{الإسلام الفرنسي} كأداة لمواجهة الإرهاب

دعوة لعودة حالة الطوارئ وتشديد الإجراءات

استنفار أمني في مدينة تريب الفرنسية عقب الهجوم الإرهابي الذي تبناه تنظيم {داعش} على متجر نهاية الشهر الماضي (رويترز)
استنفار أمني في مدينة تريب الفرنسية عقب الهجوم الإرهابي الذي تبناه تنظيم {داعش} على متجر نهاية الشهر الماضي (رويترز)
TT

{الإسلام الفرنسي} كأداة لمواجهة الإرهاب

استنفار أمني في مدينة تريب الفرنسية عقب الهجوم الإرهابي الذي تبناه تنظيم {داعش} على متجر نهاية الشهر الماضي (رويترز)
استنفار أمني في مدينة تريب الفرنسية عقب الهجوم الإرهابي الذي تبناه تنظيم {داعش} على متجر نهاية الشهر الماضي (رويترز)

في هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجرته «فرنس إنفو» وجريدة «لوفيكغو»، بتاريخ 29 مارس (آذار) 2018 وشمل 1005 فرنسيين، يمثلون مختلف الانتماءات والميول السياسية والآيديولوجية؛ أن 61 في المائة من الفرنسيين مع تشديد الإجراءات المواجهة للإرهاب، حتى لو أدى المزيد من الإجراءات الجذرية، إلى الحد من حرياتهم الخاصة. كما عبر 88 في المائة عن رغبتهم في حظر «السلفية» بفرنسا؛ مما أثار نقاشاً حول إمكانية تحقيق مثل هذه الرغبة، حيث عبر رئيس الوزراء السابق إيمانويل فانس عن رغبته في تحقيق الحظر، فيما اعتبره 52 في المائة من المستجوبين أمراً غير قابل للتحقيق.
وفيما يخص التعامل مع اللوائح المتعلقة بالمبحوث عنهم في قضايا أمن الدولة. أظهر الاستطلاع تأييد 88 في المائة من المستجوبين، وضع المسجلين «خطر على الدولة» رهن الاعتقال الإداري. وقد دفعت هذه النسبة المثيرة للدهشة بكريستوف كاستانر، المندوب العام للحزب الحاكم، للقول إن وضع اللوائح بهذا الشكل المطروح، فكرة سيئة لأننا «نذهب إلى السجن عندما يتم الحكم علينا، وليس عندما نكون مشتبهين».
ويمكن القول، إن أسوء تدبير من أجل مكافحة الإرهاب، والذي نال تأييداً جارفاً، هو ذلك المتعلق بالاعتقال الإداري؛ حيث دعت 87 في المائة إلى وضع الأفراد «المشتبه بكونهم خطراً على الدولة»، في السجن الإداري؛ ومن الغريب فعلاً أن نجد أن نسبة 13 في المائة من الفرنسيين فقط، عارضوا هذه الفكرة الماسة بحقوق الإنسان. وسيراً على هذا النهج، طالب 83 في المائة من المستجوبين، بطرد الأجانب المبحوث عنهم في قضايا أمن الدولة، خارج فرنسا.
غير أن المفاجأة الكبرى، كما أطلق عليها الكثير من المختصين الفرنسيين في قضايا الإرهاب، تكمن في النسبة الكبيرة التي طالبت بعودة حالة الطوارئ؛ حيث أيدت نسبة 61 في المائة الإعلان من جديد عن حالة الطوارئ، رغم رفعها بسنّ قانون الإرهاب الذي وافق عليه البرلمان الفرنسي بتاريخ 03.10.2017، علماً بأن هذا القانون وسّع من الصلاحيات الأمنية للدولة فيما يخص التدبير والإجراءات الخاصة بمكافحة الإرهاب داخل فرنسا. ويأتي هذا النقاش العمومي، في الوقت الذي يقترح الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، طرحاً أكثر شمولية بخصوص هيكلة الإسلام الفرنسي. كما يتزامن هذا الجدل الديني والسياسي مع اعتماد مشروع قانون «دولة في خدمة مجتمع الثقة» من قِبل مجلس الشيوخ الفرنسي يوم الثلاثاء 20 مارس. وتنص المادة 38 منه على إزالة الجمعيات الدينية من قائمة جماعات الضغط وممثلي المصالح. مما اعتبر انتصاراً من مجلس الشيوخ، لفكرة التضييق على الجمعيات الدينية؛ كما عبّرت منظمة الشفافية الدولية في فرنسا عن قلقها من هذا القرار، واعتبرته «أول حملات القمع لقانون سابين 2» الخاص بالشفافية. وأن هذا التشريع الذي صوّت عليه 208 وعارضه 19 عضواً، يمثل تراجعاً للرئيس ماكرون عن التزاماته الانتخابية الخاصة بالشفافية.
ورغم ما يحمله مثل هذا النقاش من بعد آيديولوجي وثقافي، فإنه في العمق هو محاولة من المسلمين والعلمانيين اليمينيين لطرح مجموعة من الأفكار والهواجس، واستباق الخطة الوطنية لهيكلة الإسلام التي يعتزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرحها بفرنسا، في النصف الأول من سنة 2018. وكان ماكرون، الذي كان يشغل وزيراً للاقتصاد، قد أكد في أكتوبر (تشرين الأول) 2016 في تصريح له بتجمع بمدينة مونبلييه بجنوب فرنسا، أن بلاده ارتكبت بعض «الأخطاء باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل»، وأن تطبيق العلمانية بالجمهورية يمكن أن يصبح أكثر مرونة.
