ثمان قصص عن الوجع العراقي

«الساحر... وقصص أخرى» لمحمود سعيد

ثمان قصص عن الوجع العراقي
TT

ثمان قصص عن الوجع العراقي

ثمان قصص عن الوجع العراقي

من منشورات دار «ضفاف» للطباعة والنشر والتوزيع هذا العام 2018، مجموعة قصصية شائقة، وُسّمت بعنوان «الساحر... وقصص أخرى» للقاص محمود سعيد، الذي تناول وعبر ثمان قصص ثيمات مختلفة الأغراض والمواضيع.
نبدأ خطوتنا الأولى، بقصة «خطوة... والموت»، حيث نطالع مأساة إنسانية، أقل ما يقال عنها «رهيبة»؛ وردت إشارات كثيرة لحوادث مرعبة مثيلة لها في غير مصدر صحافي. القصة تروي ما حدث لعائلة موصلية في الجانب الأيمن من المدينة، جرى عليها من المصائب ما لم يجر على أحد، إلا ما ندر.
العائلة المحاصرة تتكون من الأبوين، وطفليهما التوأمين اللذين لم يكملا عامهما الثاني، وقد أوهنهم الجوع والعطش، ولا يتجرأ أحد منهم على الخروج من المنزل، وإلا كانت طلقات القناص القاتلة تحصدهم، كما حصل مع الآخرين في الزقاق.
يكمل محمود سعيد سيمفونية المأساة الموصلية الرهيبة، ويسرد تفاصيل تقشعر لها الأبدان التي تتعرض لها عائلة موصلية بسبب الجوع وإرهاب «داعش»، إذ تقتل الأم برصاص قناص «داعشي» أثناء هروب العائلة، ويموت أحد الأولاد، ومن هول الصدمة يقوم الأب بدفن الولد غير المصاب، بدل شقيقه الميت، الذي يحمله على كتفه يأمل له النجاة، ولم يكتشف الأمر إلا بعد نجاته هو ووصوله إلى القوات الأمنية!
ونحن معبأون بهذا القدر من الألم والانفعال، يضعنا الكاتب مباشرة أمام قصته الثانية «الساحر»، ويبدو أنها قصة أثيرة على نفسه، لأنه وسّم بها مجموعته القصصية. ولم يكن مناسباً أبداً أن يضعها بعد القصة الأولى، ونحن ما زلنا تحت تأثير الانفعال الحزين جرّاء تفاصيل القصة الأولى، وشوّش علينا استيعاب بداية القصة الثانية المهمة. لكن باسترسالنا مع التفاصيل، ندخل جو القصة شيئاً فشيئاً.
قصة «الساحر»، عبارة عن عملية خداع كبيرة يمارسها محمود سعيد، حينما يوهمنا طوال القصة، بأنه يتكلم عن رجل عربي مريض يدعى معتوق، لنكتشف في نهاية القصة بأن معتوق هذا ليس إلا كلباً، وربما هو مسخ يعود لمعتوق الإنسان. نقتبس من القصة مثلاً من عملية الإيهام هذه: «كان صوت الرجل وهو يخاطب مريضه عميقاً هادئاً ‏قويّاً: كم مرّة قلت لك: يا معتوق، يا معتوق لا تركض وراء شهواتك؟ لماذا لا ‏تتعظْ! لا أستطيع أن أذهب بك كلّ يوم إلى طبيب! أحمد الله أنّك لم تصب ‏بالإيدز! أكّدوا لي، العمليّة بسيطة، ليست غير خمس دقائق فقط. تصوّر، ‏تخدير موضعي. ثم ماذا تريد؟ أطفالاً؟ أنسيت نفسك؟ أنت مثلي الجنس! ‏لماذا الأطفال؟ أي مثقف يريد أطفالاً؟ المجنون فقط. ما لك ووجع القلب؟ ‏أنت شاعر مرموق، فزت بجائزة كبيرة وتريد أطفالاً؟ تريد صداعاً لا ينتهي؟ كم ‏كنتَ معجباً بالمعريّ؟ كم كنت تمتدحه في مضارب الشيخ رشيد؟ أتستحقّ ‏الحياة أن نعذّب بها الآخرين؟ لماذا لم أتزوّج أنا؟ أنت تعرف؟ ألم تتّفق آراؤنا ‏على أن الحياة هباء ولا معنى لها كالموت سواء بسواء؟». هناك إيحاءات سياسية واجتماعية عميقة من خلال طرح شخصية المسخ (معتوق)، وربما أراد المؤلف عبره الإشارة إلى المواطن العربي الجديد المنبهر بالثقافة الغربية.
في قصته الثالثة «مستعمرة العظاءات» نكتشف مقدرة كبيرة للقاص في تصوير مأساتنا الإنسانية تحت نير الاحتلال الأميركي، ومن خلال نموذجين: المترجمة العراقية المغتصبة، والأسير المغربي. وبشاعة وقبح الاحتلال المغلف بالديمقراطية المزوقة.
وفي قصة «الجندي والخنازير» يبين لنا أن ما تفرقه السياسة بين أبناء البلد الواحد، تجمعه الأخوة الوطنية التي لا ينفصم عراها مهما حاولت السياسة القبيحة... وهكذا يسير بنا القاص البارع مع قصصه الجميلة الأخرى في سفر لا نريد له أن ينتهي، فننتقل معه في أماكن وخلفيات وثيمات مختلفة، لا نعدم خلالها الإثارة والانفعال والفائدة، وهذه فضيلة أن تقرأ لكاتب قدير كمحمود سعيد، يخاطب وجداننا قبل عقولنا.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