رؤوف مسعد يستعيد الشخصية المصرية بقوة الأسطورة

أثارت رواية «زهرة الصمت» جدلاً بين نقاد ومبدعين مصريين، خلال مناقشتها، والاحتفاء بصاحبها الأديب المصري رؤوف مسعد، إذ طرحوا العديد من التساؤلات حول ما يمكن أن يكون عليه شكل الرواية، كما حاولوا تأويل رموزها وعوالمها الأسطورية والتاريخية، وما كان وراء كتابتها من أفكار وأطروحات.
ووصف الشاعر جمال القصاص «زهرة الصمت»، خلال الندوة التي أقيمت بمنتدى المستقبل يوم الثلاثاء الماضي، في مكتبة خالد محيي الدين بحزب التجمع، بأنها رواية متاهة، لكنها مغوية ومضيئة، مصرية بشطحها ونزقها ولغتها، بفصاحتها وعاميتها، ونبرتها الكلاسيكية أحيانا. وقال إننا أمام نص مفتوح بحيوية على تخوم البدايات والنهايات، لا يركن إلى البنى التقليدية، إنما يترك الوقائع والأحداث والشخوص تتشكل في إطار رؤية هي بمثابة غلالة شفيفة للحظات مدها وجذرها.
وتساءل القصاص خلال ورقته النقدية التي جاءت بعنوان «اللعب على مفاصل التاريخ والأسطورة»: هل قصد مسعد في روايته البحث عن المهمش والمسكوت عنه في الشخصية المصرية بكل تعرجاتها وامتداداتها في الزمان والمكان، وهل أراد من خلال ذلك اللعب الربط بين الماضي والحاضر، وكأنهما ظلال لأشياء انقضت، وأخرى تأتي، أو كأن الأسطورة والتاريخ في «زهرة الصمت» حريتان تتصارعان من أجل حرية واحدة هي في النهاية تشكل حلما للوطن والإنسان معاً.
أراد صاحب الرواية كل هذا، حسبما لفت القصاص إليه، لكنه خلال عمله الإبداعي لم يكتف بذلك بل زاد عليه فكرة البناء بالأسطورة، وجعلها في حالة من الموازاة والتقاطع مع الواقع في أبعاده الماضوية والراهنة فضلا عن استشرافه للمستقبل، حيث تتمدد الأسطورة كنواة أساسية لفعل القص، يوظفها مسعد لتصنع حالة متجددة من الموازاة مع الأزمنة اللاحقة عليها حتى تصل إلى الراهن المصري المعاش، وفي سياق كل ذلك تبرز أسطورة إيزيس وأوزوريس مشكلة نواة ومركز ثقل الأحداث الروائية، ومحور إيقاعها في الوقت نفسه.
وتحدث القصاص عن بناء الرواية، مشيرا إلى أن اعتماد مسعد على الأسطورة انعكس على بنيتها السردية، فصارت أشبه بلوحة نزقة مغامرة بأقصى طاقات التجديد والتجسيد، ترفض أن يسيجها إطار أو برواز، وتكسر خط الأفق، تمتلك حيويتها الخاصة بقدرتها على تجميع نفسها من شتى الشظايا في كتل وفواصل ونقط وهوامش ودوائر وخطوط وفراغات.
ولفت القصاص، إلى أن مغامرة الإبداع تفرض إزاحة السابق وتركه جانبا أحيانا، لذلك لم يتوقف مسعد باعتماده على الأسطورة فقط، بل توازى معها فكرة أخرى تكمن في قوة الظلال، التي تستبطنها الرواية وتكسوها بمسحة من التأمل ذي الطابع الفلسفي، وتلعب على حدسها في لحظات خاصة بطبيعة الصراع، فالعلاقة بين الأسطورة وظلالها، بوصفها محركا أساسيا لمجريات الصراع، تصعد وتهبط، وتتناثر في الأزمنة والأمكنة وكأنها أنشودة للخلاص بالأسطورة من سطوة التاريخ الدموي، تقلب فيه الغزاة على مصر حيث سعوا جميعا إلى التنكيل بها، وقتل الروح القومية في وجدانها وذاكرتها.
من جانبه ذكر الدكتور يسري عبد الله أن مساحات التجريب تتسع في أعمال الروائي رؤوف مسعد، وتبدو بوصفها أساساً للكتابة، ومحاولة لاختراق السائد والمألوف، وعلامة على تحولات النص الروائي لديه، والذي بلغ ذروته في عمله الإبداعي المهم «بيضة النعامة» حيث اختراق التابو والسرد السلس المتدفق، دون خوف أو وجل، وفي «مزاج التماسيح» التي تحضر في روايته الأخيرة هذه ويشير الكاتب إليها ضمن الأحداث، ويبدو واعيا باشتراطات النوع الأدبي، وآليات الخروج عليه معاً، حيث يصير شرط الكتابة ألا تكون بلا شرط، وتتجاوز القواعد المستقرة دون أن تتخلى عنها في الوقت نفسه.