كما عبّر عن موقف جد إيجابي تجاه الأديان، في وقت سياسي ارتفعت فيه أصوات كثيرة مناهضة للمسلمين إثر الهجمات العنيفة التي تعرضت لها مدينتا نيس وباريس سنة 2015 و2016؛ ورغم ذلك أكد ماكرون في النشاط السياسي نفسه بمونبيليه، أنه «لا يمثل أي دين مشكلة في فرنسا في الوقت الحالي. إذا كان ينبغي أن تكون الدولة محايدة... وهو ما يأتي في صلب العلمانية... فمن واجبنا ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة».
وفي إطار رؤيته لفرنسا جديدة، يطرح الرئيس ماكرون تصوره الشامل بخصوص الإصلاح «الديني» وإعادة هيكلته. ويستند الرئيس الفرنسي الحالي، إلى تصورات فلسفية لأطروحة كل من الفيلسوف الكبير يورغن هابرماس الخاصة بما بعد العلمانية، وعودة الدين للفضاء العام. كما يستند إلى تصورات الأنثربولوجي التونسي يوسف صديق، إلى جانب الطرح التبسيطي الذي يقدمه زميل ماكرون ومستشاره الكاتب الفرنسي حكيم القروي؛ هذا الأخير ألّف آخر كتاب له بعنوان «الإسلام، ديانة فرنسية»، دعا فيه إلى دعم «تيار التمرد الثقافي»، الذي ظهر في وسط مسلمي فرنسا. كما دعا القروي إلى هيكلة الإسلام الفرنسي وانتخاب «إمام عظيم»، شبيه بالحاخام اليهودي العظيم لدى الطائفة اليهودية الفرنسية. وفي محاولته لإجمال هذا التصور، يقول الرئيس الفرنسي: «هدفي يتمثل في العمل على تأسيس قلب العلمانية، أي الحرية في أن يتبع المرء ديناً ما أو ألا يؤمن أصلاً إذا أراد؛ وذلك من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية وحرية المعتقد». ويبدو اليوم أن الرئيس الفرنسي يسارع الزمن لطرح مشروعه لهيكلة الإسلام أمام المؤسسات الدستورية والرأي العام. فقد سبق له أن أكد على حساسية هذا الموضوع، وأنه يسعى لاستقلالية الإسلام الفرنسي وتميزه عن غيره. وبناءً على ذلك، قال ماكرون، أنا «بصدد التقدم خطوة بخطوة في هذه المسألة، وسأتشاور مع الكثير من الخبراء، من مثل، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الإسلام والعالم العربي المعاصر، جيل كيبل، إلى جانب استشارة المعاهد المتخصصة، مثل معهد مونتين، فضلاً عن الاستعانة بممثلي جميع الأديان لتقديم وجهات نظرهم». ويضيف ماكرون في هذا الصدد: «سأواصل استشارة الكثيرين. فأنا التقي بمثقفين وجامعيين، وممثلين عن كل الديانات؛ لأني أعتقد أنه يجب أن نستلهم تاريخنا بقوة، تاريخ الكاثوليكية وتاريخ البروتستانتية».
وفيما يخص بعض التفاصيل المتداولة حول المشروع الجديد للرئيس الفرنسي، تتحدث بعض وسائل الإعلام عن خمسة محاور رئيسية، هي:
أولاً: إعادة تأسيس الهيئات التمثيلية للمسلمين، ووضع إطارات قانونية جديدة لذلك. الشيء الذي يعني أن القوانين الحالية والتنظيمات المتنوعة الحالية في المشهد الإسلامي الفرنسي، قد تتعرض للحظر، وبخاصة تلك التابعة للدول العربية أو التنظيمات الحركية الإسلامية.
ثانياً: يقترح مشروع ماكرون، تنظيم قضية تمويل دور العبادة ومراقبتها من طرف الدولة الفرنسية؛ غير أن هذا يطرح إشكالية وضع الدين الإسلامي تحت السيطرة المباشرة للدولة العلمانية الفرنسية.
ثالثاً: وضع آليات جديدة لمراقبة الحسابات والجهات الممولة للمساجد، سواء بُنيت المساجد من طرف الفرنسيين، أو تلك التي تشيّد بمساعدة مع الدول العربية والإسلامية.
رابعاً: تكوين فرنسا لأئمة مساجدها؛ وهذا يعني الاستغناء عن الأئمة الوافدين من الدول العربية والإسلامية، وكذا منع مزاولة الإمامة من دون تصريح وتكوين معترف به من الدولة الفرنسية.
خامساً: الوصول إلى مرحلة يستقل فيها الإسلام الفرنسي بشكل تام عن الإسلام في الدول الأخرى؛ ومن ثَم إبعاد الدين والمتدينين عن التأثيرات الأجنبية والصراعات السياسية المرتبطة بالخارج.
يأمل مشروع هيكلة «الإسلام الفرنسي»، الموضوع رهن الدراسة والبحث في الإليزيه، بالتعاون مع وزارة الداخلية والأديان، أن يخلق هيئات جديدة تمثيلية للمسلمين. وأن يحقق في النهاية، إنجازاً تاريخياً، ليس من الزاوية الدينية أو السياسية فقط؛ بل من جانب بناء رؤية معرفية، تكتشف كنه العلمانية بتعبير ماكرون. وفي الوقت نفسه تنجز منعطفاً تاريخياً للدولة الفرنسية المعاصرة، من خلال إنجاز تعاقد مع المسلمين بفرنسا يشبه ذلك التعاقد والحل المنجز مع الكنيسة الكاثوليكية؛ وبالتالي تحديد العلاقة بين الإسلام والجمهورية، والانتقال إلى تعاون وعلاقة هادئة بين الإسلام والدولة في مكافحة الأصولية، وإدخال الإسلام الفرنسي في دائرة الحداثة.

