جدار الفصل الفكري والمادي

TT

جدار الفصل الفكري والمادي

يظل الجدار أو الحائط الشاهق الممتد أحد معالم بعض الحضارات الإنسانية، فلقد استُخدم على مر التاريخ بأهداف وبوسائل متعددة، فلا يخلو التاريخ القديم من هذه التركيبة المادية الهيكلية الممثلة في الجدار لحماية المؤسسة الاجتماعية والثقافية لمن بداخله من الغزو الخارجي، وقد أوردت الكتب التاريخية أمثلة عديدة على هذه الجدران، فالكاتب اليوناني «هومير» أورد أشهر هذه الجدران أو الحوائط في مدينة «طروادة» والتي حمتها على مر القرون من الغزو الخارجي، كذلك مدينة القسطنطينية والتي ظل جدارها الدفاعي حامياً لها لأكثر من ألفية، ومع ذلك فإن التاريخ الإنساني رصد حالات استُخدمت فيها الحوائط أو الجدران الممتدة ليس بغية الدفاع فقط، ولكن كأداة لحماية الدولة ثقافياً وحضارياً بل وإثنياً من الجوار الاجتماعي غير المرغوب فيه من خلال وضع فاصل مادي بين عالم وعالم. ويأتي في ذاكرتي على الفور نموذجان بارزان هما سور الصين العظيم ومن بعده «سور هيدريان» على حدود الدولة الرومانية، فهما ليسا فقط لأهداف عسكرية ولكن من وجهة نظر الآمرين ببنائهما أداة للفصل بين العالم المتحضر من ناحية وعالم الهمج أو البرابرة «Barbarians» على الأبواب من ناحية أخرى، والبربرية بمفهومها هنا مقصود بها الشعوب والقبائل غير المتحضرة، ليقي العالم المتحضر ويلات وشرور تبعات التماسّ مع عالم غير متحضر لا يليق له مخالطته، وهنا يكون السور أو الجدار أداة حماية ثقافية. ولكن المثير للاستغراب أن نموذجي حائط «هيدريان» وسور الصين العظيم انتهيا بالسقوط العسكري لمركزي الحضارة، وبل واحتلال قبائل البرابرة أراضي شاسعة من الإمبراطورية الرومانية، ونفس الشيء في الصين، ومع ذلك بقيت الحضارتان صامدتين بكل تراثهما العميق والممتد أمام جحافل «البرابرة»، ولكن الأغرب هو أن الغزاة تم غزوهم ثقافياً، فغُزي الغازي فكرياً، وهذه عظمة الحضارة والثقافة التي لا تخضع للحوائط الفكرية أو الثقافية أو القوة العسكرية، وهذه حقيقة ثابتة عبر التاريخ.
ولعلني أبدأ بهذه المقدمة الممتدة لأدخل في صلب الموضوع الحقيقي، وهو أن التاريخ لم يستحضر لنا حالة يستطيع فيها مجتمع أن يسوّر ثقافته في أي وقت من الأوقات بشكل مانع شامل، فالعملة الثقافية المرتبطة بالبناء الحضاري لا تحتاج إلى الحوائط المادية أو الفكرية لحمايتها ما دامت أساساتها قوية. وهنا أقولها صراحةً، إن أساسيات ثقافتنا العربية-الإسلامية صلبة، سواءً كنا نريد الاستناد إلى قوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، أو إخضاعها للمنهج التجريبي عبر التاريخ، فسنجد الإجابة واحدة، وهي أن التراث الثقافي والحضاري لنا قوي للغاية صمد أمام موجات الاستعمار الممتد وحركة الاستشراق الرافضة لأساسياته ومكوناته، وأنا أقصد بوضوح الجدار الثقافي الذي يسعى البعض لاصطناعه حمايةً لهذا التراث تحت شعار إما الخوف من التجديد وإما خطر التجفيف وإما الترقيق الفكري لتراثنا.
إن الثابت تاريخياً والذي لا مجال للتشكك فيه هو أن ثبات الحال من المحال، فالفكر المتطور رحمة لنا ما دام استمر على اتصال بجذوره وأساسياته. وهنا تحضرني حادثة قرأت عنها عندما سعى العباسيون لفتح أحد الأقاليم في بلاد الهند فطالب أهلُها بالمناظرة الفكرية على أسس الاستدلال العقلي بدلاً من المناجزة بالسيف، وعندما تحمس المسلمون ودخلوا فوجئوا بسؤال يبدو منطقياً لم يستطيعوا الإجابة عنه ولم يجدوا في مدارس التراث الذي كان يتكون أيَّ وسائل للإجابة عنه، وعندما سأل الخليفة عمن يرد هذا الافتراء الفكري على الله سبحانه وتعالي ودينه الحنيف تصدى لهذه المهمة المعتزلة الذين كان يُنكل بهم في السجون العباسية، فخرجوا بإجابة منطقية وهي فساد السؤال لاستحالة الاستدلال، فصد المعتزلة بدرعهم الفكري والمنطقي عن الإسلام وحصّنوه فكرياً ضد أعدائه، علماً بأن تراث الفكر الاستدلالي وعلم المنطق لم يكن صناعة عربية على الإطلاق سواء في الجاهلية أو بعد أن منّ الله علينا بالإسلام، وذلك مع قوة الدولة العباسية آنذاك، ومع ذلك حُورب المعتزلة بعد ذلك وتم تهميشهم فكرياً بشكل مخيف لصالح مدارس أخرى بلا مبرر حقيقي حتى مع تسليمنا بأن بعضهم قد تطرف فكرياً بالفعل، ولكن الثابت أيضاً هو أن التطرف سمة أصابت أغلبية المدارس الإسلامية، ومع ذلك ولم تُقوَّض المدرسة ذاتها، فالقياس لا يكون على شواذ القاعدة ولكن على متنها.
إن تشييد جدار الانعزال الفكري وما يتبعه من تمترس أو تخندق ذاتي أخطر ما يمكن أن يصيبنا في هذه المرحلة، فالجدار حتماً سيتشقق تمهيداً للتصدع ما لم نستطع أن نجاري العصر الذي نحن فيه دون الإخلال بأساسنا الفكري والثقافي والتحصن بثوابت وجذور حضارتنا، خصوصاً في زمن لا مجال فيه للانعزال بعد العولمة وثورة المعلومات والاتصالات على المستوى الدولي، فنحن لن نستطيع منع الأفكار المسمومة ضد ثقافتنا وديننا بالتخندق، ولكن بالاجتهاد والتفتح ومجاراة العصر، فالخوف من الغزو الفكري قائم، ولكن الفكرة لا تقارعها إلا الفكرة، والثقافة لا تهتز إلا بضعف فكرها ومكوناتها وعدم قدرتها على التجديد ومواكبة التقدم، فالتحصينات المادية لا تحمي من الأفكار... وأخشى أن نكون قد بدأنا نخسر هذا السجال الفكري لا لقوة أو حجة الرافضين لتراثنا وحضارتنا ولكن للخضوع الطوعي للتمترس الفكري ورفض التجديد والمنازلة بالفكرة.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم مساء السبت، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

