ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

وسط الاقتتال الداخلي والشائعات عن عودة «القاعدة»

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري
TT

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

يزداد وضع القوة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي الراديكالي المسلح في شمال غربي سوريا تعقيداً. وتشهد مناطق في محافظة إدلب تأجج حدة التوترات، عوضاً عن توحّد الساحة العسكرية بعد هزيمة تنظيم داعش والهجوم الذي تشنه قوات بشار الأسد والميليشيات الداعمة لها على المحافظة ومدينة إدلب عاصمتها الإدارية. إذ اندلعت المواجهات من جديد بين مختلف التنظيمات مع انقسام «هيئة تحرير الشام» إلى فصائل متناحرة لكل منها جدول أعمالها الخاص.
بدأت في الأيام الأخيرة «جبهة تحرير سوريا» هجماتها الواسعة على مقار ومعسكرات «هيئة تحرير الشام»، التي تضم ضمن مَن تضم «جبهة النصرة» سابقاً - المرتبطة بدورها بتنظيم «القاعدة» - إلى الغرب من مدينة حلب، كبرى مدن شمال سوريا. وجاء هذا التطوّر في أعقاب إعلان التشكيل العسكري الجديد المؤلف من «حركة نور الدين زنكي» و«حركة أحرار الشام». وأفاد ناشطون بأن الهجوم سبقته موجة اتهامات متبادلة بشأن عمليات قتل وتصفية.
الشيخ حسن دغيم، الخبير في شؤون الحركات الراديكالية السورية، ذكر أن الحرب بين «حركة نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» كانت قد اندلعت منذ ثلاثة أشهر. وتجدّدت أخيراً الاشتباكات بين «جبهة تحرير سوريا» - التي بات تضم حركتي «زنكي» و«أحرار الشام» - ويقاتل معهم تنظيم «صقور الشام»، ولقد وصلت الاشتباكات حتى إدلب.
ومن ناحية ثانية، يشير الشيخ رامي الدالاتي، وهو أيضاً متخصص في الحركات الراديكالية السورية، إلى «أن الوضع الحالي يشهد صراعاً فصائلياً في محاولة لمناكفة هيئة تحرير الشام من قبل الفصائل التي تعتبر أقل درجة إن صح القول، مثل أحرار الشام. وهذه الأخيرة تسعى للتواصل مع الفصيل المتمرد من الهيئة، ونعني نور الدين زنكي، ولقد شكل الفريقان معا جبهة تحرير سوريا». ويتابع الدالاتي: «الحقيقة أن جبهة تحرير سوريا ليست جبهة مندمجة فعلياً بل هي عبارة عن اتفاقية دفاع مشترك بين الفريقين. فهي شُكلت بدافع التصدي، أو انطلاقاً من شعور خوف متصاعد تجاه هجوم قد تشنه عليها هيئة تحرير الشام».

مخاوف و«مناكفة»؟
ويضيف الدالاتي «أن هيئة تحرير الشام تشعر بخوف حقيقي من تنظيم زنكي الذي يملك بالإضافة إلى القوة العسكرية، ولو المتواضعة، ثقلاً اجتماعياً خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرته مثل غرب حلب، وهي مناطق منظمة بشكل دقيق. وهذا ما يشكل تحديا لهيئة تحرير الشام. وبالتالي، يحاول الزنكي أن يتسبب بمناكفة لهيئة تحرير الشام بغية تفعيل موقعه في العلاقة مع الأتراك، ولكي تتم استشارته في إدخال القوات التركية التي لا تزال حتى الآن تدخل سوريا فقط عن طريق هيئة تحرير الشام».
هذا، وفي سياق الاتهامات المتبادلة، تدّعي «هيئة تحرير الشام» أنها اعتقلت بعض العناصر من «حركة نور الدين زنكي» نفذوا عمليات اغتيال، وهو أمر تنفيه الحركة. كذلك تدعي «الهيئة» أن «زنكي» أدخلت إلى إدلب مجموعة تتألف من 120 شاباً من جيش الثوار الموالي للأكراد في مناطق «جيب» عفرين بهدف اغتيال شخصيات من «الهيئة». وعلى الرغم من أن «حركة نور الدين زنكي» تنكر هذه الادعاءات، «فإن من الصعوبة بمكان أن تتمكن هكذا مجموعة من العبور من عفرين إلى حلب أو إدلب من دون المرور بأراضي زنكي»، كما يقول الشيخ الدالاتي.

