«الإخوان»... عباءة الحركات المتطرفة

الجماعة شكلت مصدراً للقوى الأصولية طوال 9 عقود

انخرط «الإخوان» ومن لفَّ لفهم في أعمال عنف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي («الشرق الأوسط»)
انخرط «الإخوان» ومن لفَّ لفهم في أعمال عنف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي («الشرق الأوسط»)
TT

«الإخوان»... عباءة الحركات المتطرفة

انخرط «الإخوان» ومن لفَّ لفهم في أعمال عنف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي («الشرق الأوسط»)
انخرط «الإخوان» ومن لفَّ لفهم في أعمال عنف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي («الشرق الأوسط»)

«يمضى الزمن، تتغير الوجوه، أو تتغير ملامحها التي تواجهنا بها، تتغير اللهجة، وقد تتغير الآنية، لكن الشراب المرير يبقى كما هو، ذات الشراب المرير»... بهذه الكلمات المعبرة يستهل الراحل الكبير الدكتور رفعت السعيد الفصل الأخير من كتابه العمدة «تاريخ جماعة الإخوان... المسيرة والمصير»، ويتساءل في نهاية المشهد: «هل تلد الثعابين إلا مثلها؟ كلمات المفكر المصري الذي خصص جزءاً غالباً من وقته ودراساته الأكاديمية والبحثية لحالة الإخوان المسلمين في مصر تقطع بأن تلك الجماعة كانت ولا تزال الحاضنة التي فرَّخَت المزيد من الثعابين الأصولية والإرهابية حول العالم، وأن بواعث الفتنة آتية دوماً من تحت العباءة الإخوانية؛ فمهما تعددت الأسماء والمسميات، ومهما تنوعت التوجهات؛ فهي تأتي من تحت العباءة التي ألقتها جماعة الإخوان.
الشاهد أنه لكي نفهم الجذور التاريخية والمرجعيات الفكرية لكل الجماعات الأصولية، ناهيك بالمجموعات الإرهابية في العالمين العربي والإسلامي، فإنه لا بد من عودة إلى الخلفية التاريخية العامة التي انبعثت منها حركة الإحياء الإسلامي في السبعينات، وهي حركة ذات امتداد لأفكار وممارسات تنظيمية سابقة.
يقودنا الباحث في شؤون الحركات المتطرفة الدكتور رفعت سيد أحمد إلى فهم أصول الظاهرة، التي تبدأ من التنظير والتأطير الذي وضع لبناته حسن البنا، غير أن سيد قطب وعبر كتابه الشهير «معالم في الطريق» تمكن من وضع الوثيقة الأساسية لآيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين، بل آيديولوجية مجمل الحركات المتطرفة خلال فترة السبعينات وعنده كذلك أن أفكار «الإخوان» كانت المنبع الأساسي للخوارج المحدثين، إذ يقول: «سيد قطب في (معالم على الطريق) يرى أن الجهاد عن طريق طليعة مؤمنة، وجيل قرآني، هو الحال لتخليص المجتمع من حكم الطاغوت».
وهنا فإننا نلاحظ أن هذه العبارة ذاتها هي التي كان يصف بها خالد الإسلامبولي وزملاؤه أنور السادات، مستخدمين الألفاظ ذاتها تقريباً التي قالها سيد قطب، بما يعني أن تأثير ما قبل عام 1964 قد ترك صداه عام 1981 مروراً بحقبة السبعينات، وهو تأثير يفسِّر إلى حد بعيد بعضاً من أسباب حركة الإحياء في أكثر من دولة داخل العالم الإسلامي.
ولا يمكننا بحال من الأحوال القول إن ما أنتجته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وفي العالم العربي، بل وفي دول آسيوية مسلمة، كان إحياء لصحيح الدين الإسلامي أو لروحه السمحة، بل إن ذلك الإحياء المزعوم كان يحمل معنيين بالغي الأهمية والخطورة:
الأول أن كل الحركات التي نادت بذلك التجديد هي في الأصل امتداد وتفرعات لأفكار جماعة الإخوان المصرية.
الثاني أن الذين نزعوا إلى العنف والإرهاب متمسحين في أهداب الثوب الإسلامي، كانوا يصرون على أنهم يسعون في طريق الإحياء الذي أسَّسَه البنا وجذّره سيد قطب.
ولعل الشبه بين ماضي البنا وحاضر جميع الجماعات الإرهابية المعاصرة مثير للتأمل، فمن جماعة التنظيمين السر الخاص لـ«الإخوان»، أي جهاز الاغتيالات الذي كان يقوم عليه عبد الرحمن السندي، مروراً بالتكفير والهجرة لشكري مصطفي، في سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى «قاعدة» أسامة بن لادن في التسعينات، و«داعش» أبو بكر البغدادي تجد بذور الإخوان الإرهابية في تكفير المسلم المخالف لرأيهم، أو حتى غير المنضم إلى جماعتهم، وغالبيتهم يكفِّرون الحاكم والمحكوم، وحتى لو كان المحكوم مكرهاً يُقتل، ثم يُبعث يوم القيامة على نيته.
استباح «الإخوان» ومن لفَّ لفَّهم دماء المسلمين، ولاحقاً أهل الذمة والمستأمنين، وفي الجزائر قتلوا نساء وأطفال مخالفيهم، وحتى بقروا بطون الحوامل لقتل الأجنة تماماً، كما فعل أسلافهم مع الصحابي الجليل عبد الله بن خباب وزوجته وجنينها. ومن تردي إخوان مصر عرف العالم وهدة سحيقة لجماعات إرهابية متطرفة تجاوزت كل حدود العقل.

