في هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجرته «فرنس إنفو» وجريدة «لوفيكغو»، بتاريخ 29 مارس (آذار) 2018 وشمل 1005 فرنسيين، يمثلون مختلف الانتماءات والميول السياسية والآيديولوجية؛ أن 61 في المائة من الفرنسيين مع تشديد الإجراءات المواجهة للإرهاب، حتى لو أدى المزيد من الإجراءات الجذرية، إلى الحد من حرياتهم الخاصة. كما عبر 88 في المائة عن رغبتهم في حظر «السلفية» بفرنسا؛ مما أثار نقاشاً حول إمكانية تحقيق مثل هذه الرغبة، حيث عبر رئيس الوزراء السابق إيمانويل فانس عن رغبته في تحقيق الحظر، فيما اعتبره 52 في المائة من المستجوبين أمراً غير قابل للتحقيق.
وفيما يخص التعامل مع اللوائح المتعلقة بالمبحوث عنهم في قضايا أمن الدولة. أظهر الاستطلاع تأييد 88 في المائة من المستجوبين، وضع المسجلين «خطر على الدولة» رهن الاعتقال الإداري. وقد دفعت هذه النسبة المثيرة للدهشة بكريستوف كاستانر، المندوب العام للحزب الحاكم، للقول إن وضع اللوائح بهذا الشكل المطروح، فكرة سيئة لأننا «نذهب إلى السجن عندما يتم الحكم علينا، وليس عندما نكون مشتبهين».
ويمكن القول، إن أسوء تدبير من أجل مكافحة الإرهاب، والذي نال تأييداً جارفاً، هو ذلك المتعلق بالاعتقال الإداري؛ حيث دعت 87 في المائة إلى وضع الأفراد «المشتبه بكونهم خطراً على الدولة»، في السجن الإداري؛ ومن الغريب فعلاً أن نجد أن نسبة 13 في المائة من الفرنسيين فقط، عارضوا هذه الفكرة الماسة بحقوق الإنسان. وسيراً على هذا النهج، طالب 83 في المائة من المستجوبين، بطرد الأجانب المبحوث عنهم في قضايا أمن الدولة، خارج فرنسا.
غير أن المفاجأة الكبرى، كما أطلق عليها الكثير من المختصين الفرنسيين في قضايا الإرهاب، تكمن في النسبة الكبيرة التي طالبت بعودة حالة الطوارئ؛ حيث أيدت نسبة 61 في المائة الإعلان من جديد عن حالة الطوارئ، رغم رفعها بسنّ قانون الإرهاب الذي وافق عليه البرلمان الفرنسي بتاريخ 03.10.2017، علماً بأن هذا القانون وسّع من الصلاحيات الأمنية للدولة فيما يخص التدبير والإجراءات الخاصة بمكافحة الإرهاب داخل فرنسا. ويأتي هذا النقاش العمومي، في الوقت الذي يقترح الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، طرحاً أكثر شمولية بخصوص هيكلة الإسلام الفرنسي. كما يتزامن هذا الجدل الديني والسياسي مع اعتماد مشروع قانون «دولة في خدمة مجتمع الثقة» من قِبل مجلس الشيوخ الفرنسي يوم الثلاثاء 20 مارس. وتنص المادة 38 منه على إزالة الجمعيات الدينية من قائمة جماعات الضغط وممثلي المصالح. مما اعتبر انتصاراً من مجلس الشيوخ، لفكرة التضييق على الجمعيات الدينية؛ كما عبّرت منظمة الشفافية الدولية في فرنسا عن قلقها من هذا القرار، واعتبرته «أول حملات القمع لقانون سابين 2» الخاص بالشفافية. وأن هذا التشريع الذي صوّت عليه 208 وعارضه 19 عضواً، يمثل تراجعاً للرئيس ماكرون عن التزاماته الانتخابية الخاصة بالشفافية.
ورغم ما يحمله مثل هذا النقاش من بعد آيديولوجي وثقافي، فإنه في العمق هو محاولة من المسلمين والعلمانيين اليمينيين لطرح مجموعة من الأفكار والهواجس، واستباق الخطة الوطنية لهيكلة الإسلام التي يعتزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرحها بفرنسا، في النصف الأول من سنة 2018. وكان ماكرون، الذي كان يشغل وزيراً للاقتصاد، قد أكد في أكتوبر (تشرين الأول) 2016 في تصريح له بتجمع بمدينة مونبلييه بجنوب فرنسا، أن بلاده ارتكبت بعض «الأخطاء باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل»، وأن تطبيق العلمانية بالجمهورية يمكن أن يصبح أكثر مرونة.
