ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

وسط الاقتتال الداخلي والشائعات عن عودة «القاعدة»

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري
TT

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

يزداد وضع القوة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي الراديكالي المسلح في شمال غربي سوريا تعقيداً. وتشهد مناطق في محافظة إدلب تأجج حدة التوترات، عوضاً عن توحّد الساحة العسكرية بعد هزيمة تنظيم داعش والهجوم الذي تشنه قوات بشار الأسد والميليشيات الداعمة لها على المحافظة ومدينة إدلب عاصمتها الإدارية. إذ اندلعت المواجهات من جديد بين مختلف التنظيمات مع انقسام «هيئة تحرير الشام» إلى فصائل متناحرة لكل منها جدول أعمالها الخاص.
بدأت في الأيام الأخيرة «جبهة تحرير سوريا» هجماتها الواسعة على مقار ومعسكرات «هيئة تحرير الشام»، التي تضم ضمن مَن تضم «جبهة النصرة» سابقاً - المرتبطة بدورها بتنظيم «القاعدة» - إلى الغرب من مدينة حلب، كبرى مدن شمال سوريا. وجاء هذا التطوّر في أعقاب إعلان التشكيل العسكري الجديد المؤلف من «حركة نور الدين زنكي» و«حركة أحرار الشام». وأفاد ناشطون بأن الهجوم سبقته موجة اتهامات متبادلة بشأن عمليات قتل وتصفية.
الشيخ حسن دغيم، الخبير في شؤون الحركات الراديكالية السورية، ذكر أن الحرب بين «حركة نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» كانت قد اندلعت منذ ثلاثة أشهر. وتجدّدت أخيراً الاشتباكات بين «جبهة تحرير سوريا» - التي بات تضم حركتي «زنكي» و«أحرار الشام» - ويقاتل معهم تنظيم «صقور الشام»، ولقد وصلت الاشتباكات حتى إدلب.
ومن ناحية ثانية، يشير الشيخ رامي الدالاتي، وهو أيضاً متخصص في الحركات الراديكالية السورية، إلى «أن الوضع الحالي يشهد صراعاً فصائلياً في محاولة لمناكفة هيئة تحرير الشام من قبل الفصائل التي تعتبر أقل درجة إن صح القول، مثل أحرار الشام. وهذه الأخيرة تسعى للتواصل مع الفصيل المتمرد من الهيئة، ونعني نور الدين زنكي، ولقد شكل الفريقان معا جبهة تحرير سوريا». ويتابع الدالاتي: «الحقيقة أن جبهة تحرير سوريا ليست جبهة مندمجة فعلياً بل هي عبارة عن اتفاقية دفاع مشترك بين الفريقين. فهي شُكلت بدافع التصدي، أو انطلاقاً من شعور خوف متصاعد تجاه هجوم قد تشنه عليها هيئة تحرير الشام».

مخاوف و«مناكفة»؟
ويضيف الدالاتي «أن هيئة تحرير الشام تشعر بخوف حقيقي من تنظيم زنكي الذي يملك بالإضافة إلى القوة العسكرية، ولو المتواضعة، ثقلاً اجتماعياً خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرته مثل غرب حلب، وهي مناطق منظمة بشكل دقيق. وهذا ما يشكل تحديا لهيئة تحرير الشام. وبالتالي، يحاول الزنكي أن يتسبب بمناكفة لهيئة تحرير الشام بغية تفعيل موقعه في العلاقة مع الأتراك، ولكي تتم استشارته في إدخال القوات التركية التي لا تزال حتى الآن تدخل سوريا فقط عن طريق هيئة تحرير الشام».
هذا، وفي سياق الاتهامات المتبادلة، تدّعي «هيئة تحرير الشام» أنها اعتقلت بعض العناصر من «حركة نور الدين زنكي» نفذوا عمليات اغتيال، وهو أمر تنفيه الحركة. كذلك تدعي «الهيئة» أن «زنكي» أدخلت إلى إدلب مجموعة تتألف من 120 شاباً من جيش الثوار الموالي للأكراد في مناطق «جيب» عفرين بهدف اغتيال شخصيات من «الهيئة». وعلى الرغم من أن «حركة نور الدين زنكي» تنكر هذه الادعاءات، «فإن من الصعوبة بمكان أن تتمكن هكذا مجموعة من العبور من عفرين إلى حلب أو إدلب من دون المرور بأراضي زنكي»، كما يقول الشيخ الدالاتي.

