هل كانت سوزان سونتاغ حقاً {أذكى} أميركية؟

كتاب جديد يتخذ موقفاً عدائياً تجاهها

سوزان سونتاغ
سوزان سونتاغ
TT

هل كانت سوزان سونتاغ حقاً {أذكى} أميركية؟

سوزان سونتاغ
سوزان سونتاغ

عندما كانت الروائية والناقدة سوزان سونتاغ (1933 - 2004) على قيد الحياة، وصفتها إحدى الصحف الأميركية بأنها «أذكى امرأة في الولايات المتحدة الأميركية». واليوم، يصدر عنها كتاب عنوانه «سوزان سونتاغ: صنع أيقونة»، من تأليف كارل روليسون وزوجته ليزا بادوك (مطبعة جامعة مسيسبي، طبعة جديدة منقحة، 368 صفحة)، ليعيد إلى الأذهان هذا السؤال.
لم تكن سونتاغ مجرد ناقدة أدبية، وإنما كانت في المحل الأول ناقدة ثقافية معنية بالسياقات الاجتماعية المحيطة بالأدب، وأثر الأنساق المعرفية الأخرى (علم النفس، والتاريخ، والآيديولوجيا... إلخ) في تشكيل وعي الإنسان الحديث، على أنها كانت أكثر اعتزازاً بكتاباتها القصصية (لها روايتان ومسرحيات ومجموعة قصص قصيرة) منها بكتبها النقدية ومقالاتها، رغم أن هذه الأخيرة هي - بما يشبه الإجماع - أكثر ما يرشحها للبقاء.
كانت سونتاغ ذات حب استطلاع ذهني ونهم إلى المعرفة لا تنقع له غلة. ويقول ابنها: «لقد كانت مهتمة بكل شيء: كانت تريد أن تخبر كل شيء، تتذوق كل شيء، تذهب إلى كل مكان، تفعل كل شيء». وفي كتابها الذي يحمل اسم «في الوقت ذاته: مقالات وأحاديث» (صدر عام 2007، بعد موتها، مع مقدمة بقلم ابنها)، نجد 16 مقالاً وحديثاً كتبتها في السنوات الأخيرة من حياتها. وفي هذه المقالات، تتناول طبيعة الأدب، وكيف أنه يحرر الإنسان، وتؤكد أن النشاط السياسي ومقاومة الظلم واجب أخلاقي، كما تتناول عدداً من الكتاب الذين وسعوا من فهمنا لأنفسنا وللعالم المحيط بنا، وتتحدث عن الصدمة التي أحدثتها هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 على برجي التجارة العالمية في نيويورك، وما أعقبها من بلاغة سياسية اقترنت بإعلان الحرب على الإرهاب.
وكان أبرز ما يميز سونتاغ هو ذلك التداخل في عملها بين الأدب والسياسة، علم الجمال والأخلاق، الحياة الداخلية والحياة الخارجية. وعند موتها، كان يشغلها عدد من الموضوعات: كتاب أوتوبيوغرافي عن المرض، ورواية مسرحها اليابان (كانت معجبة بالمعابد اليابانية)، ومجموعة قصص قصيرة، على أن الأجل لم يسعفها كي تتم هذه المشروعات. لقد أجريت لها جراحة نقل خلايا جذعية، وأصيبت بالسرطان 3 مرات، وكانت المرة الثالثة (سرطان الدم) هي القاضية. على أنه بعد موتها، نشرت يومياتها ورسائلها ومقالاتها الممتازة التي لم يسبق جمعها بين دفتي كتاب.
وتكشف كتابات سونتاغ عن رقعة واسعة من الاهتمامات، فقد كتبت عن موضوعات مختلفة، مثل أدب الرحلات وفن الترجمة الأدبية وفكرة الوحدة الأوروبية ومرض الإيدز. وتناولت أدباء من عصور ولغات وجنسيات مختلفة، مثل فلوبير ودوستويفسكي وريلكه وباسترناك وإلياس كانيتي وناتالي ساروت. وحررت مختارات من كتابات الأديب الفرنسي أنطونان ارتو، وآخر من كتابات الناقد الفرنسي رولان بارت. ومن أعمالها رواية عنوانها «عاشق البراكين»، عن قصة غرام أمير البحر الإنجليزي نلسون والليدي إيما هاملتن.
ويصور كتاب روليسون وبادوك هذه الأدبية في صورة امرأة ساعية إلى الشهرة، ويوضح الدور الذي لعبه ناشرها روجر ستراوس ووكيل أعمالها الأدبي أندرو ويلي في بناء شهرتها. ويقول المؤلفان إن الدائرة المحيطة بسونتاغ بذلت كل ما في وسعها لتحول بينها وبين الوصول إلى مصادر كتابة سيرتها، أو الاطلاع على أوراقها وخطاباتها ومذكراتها ويومياتها.
وإذا كان كتاب الزوجين روليسون وبادوك يقف من سونتاغ موقفاً أقرب إلى العدائية - سواء بالحق أو بالباطل - فإن الأوساط الأدبية تنتظر صدور كتاب آخر هو سيرة سونتاغ التي يعكف على وضعها حالياً بنيامين موزر، بموافقة أسرتها والأوصياء على تركتها، وقد وضعوا تحت تصرف موزر كل الوثائق اللازمة للنهوض بهذه المهمة. وحين تصدر هذه السيرة المرتقبة، قد يكون في مقدورنا أن نجيب عن السؤال الذي بدأت به هذه المقالة: هل كانت سونتاغ أذكى امرأة في بلدها؟ في رأيي المتواضع إنه لا معنى لوصف سونتاغ أو غيرها بأنها أذكى امرأة في أميركا. إنه تعميم جارف، والذكاء يعني أشياء كثيرة في مجالات متعددة، ليس الأدب إلا واحداً منها. هناك نساء أميركيات أخريات في القرن العشرين لسن أقل ذكاء من سونتاغ، مثل الفيلسوفة (ألمانية المولد) حنة آرنت، والروائية والناقدة ماري مكارثي، والفيلسوفة سوزان لانجر، دع عنك نابغات النساء من جنسيات أخرى، مثل سيمون دو بوفوار ويوليا كريستيفا (بلغارية المولد) في فرنسا، والروائية والفيلسوفة الإنجليزية آيريس ميردوخ في بريطانيا. لنقل إذن إن سونتاغ كانت واحدة من أذكى نساء القرن الماضي، ومن ألمع مفكريه، وكفى بذلك ثناء.



«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.