وذكر عبد الله أن كل شيء في «زهرة الصمت» يبدو فضفاضا للوهلة الأولى، فالنص الذي يستلهم جانبا من التاريخ الفرعوني القديم والقبطي والعربي، يطرح جملة من الأسئلة المتعلقة بالهوية المصرية، وطبقات التراكم الحضاري لأبنائها.
والرواية، من وجهة نظر عبد الله، تجمع خليطا شتى من الأفكار والتصورات والمقابلات النصية في بنيتها السردية، تبدو للوهلة الأولى خارجة على نواميس الكتابة وطرائقها، وتظهر أحيانا بوصفها بحثا عن سؤال الهوية المراوغ، ويدعم ذلك عنوان مراوغ وضعه مسعد في مستهل روايته، وهو «كتاب الطلوع إلى النهار»، وقد حملت هذه التقديمة الدرامية لها، والتي سبقها ما سماه رؤوف بـ«الفصل الأول»، إشارة إلى أحد شخوص الرواية المركزيين وهو رمسيس النَقَادي، الذي يحيل المتلقي إلى «معجم الحضارة المصرية القديمة»، وتشكلات الروح، ومدلولاتها في التصور المصري القديم.
ويرى عبد الله أننا أمام بناء سردي يمكن أن نتلمس ملامحه وآلياته والإمساك ببنياته التي ينهض عليها، وذكر أن الرواية كان يمكن أن تبدأ، مثلا، من صفحة 22 دون أن يختل بناؤها الكلي للسرد تنهض على ما سماه جدل المرويات التاريخية والحكاية المتخيلة، فالأولى تؤسس في الرواية لمنحى تسجيلي، يتجادل معه منحى آخر يفتح السرد على أفق وسيع، تتواتر حكاياته في تضاعيفها وتتنوع، لكن يظل في القلب منها قصة الأم الكاهنة والفتاة الشابة اللتين تهربان من الغزو العربي لتمارسا ارتحالاً قلقاً ومتواترا في الزمان والمكان الروائيين، يبدأ من نجاة الأم بمعبوداتها القديمة إيزيس وأوزير وحورس، واضطرابات الديانة القبطية آنذاك، وقد راحتا تعاودان ارتحالهما مرة أخرى عقب دخول العرب مصر لتتلاقيا في لحظة درامية مفعمة بالمأساة والخوف والترقب، مع شقيق الكاهنة الذي صار أبا مسيحيا بامتياز، وكاهنا يتجمع حوله الأنصار الفارون في حصن بابليون خوفا من القادمين العرب، وهنا تتوحد المأساة الجامعة بين الكاهنة وشقيقها، وبين الفتاة التي تصاحبها، والمسيحيين الذين معه، والرومان المغايرين في المذهب والمختلفين مع القبط المصريين حول طبيعة المسيح، وقد حوت الحكاية هذه مقاطع سردية بديعة خاصة في اتكائها على الرصد النفسي للشخوص.
وعقب الأديب صبحي شحاتة مؤكدا أن الرواية بنزوعها التجريبي صنعت إشكالا مع النقاد الأكاديميين، ويبدو بناؤها المتشظي المتناثر مماثلا لجسد أوزوريس الممزق الباحث عن البعث والحياة والوحدة، إذ تبدأ بالغزو العربي لمصر وتنتهي بثورة 30 يونيو، ففي البداية تأخذ كاهنة إيزيس فتاة صغيرة تمثل المستقبل القادم، وتهرب بها عبر أنفاق ودهاليز تحت الأرض، حيث تنتهي الرواية بأن الكاهنة وأصحابها، سيعدون جسد البنت التي ماتت لتحل فيها روح إيزيس، والفتاة هنا تمثل مصر وإيزيس روح الوحدة والانسجام التي ستحل فيها وتبعثها من جديد وتقضي بذلك على الجامحين وفوضى الأرض. ورأى شحاتة أن مسعد كتب «زهرة الصمت» بعناية فائقة معتمداً في ذلك على وثائق تاريخية ملأها بالتخييل المدهش الواقعي، فبدت كل مشاهدها سريعة رشيقة غير متصلة ببعضها وغير منفصلة، مجسدة جدل الصراع بين التشتت والوحدة اللذين يمثلان طريق الروح المصرية إلى اكتمالها المقدس.
أما صاحب الرواية رؤوف مسعد فذكر أن روايته ليست وثائقية، لكنها تتحدث عن مصر الآن، قائلاً «كان هذا محيرا لي، كيف أكتب رواية عن الماضي والحاضر في آن، تتعرض لأحداث ماسبيرو، وقرية الكرمة، وتربط الماضي بالحاضر، التاريخي بما يجري ويدور من مواقف وتفاعلات يومية، بحثا عن الشخصية المصرية».
وذكر مسعد أن الرواية كان اسمها زهرة ماسبيرو، لكنه غيرها إلى اسمها الحالي، بعد أن استشعر مشكلة مع عمال المطابع، «قد تؤدي إلى وقف طباعتها».