خلاصة
يبدو أن ما تطرحه المطالب الشعبية، من تشديد وتعزيز الإجراءات ضد الإرهاب؛ يمثل حلقة من حلقات النقاش السياسي المتنامي حالياً في الفضاء العام الفرنسي، حول الإسلام والدولة.
إلا أن الجدل الحالي، يُمكّننا من تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية. أولها: أن النقاش حول الإسلام تعرض لنوع من التحرير، منذ كشف الرئيس ماكرون عن عزمه طرح مشروع متكامل يتعلق بالإسلام الفرنسي. غير أن هذه الخطوة لا تخلو من سباق سياسي آيديولوجي وانتخابي بين اليمين واليسار الفرنسيين، كما أظهرت نوعاً من الازدواجية في طرح العلمانية؛ بحيث يمكن الحديث عن العلمانية الصلبة، وبين العلمانية المتطورة التي يطرحها ماكرون، مستنداً إلى ما يطلق عليه «كنه وجوهر العلمانية».
أما الملاحظة الثانية: فتتعلق ببناء الثقة بين المؤسسات الإسلامية القائمة حالياً، ومؤسسات الرئاسة وما تطرحها من أفكار. وفي هذا الإطار، يظهر أن هناك عملاً جباراً ينتظر المؤسسات الرسمية الفرنسية، لجسر الهوة بينها وبين المنظمات المدنية الإسلامية. ومن المؤشرات الدالة على ذلك تصريح رئيس المجلس الإسلامي الفرنسي أحمد أوغراش، الذي حذر من نوايا ماكرون المتضمنة فيما طرحه من أفكار؛ فقد قال أوغراش للصحافة: «لا وصاية للدولة الفرنسية على الإسلام»، وأضاف: «إننا في دولة علمانية، ويمكن لماكرون بصفته رئيساً للجمهورية أن يتقدم بتوصيات فقط في هذا الشأن وتسهيل مهامنا، فإجراء إصلاحات في المجلس الإسلامي هي مهمتنا ومسؤوليتنا نحن فقط».
الملاحظة الثالثة: أن المطالبة بالإجراءات القاسية، مثل عودة حالة الطوارئ، ووضع المشتبه فيهم رهن الاعتقال الإداري، نالت دعماً كبيراً من المنتمين والمتعاطفين مع الأحزاب المشكلة للائتلاف الحاكم الحالي، والذي شكّله رئيس الدولة. الشيء الذي يقوي من سلطة وسياسة إيمانويل ماكرون، سواء تلك المتعلقة بسنّ وإحداث تدابير جديدة ضد الإرهاب؛ أو تلك المتعلقة بمشروع هيكلة الإسلام، والذي أعلن الرئيس أنه سيطرحه في النصف الأول من سنة 2018.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