عن {كتيبة الإمام البخاري» و{الإخوان}
أكثر من مبرَّر جعلنا نقلب في أوراق «الإخوان» الأيام الحالية، ليتبين لنا وبحق أنهم المعين والحاضنة الأكبر والأخطر لجميع صفوف الإرهابيين حول العالم، ولعل آخر تلك المناخس التي دفعتنا لكتابة هذه السطور ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأميركية من وضع ما يُعرف باسم «كتيبة الإمام البخاري» الأوزبكية على لوائح الإرهاب، وقد نشرت لها بعض المواقع العنكبوتية مقاطع فيديو لمعسكرات لتدريب الأطفال وتعليمهم كيفية التعامل مع الأسلحة وإطلاقها، خلال وجودهم على الأراضي السورية.
مؤسس الجماعة هو صلاح الدين الأوزبكي الذي اغتيل العام الماضي، ويبدو أنه قد شرب من كأس الإخوان حتى الثمالة؛ إذ بدأ مسيرته ضمن صفوف «القاعدة» في أفغانستان، وتم إرساله إلى سوريا من قبل طالبان وسراج الدين حقاني (أحد كبار حركة «طالبان» المرتبط بتنظيم القاعدة)، ولاحقاً انتهى به المطاف داعشياً في سوريا.
لم تتوقف الأعمال الإرهابية للكتيبة بوفاة مؤسسها صلاح الدين، إذ خلفه مباشرة المدعو أبو يوسف المهاجر الأوزبكي، الذي يقود الآن «كتيبة الإمام البخاري» في سوريا، والذي بات يمثل تجسيداً لفكر الإخوان المسلمين على الأرض في تلك الجمهورية السوفياتية سابقاً.
في الأيام الأخيرة من شهر فبراير (شباط) الماضي كان أبو يوسف يُصدر بياناً تعريفياً بجماعته عنوانه «مَن نحن»؟ وقارئ البيان له أن يجزم بالمطلق أن الجماعة تقوم على مرتكزات الإخوان المسلمين أنفسهم، وفي المقدمة من أهداف «الكتيبة» إسقاط نظام الأسد وإقامة حكم إسلامي في سوريا.
أما الهدف الثاني أكثر شمولاً على الصعيد الإقليمي، فهو سعي «الكتيبة» إلى تحرير المسلمين في آسيا الوسطي برمَّتها، ما يعني تصدير المشروع الجهادي إليها مستقبلاً.