وساطات «شرعية»
من جهة ثانية، كان لعدد من المشايخ والدعاة البارزين محاولات كثيرة لإنهاء القتال الدائر بين «هيئة تحرير الشام» و«حركة نور الدين الزنكي» في الشمال السوري المحرَّر. وبحسب «الدرر الشامية»، كتب الداعية عبد الرزاق المهدي في منشور على قناته «تليغرام» تفاصيل ما حدث أثناء لقاء قادة «زنكي» و«الهيئة». ومما جاء في المنشور أنه حضر الجلسات الشيخ عبد الله المحيسني، والشيخ مصلح العلياني، والشيخ أبو محمد الصادق. وأكد المنشور أنه «قياماً بالواجب الشرعي على طلاب العلم والمصلحين، انطلقنا لنستمع للأطراف المتنازعة أي هيئة تحرير الشام وحركة نور الدين الزنكي، وكنا قد اتفقنا أن نسعى لزيارة الطرفين حقناً للدماء وحفظاً للساحة من الضياع».
الجدير بالإشارة، أن الخلاف بين حركة «نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» ليس الخلاف الوحيد الذي تشهده الساحة الراديكالية السورية، وتحديداً في شمال غربي سوريا. ولقد عزا نشطاء ومعارضون الخسائر الملحقة إلى انسحاب مسلحي «الهيئة» من المنطقة وتخليها عنها لصالح نظام الأسد، فوفق الناشط إبراهيم إدلبي: «بدلاً من القتال، سلِّمت هيئة تحرير الشام الأراضي للقوات الموالية لنظام الرئيس (بشار) الأسد». أما الخبير حايد حايد، من مركز تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث، فيرى أن «تراجع الهيئة يصب ضمن استراتيجية أوسع لحماية المناطق الواقعة غربي خطة سكة الحديد (سكة حديد حلب - دمشق)، ومن أجل توطيد السلطة في المناطق الأخرى التي تعتبرها أكثر حساسية».
ومن الواضح، أن الخسائر العسكرية ساهمت في تفاقم المشكلات الداخلية ضمن «هيئة تحرير الشام» بعد انفصالها عن تنظيمها الأم - أي تنظيم القاعدة، الذي أعقبه حلقات متتالية من إعادة التسمية ومن اعتقال طال حركيين بارزين في صفوفها. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) أوقفت «الهيئة» بتوقيف الشيخ الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب الأردني» اللذين كانا من أبرز الشخصيات الحركية في «الهيئة»، قبل أن يجري إطلاقهما لاحقا. وبالإضافة إلى الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب»، جرى اعتقال أعضاء بارزين آخرين هم «أبو خديجة الأردني» و«أبو مصعب الليبي»، وفق الشيخ حسن دغيم. وجاءت هذه الاعتقالات بعد حملة طويلة من الاغتيالات الغامضة استهدفت أعضاء «هيئة تحرير الشام».

تحوّل براغماتي؟
وفي هذا الصدد يوثق حايد حايد 35 اغتيالاً ضد أعضاء المنظمة، بينما يقول حسن أبو هنية، الخبير في شؤون «القاعدة» إن «هذه الاغتيالات استهدفت أشد المعارضين الذين تصدّوا للتحوّل البراغماتي الذي سعى إليه أبو محمد الجولاني». وللتذكير، فإن «جبهة النصرة» كانت قد أعلنت في يوليو (تموز) 2016 انفصالها عن تنظيمها الأم، أي تنظيم «القاعدة»، وبدأت العمل تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، قبل أن تتخذ تسميتها الجديدة في يناير (كانون الثاني) 2017.
أما جهود الجولاني الساعية لإضفاء صبغة براغماتية على «الهيئة» فلم تتوقف عند الانفصال عن تنظيم القاعدة فحسب، بل أدت أيضا إلى تقارب مع تركيا. ففي أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، عبرت قوات الاستطلاع التركية محافظة إدلب ضمن المرحلة الأولى من عملية «تهدئة» الانتشار مع مرافقة وحراسة مسلحة من «هيئة تحرير الشام». وفي فبراير (شباط) الماضي تناقل مؤيدون لـ«الهيئة» شريط فيديو لأحد رجال الدين وهو يشرح قواعد تعاون «الهيئة» مع تركيا، غير أن هذا الفيديو ما لبث أن حُذف.