وساطات «شرعية»
من جهة ثانية، كان لعدد من المشايخ والدعاة البارزين محاولات كثيرة لإنهاء القتال الدائر بين «هيئة تحرير الشام» و«حركة نور الدين الزنكي» في الشمال السوري المحرَّر. وبحسب «الدرر الشامية»، كتب الداعية عبد الرزاق المهدي في منشور على قناته «تليغرام» تفاصيل ما حدث أثناء لقاء قادة «زنكي» و«الهيئة». ومما جاء في المنشور أنه حضر الجلسات الشيخ عبد الله المحيسني، والشيخ مصلح العلياني، والشيخ أبو محمد الصادق. وأكد المنشور أنه «قياماً بالواجب الشرعي على طلاب العلم والمصلحين، انطلقنا لنستمع للأطراف المتنازعة أي هيئة تحرير الشام وحركة نور الدين الزنكي، وكنا قد اتفقنا أن نسعى لزيارة الطرفين حقناً للدماء وحفظاً للساحة من الضياع».
الجدير بالإشارة، أن الخلاف بين حركة «نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» ليس الخلاف الوحيد الذي تشهده الساحة الراديكالية السورية، وتحديداً في شمال غربي سوريا. ولقد عزا نشطاء ومعارضون الخسائر الملحقة إلى انسحاب مسلحي «الهيئة» من المنطقة وتخليها عنها لصالح نظام الأسد، فوفق الناشط إبراهيم إدلبي: «بدلاً من القتال، سلِّمت هيئة تحرير الشام الأراضي للقوات الموالية لنظام الرئيس (بشار) الأسد». أما الخبير حايد حايد، من مركز تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث، فيرى أن «تراجع الهيئة يصب ضمن استراتيجية أوسع لحماية المناطق الواقعة غربي خطة سكة الحديد (سكة حديد حلب - دمشق)، ومن أجل توطيد السلطة في المناطق الأخرى التي تعتبرها أكثر حساسية».
ومن الواضح، أن الخسائر العسكرية ساهمت في تفاقم المشكلات الداخلية ضمن «هيئة تحرير الشام» بعد انفصالها عن تنظيمها الأم - أي تنظيم القاعدة، الذي أعقبه حلقات متتالية من إعادة التسمية ومن اعتقال طال حركيين بارزين في صفوفها. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) أوقفت «الهيئة» بتوقيف الشيخ الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب الأردني» اللذين كانا من أبرز الشخصيات الحركية في «الهيئة»، قبل أن يجري إطلاقهما لاحقا. وبالإضافة إلى الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب»، جرى اعتقال أعضاء بارزين آخرين هم «أبو خديجة الأردني» و«أبو مصعب الليبي»، وفق الشيخ حسن دغيم. وجاءت هذه الاعتقالات بعد حملة طويلة من الاغتيالات الغامضة استهدفت أعضاء «هيئة تحرير الشام».

تحوّل براغماتي؟
وفي هذا الصدد يوثق حايد حايد 35 اغتيالاً ضد أعضاء المنظمة، بينما يقول حسن أبو هنية، الخبير في شؤون «القاعدة» إن «هذه الاغتيالات استهدفت أشد المعارضين الذين تصدّوا للتحوّل البراغماتي الذي سعى إليه أبو محمد الجولاني». وللتذكير، فإن «جبهة النصرة» كانت قد أعلنت في يوليو (تموز) 2016 انفصالها عن تنظيمها الأم، أي تنظيم «القاعدة»، وبدأت العمل تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، قبل أن تتخذ تسميتها الجديدة في يناير (كانون الثاني) 2017.
أما جهود الجولاني الساعية لإضفاء صبغة براغماتية على «الهيئة» فلم تتوقف عند الانفصال عن تنظيم القاعدة فحسب، بل أدت أيضا إلى تقارب مع تركيا. ففي أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، عبرت قوات الاستطلاع التركية محافظة إدلب ضمن المرحلة الأولى من عملية «تهدئة» الانتشار مع مرافقة وحراسة مسلحة من «هيئة تحرير الشام». وفي فبراير (شباط) الماضي تناقل مؤيدون لـ«الهيئة» شريط فيديو لأحد رجال الدين وهو يشرح قواعد تعاون «الهيئة» مع تركيا، غير أن هذا الفيديو ما لبث أن حُذف.