وبعد اختتام مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر «بيت الفلسفة» بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة؛ اجتمع أعضاء «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» في مقرّها بـ«بيت الفلسفة»، وأصدروا بياناً دعوا إلى تأسيس نواة «اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية»، ومقرّه الفجيرة، وتشجيع الجمعيات على الانضمام إلى «الفيدرالية الدولية للفلسفة».

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وأكد البيان أهمية مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج العربي، مثل مشكلة الهوية وتعزيز الدراسات حولها.

ودعا للسعي إلى «الإضاءة على الفلسفة في العالم العربي وتمييزها من الفلسفة الغربية؛ لأنّ هدف بيت الفلسفة المركزي تعزيز الاعتراف بالآخر وقبوله».

كما دعا البيان إلى تعزيز دائرة عمل «حلقة الفجيرة الفلسفيّة»، بما يضمن تنوّع نشاطها وتوسّع تأثيرها؛ بدءاً بعقد جلسات وندوات شهريّة ودوريّة من بُعد وحضورياً، ومروراً بتعزيز المنشورات من موسوعات ومجلّات وكتب وغيرها، وانتهاء باختيار عاصمة عربيّة في كلّ سنة تكون مركزاً لعقد اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» بإشراف «بيت الفلسفة».

وأكد توسيع دائرة المشاركين خصوصاً من العالم الغربي؛ بحيث يُفعّل «بيت الفلسفة» دوره بوصفه جسراً للتواصل الحضاري بين العالمين العربي والغربي.

كما بيّن أهمية إصدار كتاب يجمع أعمال المؤتمرات السابقة. وبدءاً من العام المقبل سيعمد «بيت الفلسفة» إلى تعزيز الأبحاث المطوّلة في المؤتمر ونشرها في كتاب خاصّ.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة هو الأول من نوعه في العالم العربي، وتشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان: «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام التي بدأت يوم الخميس الماضي واختُتمت السبت، إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً بتعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة؛ مثل: الفلسفة، والأدب، والعلوم.

وتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطوّر الفكر المعاصر.

وخلال مؤتمر هذا العام سعى المتحدثون إلى تقديم رؤى نقدية بنّاءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث، ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي، ومفاهيم مثل «نقد النقد»، وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وعملت دورة المؤتمر لهذا العام على أن تصبح منصة غنيّة للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

وشملت دورة هذا العام من مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتُتح اليوم الأول بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، وكلمة للأمين العام للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتضمّنت أجندة اليوم الأول أربع جلسات: ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أما الجلسة الثالثة فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما ضمت الجلسة الرابعة محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، وترأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما ضمّت أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش، وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

جانب من الحضور (الشرق الأوسط)

وتكوّن برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) من ثلاث جلسات، ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، وترأست الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وضمت الجلسة الثالثة محاضرة للدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم أي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

وتكوّن برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تناولت الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي في طلاب الصف الخامس»، شارك فيها الدكتور عماد الزهراني، وشيخة الشرقي، وداليا التونسي.

وشهدت الجلسة الثانية اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفية» ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.