ارتباك وشرذمة تنظيميين
في أي حال، يمكن القول إن تحوّل «هيئة تحرير الشام» من تنظيم راديكالي متشدّد إلى منظمة براغماتية بعيدة عن «القاعدة»، وتفاوضها مع قوى إقليمية مثل تركيا، أديا إلى شرذمة المشهد في إدلب. ذلك أن عدداً من المجموعات مثل «جند الملاحم» و«جيش البادية» انفصل عن «الهيئة»، ولو أنه «ليس لهذه التنظيمات أي ثقل حقيقي أو قبول اجتماعي، وهي في الحقيقة أقرب لمجموعات القاعدة، من دون أن تكون فعليا من «القاعدة» وفق الشيخ الدالاتي. وحول هذه النقطة، يشرح الشيخ دغيم فيقول إن العريدي و«أبو جليبيب» جدّدا بيعتهم لـ«القاعدة» وسميا جماعتهما بـ«أنصار الفرقان»، أما «شباب جند الأقصى» فسموا أنفسهم «جند الملاحم»، في حين اختار فريق ثالث لا يريد لا الجولاني ولا العريدي أن يسموا أنفسهم «جيش البادية». ومن جانبه، يفيد إدلبي أن جميع هذه المشكلات «أدت إلى تقليص إلى حد كبير قوى هيئة تحرير الشام إلى نحو 5 آلاف مقاتل»، و«هذه المجموعات المنشقة تدين كلها بولائها لتنظيم القاعدة» وفق أبو هنية.

خطر عودة «القاعدة»
عودة إلى الدالاتي، فإنه يقول إن مجموعة «أبو جليبيب الأردني» وسامي العريدي و«أبو القسام الأردني» انشقت وحاولت أن تعيد إنشاء «القاعدة» الأصلي بقيادة «أبو همام السوري» إلا أنها لم توفق بذلك. وكانت «الهيئة» حادة في منع قيام مشروع «القاعدة» مرة أخرى على الأراضي السورية، ولذا اعتقلت «أبو جليبيب» والعريدي وأفهمتهما رسالة حازمة قبل أن تطلق سراحهما. وبالتالي، منع نشوء تنظيم لـ«القاعدة» في الشمال السوري، وأتباع هذين الحركيين رغم أنهم موجدون في الشمال السوري فهم لا يحظون بقبول شعبي كبير، ولا سيما أن أفراد هذه المجموعات انقسموا على أنفسهم بنتيجة تباين مواقف «أبو همام» والعريدي.
إلا أنه ووفقاً لمصادر مطلعة في إدلب، ما زال بإمكان «القاعدة» الاستفادة من الارتباك والشرذمة ومحاولة توحيد هذه الجماعات تحت راية واحدة. ويُعتقَد أن التنظيم الأساسي لـ«القاعدة» أرسل بالفعل أن حمزة، أحد أبناء زعيم «القاعدة» السابق الراحل أسامة بن لادن، إلى سوريا. وثمة من يزعم أنه موجود الآن في درعا، بيد أن أبو هنية وحايد لم يتمكنا من تأكيد الخبر. وفي هذا الصدد، اعتبر أبو هنية «أن حمزة بن لادن مرتبط بإيران والقاعدة في سوريا، ويمكن أن يصبح في نهاية المطاف أداة في يد طهران، وأن يلعب ضد المصالح الأميركية في شمال سوريا». ويعتقد أن حمزة بن لادن عاش وتزوج في إيران قبل أن ينضم إلى والده في أفغانستان ومن ثم يعبر إلى الأراضي السورية مع سيف العدل.
وتعليقا على ذلك، ينفي الشيخ دالاتي تماماً وجود ابن لادن في سوريا، ويعتبر الأمر مجرد شائعة لا أساس لها من الصحة. ومن ثم يشرح «أن المجموعة القاعدية التي انتشرت في سوريا لها علاقة بسيف العدل الموجود في إيران وهي على تواصل واضح معه. أما وجود حمزة بن لادن في سوريا فغير دقيق إطلاقاً».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».