«الإخوان» وإرهاب الداخل
«الإرهاب يبدأ فكراً»، هذه حقيقة تؤكدها مجريات أحداث الماضي في الداخل المصري بنوع خاص، ولاحقاً يكون الاستدلال على التوجه نحو الإرهاب المتأسلم مجرد نتيجة حتمية لفكر متأسلم، ولمعرفة جذور عمليات الإرهاب الحديثة وتفكير الحكم والمحكوم، يمكننا أن نعاود قراءة ما كتبه محمد عبد السلام أحد الذين خططوا ونَظَّروا لقتل الرئيس المصري السادات عام 1981، عبر الكتيب الذي سماه «الفريضة الغائبة»، والذي لم يكن إلا خداعاً متواصلاً للذات وللآخرين، وقد سبقه من انخدعوا ولاحقاً انساق إليه آخرون كثر. على سبيل المثال لا الحصر يمكننا الإشارة إلى عبد الله عزام الفلسطيني من مواليد قرية سيلة الحارثية في جنين، الذي يُعدّ المؤسس الرئيسي لـ«القاعدة» في أفغانستان.
لم يكن عبد الله عزام إلا أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وقد بدأ انخراطه في صفوف الإخوان عام 1970، ثم عضواً متقدماً فقائداً في «كتائب المجاهدين»، وجاء غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان ليمثل بالنسبة إليه فرصة ذهبية لتأسيس مكتب مهمته استجلاب الشباب العربي لقتال السوفيات، ومن هنا وُلِد ما عُرِف لاحقاً بتنظيم القاعدة، مع ما جرَّته على العالم من وبال وإرهاب، تبدى في أسوأ وأبشع صورة نهار الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 في نيويورك وواشنطن.
وبالعودة إلى ما قبل محمد عبد السلام نجد أنفسنا أمام ظاهرة أخرى بطلها شكري مصطفى صاحب رؤية التكفير والهجرة، وقاتِل الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري السابق، ورؤيته تدور حول «المجتمع (الكافر) الذي لا بد من هجره، وأما من لا يستطيع الهجرة بعيداً عن أرض (الكفر)، وجب عليه أن يهاجر بنفسه عن المجتمع (الكافر)، فيترك مدرسته وعمله وأسرته ويهاجر إلى الجماعة ليقيم مع مجموعة من أعضائها، ولينشئوا مجتمعاً خاصاً بهم»، وقد عرفت جماعته بأياديها الملوثة بالدماء في سبعينات القرن الماضي، ولم يكن شكري مصطفى سوى نتاج لفكر سيد قطب فقد نهج نهجه ما جعل سلطات الأمن تلقى القبض عليه عام 1965 في محافظة أسيوط جنوب مصر، وهناك تشرب منابع التطرف من أفكار وكتابات سيد قطب.
ومن عبد الله عزام وقبله شكري مصطفى، لا يمكن لمن يرصد جذور الإرهاب الأعمى أن يغفل «الجماعة الإسلامية»... تلك التي روَّعت مصر والمصريين وقت اغتيال الرئيس السادات، وقد أذاق أعضاؤها أهالي محافظات جنوب مصر، لا سيما المنيا وأسيوط وسوهاج المرّ الكثير، ومؤسسها ورجلها المركزي هو عمر عبد الرحمن، الذي كان مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين وعضواً فاعلاً في صفوفها إلى أن تم إلقاء القبض عليه عام 1970، وأدواره في مصر وفي الولايات المتحدة الأميركية معروفة للقاصي والداني.
وينتهي بنا المطاف مؤقتاً مع جماعة تطلق على نفسها «أنصار بيت المقدس»، وتدعي أنها تتخذ من سيناء موقعاً وموضعاً لها، وفي واقع الحال ومن خلال تفكيك آلياتها وتوجهاتها ضد قوات الجيش والشرطة، فإنها تسعى إلى إشاعة الفوضى والفساد والإرهاب، وهدفها إرجاع حكم الإخوان المسلمين في مصر، ومن يقوم بتحليل خطابهم الدعائي، يجد أنه نسخة مكرورة من خطابات «الإخوان» المليئة بالسمِّ الناقع.

«الإخوان» وإيران... الخطر الداهم
يعتبر الغرب الأوروبي والأميركي اليوم إيران الداعم الأكبر للإرهاب حول العالم، ما يستدعي التساؤل: هل من خطوط وخيوط متداخلة بين أعمال «الإخوان» وفكرهم، وبين الإيرانيين ورؤاهم العقائدية وعدائهم التاريخي للمسلمين العرب السنة تحديداً؟
في بحثه عن «التيارات العابرة للوطنية... الإخوان المسلمين وإيران»، يقدم لنا الكاتب والمؤلف والباحث الأستاذ عباس المرشد خلاصةً قيِّمة جداً تفيد بأن هناك «أواصر خفيه لا تنقطع» بين الطرفين.
ويرجع الأستاذ عباس علاقة الإخوان المسلمين بإيران إلى خمسينات القرن الماضي، وتحديداً من خلال زيارة مؤسس «فدائيان إسلام» نواب صفوي لمصر في 1954، ولقائه بزعماء الإخوان المسلمين، ومن ثم دعوته للإيرانيين للانخراط في تنظيم الإخوان، إذ يُنسب لصفوي نفسه أنه قال في حفل خطابي بدمشق (1954) «من أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين».
وكانت فكرة «فدائيان» تتفق مع فكرة التنظيم السري للإخوان المسلمين، حيث وجود تنظيم سري شبيه بالتنظيمات العسكرية، توكَل إليه مهمات الاغتيال وبعض المهمات الخطيرة.
وأثمرت العلاقة بين «الإخوان» و«فدائيان إسلام» نمطاً خفيّاً من الارتباط، تمثل في إقدام رموز الحركة الإسلامية الشيعية في إيران على ترجمة ونشر أدبيات الإخوان المسلمين باللغة الفارسية، حيث تُرجِم «الإسلام ومشكلات الحضارة» وكتاب «المستقبل لهذا الدين».
لم تنقطع الصلات الإخوانية الإيرانية وإن مضت بها المقادير والعلاقة الخفية بين الجانبين سرّاً، ولعل هذا ما دعا مرشد «الإخوان» مهدي عاكف عام 2008، لأن يدافع عن مشروع إيران النووي، رافضاً الحديث عن مد شيعي، ومؤيد نفوذها في المنطقة، وقد قال عاكف وقتها ما نصه: «البرنامج النووي من حق إيران، حتى لو كان الهدف منه إنتاج قنبلة نووية، فهذا حقهم، فأميركا عندها قنبلة نووية، وكذلك إسرائيل وباكستان والهند، فلماذا إيران؟! أليس من حقها؟! فهي دولة ذات سيادة، ومن حقها أن تفعل أي شيء».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