طيور مهاجرة

نص من كتاب أملي نصر الله الجديد «الزمن الجميل» الذي صدر منذ أيام وهو يحكي قصة نشر كتابها الأول «طيور أيلول»
لا بأس، الآن، وبعد انقضاء أكثر من خمسة عقود على صدور تلك الرواية، من الاعتراف بأنّي كنتُ أكتبها في السرّ، ولم أكن أعلم ما الذي أكتبه.
كانت تلك الحرقة تتأجَّج في كِياني وتلك الكلمات تتدفَّق من داخلي و«الطيور المهاجرة» تطلب مَن يُسجِّل حكايتها.
وتفضَّلت إحدى الصديقات، فقدَّمت إليَّ غرفة في مكتبها، لبضع ساعات كلّ يوم. وكنتُ أهرب إليها من العالم وكلّ ما يشدّني إليه.
كانت أنجيل عبّود أديبة ذات أُسلوب سَلِس مميّز، خصوصاً في كتابة القصّة. وكنتُ أُحبّ ما تنشره في بعض الروايات؛ لكنّ طموح أنجيل دفع بها إلى أن تُنشئ داراً للنشر دعَتها «المؤسّسة الأهليّة» وأهملَت بعد ذلك الكتابة لتتفرَّغ للإدارة. وفي ظنِّي، أنّها أوّل امرأة في لبنان تُنشئ مثل تلك الدار، وتخصَّصت في نشر القصص والروايات. وكانت روايتي «طيور أيلول» آخر ما نشرَته، قبل أن تُقفل الدار لأسباب ماليّة.
حين كتبَت الأديبة البريطانيّة فرجينيا وولف كتابها الشهير «غرفة من أجلها» عام 1928 وعالجَت فيه مشكلة المرأة الكاتبة، وعدم توافُر الغرفة الخاصّة بها، كانت تكتب عن كلّ امرأة تحمل قلماً في زمانها وفي كلّ زمان.
ولن أنسى أنّ أنجيل وفَّرَت لي تلك الغرفة في مبنى اللعازاريّة حيث كان مكتبها. وكنتُ أحرص على الحضور يومياً، وبعدما أفرغ من واجباتي العائليّة والصحافية، فأمضي فترة من الوقت في ذلك العالم السرّي الذي أدخلتني إليه الرواية، كلمة إثر كلمة.
وحين لم يتوافر لي مَن ينشر العمل الأوّل لكاتبة غير معروفة، تقدَّمَت أنجيل وأخذَت المبادرة في النشر، وذلك بعدما قرأتها وأحبَّتها، واقتنعت بأنّها تستحقّ أن تُنشر.
وبفضل حماستها، حصلت الرواية على جائزة أصدقاء الكتاب مناصفة مع رواية الدكتور سهيل إدريس «أصابعنا التي تحترق».
فأنا لم أكُن متحمّسة لتقديم عملي لمشرحة التقويم والتقدير، وذلك ليس بسبب الخوف من الفشل، بل إيماناً منّي بأنّ الكاتب لا يحمل عمله ويعرضه على اللجان والجوائز؛ لكنّ أنجيل كانت شديدة الحماسة للرواية، ومُؤمنة بتميُّز هذا العمل، وبالتالي، قدَّمَته هي، باسم «المؤسّسة الأهليّة» حين لم أُوافق على تقديمه بنفسي.
وأذكر أنّها أرسلَت طلب الترشيح في 30 أيلول عام 1962، وكان آخر موعد لاستقبال الترشيحات. يومذاك، تركتُ لها المَهمَّة، وحملتُ طفليَّ: رمزي ومها، وصعدنا لزيارة الأهل في الجبل: زحلة أوّلاً، ثمّ الكفَير.
وكنتُ في القرية التي أوحَت إليَّ بكتابة «طيور أيلول» حين تبلغتُ خبر فوزي بجائزتَين: جائزة أصدقاء الكتاب، وجائزة سعيد عقل.
في تلك الأيّام، كانت خطوط التلفون بين المناطق وبيروت، سالكة. لذا وصل الخبر إلى الكفَير، وتبلغه عامل السنترال فنقله إليَّ على الشكل التالي:
- صحيفة «لسان الحال» اتّصلَت، تطلب إليكِ أن تكلِّميهم، فوراً.
كان زوجي فيليب مسافراً خارج لبنان. وأوَّل ما خطر لي أنّ حادثاً ما قد حصل. وهم لذلك يستدعونَني، فأُصبتُ برعب شديد. ولم يهدَأ بالي إلّا بعدما اتّصلتُ بالصحيفة وسألت: «ما الخبر؟»...
وأذكر أنّ الردّ جاء من الزميل ظافر تميم وكان مسؤولاً عن الصفحة الثقافيّة. صوته المرح، طمأَنَني. وتابع سَرد الخبر، وكأنّه يُغنِّي من شدّة الفرح:
- مبروك فوزك بالجائزتَين. نُريدكِ أن تحضري إلى بيروت، لنُجري معك الحديث الأوّل. نحن في انتظارك في مكاتب الجريدة.
>>>
كم كانت سخيّة معي الصحافة!
وكم غمرَتني بالمحبّة وهي تُذيع نبَأ الفوز.
حتّى الذين فاجأهم فوز الزميلة الصحافيّة، بجائزة الرواية، كتبوا عنها بمحبّة.
ووجدتُني، بلا سعي أو قَصد، تحت أضواء قضيتُ عمري أتهرَّب منها. وكانت صلاتي آنذاك، ولا تزال تتردَّد في كلّ موقف يلوح فيه نجاح أو انتصار:
- يا ربّ، اجعلني مستحقّة...