نازحون في شمال لبنان: بلداتنا السورية باتت مستعمرات محتلة

مئات الأمتار، وفي بعض الحالات كيلومترات قليلة، تفصل عشرات آلاف النازحين السوريين المقيمين في شمال لبنان عن بلداتهم وقراهم وأرزاقهم القريبة من الحدود اللبنانية؛ بلدات باتت بكاملها تحت سيطرة ميليشيات سورية وعراقية ولبنانية موالية للنظام.
كآبة المشهد وتعقيداته، التي توحي باستحالة التفكير في العودة في المدى المنظور، لا تحمل هؤلاء النازحين على فقدان أمل العودة، ولو بعد حين، إلى أرضهم وبيوتهم.
روايات هؤلاء تكاد تبدأ ولا تنتهي، فالمهندس عابد سليمان، ابن بلدة البرهانية السورية الحدودية، يعايش هذا الواقع الأليم يومياً؛ يكفي أنه فقد كل شيء: بعض أبنائه وأهله الذين قتلهم النظام بقصف بيته. «أنا غائب عن البرهانية جسداً، لكن روحي تسكن هناك»، يقول لـ«الشرق الأوسط». ويضيف: «هناك طفولتي ونشأتي وحياتي وأهلي، هناك التربة التي جبلت عليها، هواء بلدتي لا يزال يسكن أنفاسي، رغم سنوات الغيبة، وأكثر من ذلك هناك ابني عمر وابن أخي محمود ووالدي، الذين قضوا بقصف الملجأ الذي أوينا إليه، ودفنتهم على عجل قبل أن نفر أنا وإخوتي بمن تبقى من عائلاتنا على عجل تحت جنح الظلام».
صحيح أن بلدة البرهانية تبعد 11 كيلومتراً عن حدود لبنان، ولا ترى بالعين المجردة، لكن أخبارها تتواتر دائماً إلى أبنائها النازحين. ويؤكد المهندس عابد سليمان أن «80 في المائة من البيوت دمرت عمداً، بل إن المحتلين قطعوا الأشجار المثمرة، وحولوها إلى فحم للمتاجرة به»، ويتابع: «لقد اقتلعوا بستاني الذي يحوي 300 شجرة من الجوز والتفاح والخوخ والكرز لمجرد الانتقام... ممارسات قلما فعلها الصهاينة في فلسطين المحتلة؛ إنه الحقد الأعمى».
ويكشف عابد سليمان أن بعض رفاقه الموجودين في نقابة المهندسين في حمص نصحوه بالعودة، ومزاولة مهنته في مدينة حمص، كما فعل كثيرون غيره، لكنه يجيبهم: «صحيح ما مت، بس شفت مين مات»، ملمحاً إلى من استدرجوا قبله للعودة، وسرعان ما تعرضوا إما للاعتقال أو الإخفاء أو التصفية الفورية.
وعلى قياس البرهانية وأهلها، ثمة نماذج كثيرة وصور متشابهة، لدى محمد عبد الستار، ابن بلدة سرقجة الواقعة غرب مدينة القصير، بعضٌ منها... فالرجل المقيم في إحدى بلدات جبل أكروم (شمال لبنان) يؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن بلدته «باتت مسكونة بكاملها من عائلات سورية وعراقية ولبنانية»، ويقول إن «شيعة سوريا أتوا من منطقة الوعر في ريف حمص الشرقي، حيث تركوا بلداتهم القاحلة قليلة المياه، وانتقلوا إلى بلداتنا الزراعية الخصبة، مستغلين جغرافيتها، كونها منطقة حدودية تمكنهم من التهريب بين لبنان وسوريا عبر ممرات يعرفونها، وهي محمية من ميليشياتهم».
ويشير عبد الساتر إلى أن البلدات الحدودية مع لبنان «تقع تحت الإدارة المباشرة لـ(حزب الله) الذي يقيم مراكز عسكرية وأمنية، ويتولى إدارة المنطقة وفض الخلافات الناشئة بين الوافدين الذين يتنازعون السيطرة على أرضنا لاستثمارها وزراعتها، بعدما حولوها إلى مستعمرات محتلة يتصرفون بها على مرأى أصحابها الموجودين على المقلب اللبناني، ولا تبعدهم عنها سوى مئات الأمتار»، ويتابع: «منذ أن خرجنا، بل أخرجنا تحت القصف، شعرنا أننا أمام مخطط تهجير جهنمي، فالميليشيات التي احتلت بلداتنا نهبت بيوتنا ومحالنا التجارية ومصانعنا، ثم عمدوا إلى إحراق بعضها وهدم البعض الآخر حتى لا يبقى لدينا أمل بالعودة إليها».
ويبدو أن تلك الممارسات لا تقتصر على البلدات السنية، إنما شملت بعض القرى العلوية الموجودة في ريف حمص، حيث يشير محمد الأسود إلى أن العلويين «باتوا راغبين بعودة العرب إلى بلداتهم ومنازلهم، بعدما ضاقوا ذرعاً بتصرفات الميليشيات الإيرانية، لأن تلك المنطقة تحولت إلى مرتع للمسلحين، وملاذ لآلاف المطلوبين لدى الدولة اللبنانية».
وينقل الأسود عن أصدقاء علويين له أن مسلحي الميليشيات الشيعية «يزعمون أنهم هم من يحميهم من القتل والذبح، ويقولون: لولانا، لكنتم قد ذبحتم على يد السنة، ولكان نظامكم قد سقط في السنة الأولى للثورة»، ويؤكد أن خاله «متزوج بفتاة علوية من أبناء قرى اللاذقية. ومنذ شهر تقريباً، حصل على إذن رسمي من النظام للعودة إلى بلدته (سرقجة)، لكن الميليشيات منعته وحذرته من العودة، وقالت له: إذا بدك تسكن هون، خلي النظام يجي يحميك. وهو ما اعتبره تهديداً له بالتصفية».
كانت القرى السورية القريبة من حدود لبنان الشمالية قد تعرضت للتهجير القسري منذ مطلع صيف عام 2013، إبان معركة القصير التي سقطت بيد قوات النظام و«حزب الله» في شهر يوليو (تموز) 2013، بعدما تحولت إلى ركام تحت القصف الجوي والمدفعي والصاروخي.
أما جاسم خلف، أحد أبناء بلدة تلكلخ القريبة من الحدود اللبنانية، المقيم مع عائلته في منطقة وادي خالد اللبنانية، فيتحدث بمرارة عن واقع بلدته، ويشير إلى «استحالة دخول أي شخص خرج من المنطقة خلال المعارك، لأن كل شاب أو رجل خرج من المنطقة بات بنظر النظام عدواً إرهابياً»، مؤكداً أن «كل من يدخل أو يخرج من وإلى تلكلخ، عبر معبر العبودية، لديهم أذونات عبور دائمة من النظام الذي يستخدمهم كمخبرين، ويوظفهم لاستدراج بعض المعارضين لاعتقالهم وتصفيتهم».