كما عبّر عن موقف جد إيجابي تجاه الأديان، في وقت سياسي ارتفعت فيه أصوات كثيرة مناهضة للمسلمين إثر الهجمات العنيفة التي تعرضت لها مدينتا نيس وباريس سنة 2015 و2016؛ ورغم ذلك أكد ماكرون في النشاط السياسي نفسه بمونبيليه، أنه «لا يمثل أي دين مشكلة في فرنسا في الوقت الحالي. إذا كان ينبغي أن تكون الدولة محايدة... وهو ما يأتي في صلب العلمانية... فمن واجبنا ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة».
وفي إطار رؤيته لفرنسا جديدة، يطرح الرئيس ماكرون تصوره الشامل بخصوص الإصلاح «الديني» وإعادة هيكلته. ويستند الرئيس الفرنسي الحالي، إلى تصورات فلسفية لأطروحة كل من الفيلسوف الكبير يورغن هابرماس الخاصة بما بعد العلمانية، وعودة الدين للفضاء العام. كما يستند إلى تصورات الأنثربولوجي التونسي يوسف صديق، إلى جانب الطرح التبسيطي الذي يقدمه زميل ماكرون ومستشاره الكاتب الفرنسي حكيم القروي؛ هذا الأخير ألّف آخر كتاب له بعنوان «الإسلام، ديانة فرنسية»، دعا فيه إلى دعم «تيار التمرد الثقافي»، الذي ظهر في وسط مسلمي فرنسا. كما دعا القروي إلى هيكلة الإسلام الفرنسي وانتخاب «إمام عظيم»، شبيه بالحاخام اليهودي العظيم لدى الطائفة اليهودية الفرنسية. وفي محاولته لإجمال هذا التصور، يقول الرئيس الفرنسي: «هدفي يتمثل في العمل على تأسيس قلب العلمانية، أي الحرية في أن يتبع المرء ديناً ما أو ألا يؤمن أصلاً إذا أراد؛ وذلك من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية وحرية المعتقد». ويبدو اليوم أن الرئيس الفرنسي يسارع الزمن لطرح مشروعه لهيكلة الإسلام أمام المؤسسات الدستورية والرأي العام. فقد سبق له أن أكد على حساسية هذا الموضوع، وأنه يسعى لاستقلالية الإسلام الفرنسي وتميزه عن غيره. وبناءً على ذلك، قال ماكرون، أنا «بصدد التقدم خطوة بخطوة في هذه المسألة، وسأتشاور مع الكثير من الخبراء، من مثل، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الإسلام والعالم العربي المعاصر، جيل كيبل، إلى جانب استشارة المعاهد المتخصصة، مثل معهد مونتين، فضلاً عن الاستعانة بممثلي جميع الأديان لتقديم وجهات نظرهم». ويضيف ماكرون في هذا الصدد: «سأواصل استشارة الكثيرين. فأنا التقي بمثقفين وجامعيين، وممثلين عن كل الديانات؛ لأني أعتقد أنه يجب أن نستلهم تاريخنا بقوة، تاريخ الكاثوليكية وتاريخ البروتستانتية».
وفيما يخص بعض التفاصيل المتداولة حول المشروع الجديد للرئيس الفرنسي، تتحدث بعض وسائل الإعلام عن خمسة محاور رئيسية، هي:
أولاً: إعادة تأسيس الهيئات التمثيلية للمسلمين، ووضع إطارات قانونية جديدة لذلك. الشيء الذي يعني أن القوانين الحالية والتنظيمات المتنوعة الحالية في المشهد الإسلامي الفرنسي، قد تتعرض للحظر، وبخاصة تلك التابعة للدول العربية أو التنظيمات الحركية الإسلامية.
ثانياً: يقترح مشروع ماكرون، تنظيم قضية تمويل دور العبادة ومراقبتها من طرف الدولة الفرنسية؛ غير أن هذا يطرح إشكالية وضع الدين الإسلامي تحت السيطرة المباشرة للدولة العلمانية الفرنسية.
ثالثاً: وضع آليات جديدة لمراقبة الحسابات والجهات الممولة للمساجد، سواء بُنيت المساجد من طرف الفرنسيين، أو تلك التي تشيّد بمساعدة مع الدول العربية والإسلامية.