ارتباك وشرذمة تنظيميين
في أي حال، يمكن القول إن تحوّل «هيئة تحرير الشام» من تنظيم راديكالي متشدّد إلى منظمة براغماتية بعيدة عن «القاعدة»، وتفاوضها مع قوى إقليمية مثل تركيا، أديا إلى شرذمة المشهد في إدلب. ذلك أن عدداً من المجموعات مثل «جند الملاحم» و«جيش البادية» انفصل عن «الهيئة»، ولو أنه «ليس لهذه التنظيمات أي ثقل حقيقي أو قبول اجتماعي، وهي في الحقيقة أقرب لمجموعات القاعدة، من دون أن تكون فعليا من «القاعدة» وفق الشيخ الدالاتي. وحول هذه النقطة، يشرح الشيخ دغيم فيقول إن العريدي و«أبو جليبيب» جدّدا بيعتهم لـ«القاعدة» وسميا جماعتهما بـ«أنصار الفرقان»، أما «شباب جند الأقصى» فسموا أنفسهم «جند الملاحم»، في حين اختار فريق ثالث لا يريد لا الجولاني ولا العريدي أن يسموا أنفسهم «جيش البادية». ومن جانبه، يفيد إدلبي أن جميع هذه المشكلات «أدت إلى تقليص إلى حد كبير قوى هيئة تحرير الشام إلى نحو 5 آلاف مقاتل»، و«هذه المجموعات المنشقة تدين كلها بولائها لتنظيم القاعدة» وفق أبو هنية.

خطر عودة «القاعدة»
عودة إلى الدالاتي، فإنه يقول إن مجموعة «أبو جليبيب الأردني» وسامي العريدي و«أبو القسام الأردني» انشقت وحاولت أن تعيد إنشاء «القاعدة» الأصلي بقيادة «أبو همام السوري» إلا أنها لم توفق بذلك. وكانت «الهيئة» حادة في منع قيام مشروع «القاعدة» مرة أخرى على الأراضي السورية، ولذا اعتقلت «أبو جليبيب» والعريدي وأفهمتهما رسالة حازمة قبل أن تطلق سراحهما. وبالتالي، منع نشوء تنظيم لـ«القاعدة» في الشمال السوري، وأتباع هذين الحركيين رغم أنهم موجدون في الشمال السوري فهم لا يحظون بقبول شعبي كبير، ولا سيما أن أفراد هذه المجموعات انقسموا على أنفسهم بنتيجة تباين مواقف «أبو همام» والعريدي.
إلا أنه ووفقاً لمصادر مطلعة في إدلب، ما زال بإمكان «القاعدة» الاستفادة من الارتباك والشرذمة ومحاولة توحيد هذه الجماعات تحت راية واحدة. ويُعتقَد أن التنظيم الأساسي لـ«القاعدة» أرسل بالفعل أن حمزة، أحد أبناء زعيم «القاعدة» السابق الراحل أسامة بن لادن، إلى سوريا. وثمة من يزعم أنه موجود الآن في درعا، بيد أن أبو هنية وحايد لم يتمكنا من تأكيد الخبر. وفي هذا الصدد، اعتبر أبو هنية «أن حمزة بن لادن مرتبط بإيران والقاعدة في سوريا، ويمكن أن يصبح في نهاية المطاف أداة في يد طهران، وأن يلعب ضد المصالح الأميركية في شمال سوريا». ويعتقد أن حمزة بن لادن عاش وتزوج في إيران قبل أن ينضم إلى والده في أفغانستان ومن ثم يعبر إلى الأراضي السورية مع سيف العدل.
وتعليقا على ذلك، ينفي الشيخ دالاتي تماماً وجود ابن لادن في سوريا، ويعتبر الأمر مجرد شائعة لا أساس لها من الصحة. ومن ثم يشرح «أن المجموعة القاعدية التي انتشرت في سوريا لها علاقة بسيف العدل الموجود في إيران وهي على تواصل واضح معه. أما وجود حمزة بن لادن في سوريا فغير دقيق إطلاقاً».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.