر، والإنسانية، تذكرنا بأن الصعوبات ليست سوى محطات تعزز قوتنا، وأن الغاية الأسمى في الحياة هي السعي لتحقيق الاتصال الروحي والسلام الداخلي هذا الشعور دفع الرحالة الكوسوفي لتوجيه رسالة إلى كل من يحلم بخوض تجربة مماثلة مفادها «لا تنتظر أن تشعر أنك مستعد تماماً؛ لأنك لن تصل إلى هذه اللحظة أبداً. ابدأ الآن، ثق بالله، وكن صبوراً ولطيفاً مع الآخرين. العالم مليء بالخير، وستكتشف ذلك بنفسك»