رابعاً: تكوين فرنسا لأئمة مساجدها؛ وهذا يعني الاستغناء عن الأئمة الوافدين من الدول العربية والإسلامية، وكذا منع مزاولة الإمامة من دون تصريح وتكوين معترف به من الدولة الفرنسية.
خامساً: الوصول إلى مرحلة يستقل فيها الإسلام الفرنسي بشكل تام عن الإسلام في الدول الأخرى؛ ومن ثَم إبعاد الدين والمتدينين عن التأثيرات الأجنبية والصراعات السياسية المرتبطة بالخارج.
يأمل مشروع هيكلة «الإسلام الفرنسي»، الموضوع رهن الدراسة والبحث في الإليزيه، بالتعاون مع وزارة الداخلية والأديان، أن يخلق هيئات جديدة تمثيلية للمسلمين. وأن يحقق في النهاية، إنجازاً تاريخياً، ليس من الزاوية الدينية أو السياسية فقط؛ بل من جانب بناء رؤية معرفية، تكتشف كنه العلمانية بتعبير ماكرون. وفي الوقت نفسه تنجز منعطفاً تاريخياً للدولة الفرنسية المعاصرة، من خلال إنجاز تعاقد مع المسلمين بفرنسا يشبه ذلك التعاقد والحل المنجز مع الكنيسة الكاثوليكية؛ وبالتالي تحديد العلاقة بين الإسلام والجمهورية، والانتقال إلى تعاون وعلاقة هادئة بين الإسلام والدولة في مكافحة الأصولية، وإدخال الإسلام الفرنسي في دائرة الحداثة.
خلاصة
يبدو أن ما تطرحه المطالب الشعبية، من تشديد وتعزيز الإجراءات ضد الإرهاب؛ يمثل حلقة من حلقات النقاش السياسي المتنامي حالياً في الفضاء العام الفرنسي، حول الإسلام والدولة.
إلا أن الجدل الحالي، يُمكّننا من تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية. أولها: أن النقاش حول الإسلام تعرض لنوع من التحرير، منذ كشف الرئيس ماكرون عن عزمه طرح مشروع متكامل يتعلق بالإسلام الفرنسي. غير أن هذه الخطوة لا تخلو من سباق سياسي آيديولوجي وانتخابي بين اليمين واليسار الفرنسيين، كما أظهرت نوعاً من الازدواجية في طرح العلمانية؛ بحيث يمكن الحديث عن العلمانية الصلبة، وبين العلمانية المتطورة التي يطرحها ماكرون، مستنداً إلى ما يطلق عليه «كنه وجوهر العلمانية».
أما الملاحظة الثانية: فتتعلق ببناء الثقة بين المؤسسات الإسلامية القائمة حالياً، ومؤسسات الرئاسة وما تطرحها من أفكار. وفي هذا الإطار، يظهر أن هناك عملاً جباراً ينتظر المؤسسات الرسمية الفرنسية، لجسر الهوة بينها وبين المنظمات المدنية الإسلامية. ومن المؤشرات الدالة على ذلك تصريح رئيس المجلس الإسلامي الفرنسي أحمد أوغراش، الذي حذر من نوايا ماكرون المتضمنة فيما طرحه من أفكار؛ فقد قال أوغراش للصحافة: «لا وصاية للدولة الفرنسية على الإسلام»، وأضاف: «إننا في دولة علمانية، ويمكن لماكرون بصفته رئيساً للجمهورية أن يتقدم بتوصيات فقط في هذا الشأن وتسهيل مهامنا، فإجراء إصلاحات في المجلس الإسلامي هي مهمتنا ومسؤوليتنا نحن فقط».
الملاحظة الثالثة: أن المطالبة بالإجراءات القاسية، مثل عودة حالة الطوارئ، ووضع المشتبه فيهم رهن الاعتقال الإداري، نالت دعماً كبيراً من المنتمين والمتعاطفين مع الأحزاب المشكلة للائتلاف الحاكم الحالي، والذي شكّله رئيس الدولة. الشيء الذي يقوي من سلطة وسياسة إيمانويل ماكرون، سواء تلك المتعلقة بسنّ وإحداث تدابير جديدة ضد الإرهاب؛ أو تلك المتعلقة بمشروع هيكلة الإسلام، والذي أعلن الرئيس أنه سيطرحه في النصف الأول من سنة 2018.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط