فهد بن سعود الدغيثر.. نموذج فريد في الانضباط ومدرسة مستقلة في الإدارة

لا يذكر معهد الإدارة العامة في السعودية إلا ويظهر اسمه.. و«فكر» كلمة السر في عمله

فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
TT

فهد بن سعود الدغيثر.. نموذج فريد في الانضباط ومدرسة مستقلة في الإدارة

فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط

في عام 1965م أصدر مجلس الوزراء السعودي برئاسة نائب رئيس المجلس آنذاك الأمير (الملك) خالد بن عبد العزيز قرارا يقضي بتعيين الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، خلفا للأستاذ محمد أبا الخيل، الذي تعين وكيلا لوزارة المالية والاقتصاد الوطني، بعد أن أدار المعهد طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام، شهدت بدايات التأسيس ووضع الأسس العامة للمعهد. هذه الثقة التي نالها الدغيثر جعلته يواصل عمله الإداري الذي تميز به وعرف عنه، وليضع بصمة لا يمحوها الزمن في التاريخ الإداري السعودي بقطاعيه العام والخاص، إذ أدار بجدارة وفي وقت مبكر من عمره مصلحة الإحصاءات العامة، ثم معهد الإدارة العامة مدة 14 عاما، وتولى الإشراف على مصلحة الجمارك ونقلها نقلة إدارية شهد له بها الجميع.

في القطاع الخاص، أدار الدغيثر بكل همة واقتدار الشركة العقارية السعودية، التي ولدت في حضنه وترعرعت على يديه في فترة الطفرة الأولى، والتي قدمت لمدينة الرياض نماذج راقية ومشرفة بمشاريعها الإسكانية والتجارية، مما سيأتي تناوله في هذه السيرة، التي تطرحها «الشرق الأوسط» بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الرجل الإداري الكبير، الذي خسره وطنه إداريا فذا في حياته، قبل أن يخسره برحيله الأخير إلى جوار ربه.

* المولد والنشأة

* ولد فهد الدغيثر في حي «الشرقية» أحد الأحياء التي كانت تشكل الرياض القديمة، وذلك في عام 1936م. وهو ينتمي إلى عائلة كبيرة وعريقة ذات تاريخ وشأن في أحداث منطقة العارض وما جاورها منذ ثلاثة قرون. وكان جده عبد الله أحد قادة الدولة السعودية الثالثة ومن الرجال المقاتلين الذين شاركوا الملك عبد العزيز ملحمة التأسيس والتوحيد والبناء، فقد شارك في عدة معارك، من أهمها «البكيرية»، وتوفي عام 1955م ودفن بجوار الملك عبد العزيز، في مقبرة العود.
وكان والده سعود الدغيثر وجيها من وجهاء مدينة الرياض ومن الجلساء المقربين للأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز، وكان نائب رئيس المجلس البلدي في أول تشكيل له، وقد اهتم سعود الدغيثر بأبنائه وحرص على تعليمهم وتأهيلهم لما فيه خدمة الوطن، وسيرة فهد ومنجزاته وأعماله تعكس هذا الاهتمام، حيث أدخله والده بدءا في معهد أنجال ولي العهد، ثم بعث به إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، وكانت مقصدا لطالب العلم الذي كان يرغب في مواصلة تعليمه في الآداب والعلوم الشرعية، لكن فهد لم يَرُق له المقام في هذه المدرسة، فكان طموحه أن يتعلم اللغة الإنجليزية وأن يدرس العلوم الطبيعية، لذلك حزم أمره وصمم على مغادرة دار التوحيد بعد أن أمضى فيها شهورا، وتوجه إلى لبنان، الساحرة حينذاك، التي تضم في سهولها وجبالها عددا من الطلاب السعوديين، ممن يدرسون الطب والهندسة والسياسة والإدارة والاجتماع وغيرها من تخصصات لم تكن موجودة في بلادهم السعودية. انضم فهد الدغيثر فور وصوله إلى لبنان إلى المدرسة المتوسطة والثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. ويذكر زميله في الدراسة الأستاذ تركي الخالد السديري أن فهدا كان جادا في دراسته، ولم يكن يلعب معهم كرة القدم، كان فقط يشتري الصحف والمجلات ويقرأها بنهم شديد.
بعد أن تخرج في الثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت عام 1951م قرر أن يواصل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في القاهرة وليس بيروت، كأنما أراد أن يتنفس هواء الحرية في بيروت ويستنشق عبيرها في مرحلة الشباب الباكر، وأن يظفر بما بقي من مجتمع الثقافة والآداب والفنون في القاهرة قبل أن ينحسر مجده، ذاك حينما كانت القاهرة تعيش أعز وأرقى فتراتها ليبرالية وتنويرا وإشعاعا حضاريا.
وصل فهد الدغيثر إلى القاهرة وانتظم في الجامعة الأميركية متخصصا في الاقتصاد، وقد نال الشهادة في عام 1955م وخلال سنوات دراسته الجامعية عايش في القاهرة وشاهد مسرحها الثقافي العربي الكبير، الذي اتسع لكل آمال المهاجرين وقاصديها من طلبة ودارسين، فكان لتعليمه الأولي في لبنان ودراسته الجامعية في القاهرة الأثر الكبير في تكوين شخصيته، بما عرف عنها لاحقا من صرامة وجدية، وحزم وعزم في العمل الإداري، مع روح شابة مرحة رافقته طيلة المسيرة، وتواضع جم كبير، لا يدركه إلا من تعامل معه عن قرب.
بعد عودته من القاهرة توجه فهد الدغيثر إلى العمل في مؤسسة النقد العربي السعودي بوظيفة «باحث اقتصادي» وفي المؤسسة المصرفية الكبرى، تعرف على طبيعة العمل الإداري والمالي، وما يواجهه من تحديات وما يتطلبه من تحديث وتطوير في أنظمته. ولا شك أنه حقق نجاحات في مؤسسة النقد جعلت الشيخ عبد الله بن عدوان وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصاد الوطني، يصدر قرارا بتاريخ 18 - 5 - 1380هـ (1960م) بنقل خدمات الموظف فهد الدغيثر، الذي يعمل في المرتبة الرابعة في مؤسسة النقد إلى الإدارة العامة للشؤون الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني بالمرتبة ذاتها، وبراتب شهري قدره ألف ومائتا ريال. في هذا الموقع الإداري الجديد، وضع فهد الدغيثر أولى خطواته للمساهمة الإدارية الوطنية الفذة، حينما أسندت إليه إدارة الدراسات الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم بعد عامين أصبح مديرا عاما لمصلحة الإحصاءات العامة وهو في الـ27 من عمره، وفي هذه المصلحة قام الدغيثر بعمل أول تعداد للسعوديين والمقيمين، غير أن هذا الإحصاء المبكر لم يفصح عنه، بل بقي رقما خاصا لدى المصلحة، وكان السبب في عدم الإفصاح عنه هو ما أظهرته الأرقام من قلة عدد السكان حينذاك!

* إلى معهد الإدارة

* بعد أن أسس الدغيثر مصلحة الإحصاءات العامة ووضع أسسها وأنظمتها، ومارست دورها في إجراء أول تعدد سكاني تحت إشرافه، ودع هذه المصلحة إلى معهد الإدارة العامة للعمل مساعدا للمدير العام الشيخ محمد أبا الخيل، وذلك في عام 1964م لأشهر معدودات، ليصبح بعدها وفي السنة ذاتها مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة ولمدة 14 عاما، ارتبط المعهد باسمه واقترن به حتى بعد أن غادره، إذ لا يذكر المعهد اليوم إلا ويذكر الدغيثر، فهو المؤسس الثاني للمعهد وباني أنظمته، ومؤسس مكتبته الشامخة، الفريدة والمتميزة في العالم العربي.
جاء تأسيس معهد الإدارة العامة استجابة لتوصيات شركة «فورد» الأميركية التي استقدمتها الحكومة السعودية لدراسة الوضع الإداري المتدني، وتقديم الحلول الممكنة في الإصلاح الإداري والمالي وتطوير القوى العاملة في الدولة، فكان ثمة توصيات مهمة في هذا الجانب منها إنشاء المعهد ومشروع إنشاء أجهزة حكومية خارج عباءة البيروقراطية وغيرها. وقد أصدر الملك سعود عام 1960م مرسوما ملكيا بالموافقة على نظام المعهد، الذي من أبرز مهامه رفع كفاية موظفي القطاع العام وتدريبهم، والمساهمة في التنظيم الإداري للحكومة وإجراء البحوث الإدارية وغيرها. وقد ربط المعهد ماليا وتنظيميا بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، وكان من حسن حظ المعهد وحظ مديره العام أن تولى رئاسة المجلس لمدة 13 عاما الأمير مساعد بن عبد الرحمن، وزير المالية والاقتصاد الوطني، والمدرسة الإدارية الفذة والمؤسس الأول والحقيقي لمعهد الإدارة العامة والحاضن والداعم للمواهب والكفايات الإدارية السعودية، فكان وجوده على رأس مجلس الإدارة خير داعم للمدير العام كي ينطلق نحو تنفيذ وتحقيق الأهداف العامة للمعهد دون أي عوائق، وهذا ما وجده محمد أبا الخيل ثم فهد الدغيثر في سنواته التي قضاها مديرا عاما للمعهد، حيث شهد المعهد في فترة إدارة فهد الدغيثر توسعا كبيرا وتنظيما جديدا نتيجة لتنوع البرامج التي جرى استحداثها والإدارات التي جرى إنشاؤها، فقد استُحدثت إدارة مستقلة لمكتبة المعهد وإدارة خاصة بمركز الوثائق كما جرى تأسيس مركز اللغة الإنجليزية ومركز البحوث والاستشارات الإدارية، الذي يمد خدماته واستشاراته ليس للجهات الحكومية السعودية فحسب، بل إلى عدد من دول الخليج وكثير من المنظمات العربية والإسلامية. كما جرى في عهد الدغيثر استحداث إدارة البرامج الإعدادية وإدارة البرامج العليا ومركز الوسائل السمع بصرية. كما جرى إنشاء برنامج خاص في المعهد يقدم دورة مكثفة في الأنظمة السعودية، مدته سنتان لخريجي كليات الشريعة، بحيث يتمكنون من العمل بعد البرنامج مستشارين قانونيين في الوزارات. يقول غازي القصيبي: «طلب مني الصديق الأستاذ فهد الدغيثر أن أشرف على هذا البرنامج. كانت المهمة تحديا مثيرا إلى أبعد الحدود، وقد أعطاني فهد كل الصلاحيات المطلوبة ووقف معي في كل خطوة من الطريق. وضعت مفردات المنهج بالتشاور مع عدد من المختصين، واتفقت مع بعض الزملاء السعوديين على التدريس فيه. سافرت إلى القاهرة للتعاقد مع أساتذة جامعيين مصريين. كان البرنامج يقتصر على تدريس الأنظمة السعودية المطبقة في البلاد، ولم تكن له أي علاقة بقوانين أجنبية غير إسلامية، إلا أن بعض الأخوة الكرام المشتغلين بالعلوم الشرعية لم يتمكنوا من فهم طبيعة البرنامج وتصوّروه مقدمة لتطبيق القوانين الأجنبية الوضعية في المملكة. كنت خلال الإعداد للبرنامج قد اجتمعت بعدد من هؤلاء الإخوة، ولاحظت هذا القلق، وتحدثت عن البرنامج بإسهاب، وتصورت أنني نجحت في إزالة مخاوفهم. حقيقة الأمر أنني لم أنجح في هذا المسعى». ورغم أن غازي القصيبي لم ينجح في مسعاه، فإن البرنامج أخذ طريقه بفضل جهود الدغيثر، الذي لم يتراجع ولم يتضعضع له كاهل أمام تلك المطالبات والنداءات التي شوهت صورة البرنامج وعملت جهدها على إيقافه. واليوم، فإن أغلب المستشارين القانونيين في وزارات الدولة هم من خريجي هذا البرنامج، الذي أسسه الدغيثر قبل تأسيس قسم القانون في جامعة الملك سعود بسنوات، فكان أن سد البرنامج فراغا كبيرا في قطاع الاستشارات القانونية والمحاماة في أجهزة الدولة المختلفة. كما اهتم الدغيثر ببرنامج الابتعاث لموظفي ومدربي المعهد، حتى إنه في سنة من السنوات كان عدد المبتعثين من معهد الإدارة يفوق عددهم ممن ابتعثتهم وزارة المعارف، حينما كانت هي المسؤولة عن الابتعاث.
كان فهد الدغيثر حازما وحاسما في إدارته للمعهد، يأتي للمعهد في ساعة مبكرة جدا، وكان يسبق موظفي المعهد في الحضور، ليبدأ بتفقد قاعات التدريب بنفسه ثم يزور الموظفين وأعضاء هيئة التدريب في مكاتبهم، ويكتب لكل موظف غير موجود في مكتبه ورقة صغيرة: «صباح الخير.. فهد الدغيثر»، وينصرف! ويذكر الدكتور هلال العسكر، أحد أعضاء هيئة التدريب في المعهد، أنه حضر ذات يوم إلى المعهد مبكرا وقبل بدء الدوام بساعة، فوجئ بأن مدير عام المعهد في حديقة المعهد يقلم أشجارها! فسأله: أنت يا صاحب المعالي من يقلم الأشجار؟ أين العمال؟ فرد عليه: كلنا عمال! فباشر الدكتور هلال العمل معه من الساعة السادسة والنصف إلى السابعة والنصف، موعد بدء الدوام!
كان الدغيثر عمليا إلى أبعد حد، لا تستهويه المظاهر، ولا يحبذ لبس المشالح، لذلك كان كثيرا ما يكون في مكتبه أو في اجتماعاته أو في جولاته الصباحية حاسر الرأس، وقد فوجئ الشاب إبراهيم المنيف حينما تقدم إلى مكتب المدير العام طالبا وظيفة في منتصف الستينات ووجد الدغيثر من دون غترة أو عقال. يقول المنيف: «هذه ظاهرة أراها لأول مرة لمدير عام مسؤول دون غترة وعقال! لا شك أنه أبهرني بلطفه وأسئلته الذكية عن تمكني من اللغة الإنجليزية. أذهلني تواضعه وسرعته في اتخاذ القرار الذي قدمه باتصاله مع مدير عام الشؤون المالية والإدارية صالح العمير، الذي وجهني إلى مدير شؤون الموظفين محمد الطويل، وفي اليوم نفسه توجهت لإجراء الفحص الطبي في مستشفى الشميسي».
وذات مرة في أواخر الستينات كان فهد الدغيثر يرأس اجتماعا في المعهد، وكان كعادته حاسر الرأس، وإذا بسكرتيره يخبره همسا بأن الأمير نايف بن عبد العزيز قدم إلى المعهد في زيارة خاصة، ولم يكن الأمير نايف وقتها قد تعين نائبا لوزير الداخلية، فما كان من فهد الدغيثر إلا أن نزل مسرعا ليستقبل ضيفه الذي قدم دون موعد مسبق، فاستقبل الدغيثر الأمير نايف دون غترة وعقال! واعتذر له بأنه كان في اجتماع لإدارة المعهد، فقال له الأمير نايف إنني جئت لزيارتكم نظرا لما سمعته عن المعهد من تميز في برامجه، وإنني أرغب الانضمام إلى برنامج اللغة الإنجليزية، فأخذه الدغيثر إلى مدير برنامج اللغة الإنجليزية، الذي شرح له البرنامج ومدة كل دورة، فعرض الأمير نايف على الدغيثر الانصراف إلى عمله إن أراد، فانصرف الدغيثر ليواصل اجتماعه.
لذلك كان المعهد طيلة وجود الدغيثر نموذجا فريدا في الانضباط. كانت فلسفته الإدارية أنه لكي تضبط حضور موظفيك، عليك أن تحضر مبكرا وتخرج بعدهم! يقول الدكتور المنيف عن تلك المرحلة: «أعتقد جازما أنه لم يأتِ قائد إداري مماثل له، من حيث قدراته الإدارية المميزة، التي أسست جذورا في معهد الإدارة العامة في التركيز الشديد على الوقت والالتزام به بشكل لافت، فالحضور والدوام وبدء المحاضرة يكون بالدقيقة، ودون تأخر لأي أستاذ أو طالب مهما كانت الظروف. هذه ظاهرة أسسها فهد الدغيثر وبقيت من بعده، واستدامت بكل تجذر دون منازع».
كان معهد الإدارة العامة في عهد فهد الدغيثر أول جهة حكومية تطبق نظام المكاتب المفتوحة في أغلب إداراته، خاصة المكتبة. يقول الدكتور المنيف، الذي تولى إدارة مكتبة المعهد: «ساهمت سيدة فاضلة أميركية شابة تحمل الماجستير في علم المكتبات وزوجة أحد الخبراء الاقتصاديين من لبنان، بوزارة المالية آنذاك، بالعمل معي في المكتبة المفتوحة دون سواتر أو قواطع، وضمن فريق العمل. كانت هذه السيدة تحضر يوميا إلى مكتبة المعهد بملابسها العادية وفستانها القصير، وتعمل معنا أنا وزملائي أحمد المعجل وعبد الله العوهلي ومصطفى السدحان وعبد الرحمن الجويرة، بمكاتبنا المفتوحة أمام جميع مرتادي المكتبة، الذين كان عدد كبير منهم من العاملين في المعاهد الدينية العليا. أتذكر جيدا أن أحد كبار المديرين وأصبح وكيلا لوزارة العدل لاحقا ممن كان ببرنامج اللغة الإنجليزية، والإدارة المتوسطة بوظيفة مدير عام، يتردد يوميا على المكتبة حينذاك، لم يقل شيئا ولم أسمع منه أو من غيره أي ملاحظة أو تعليق على وجود هذه السيدة معنا».
من الإسهامات المهمة لفهد الدغيثر في معهد الإدارة بناء وتأسيس مكتبة المعهد وتزويدها بكل المراجع الخاصة في الاقتصاد وعلم الإدارة باللغتين، العربية والإنجليزية، حتى غدت المكتبة فريدة من نوعها في العالم العربي، ومعلمة ثقافية في مدينة الرياض يزورها ضيوف الدولة من سياسيين وغيرهم، وقد تعرضت المكتبة لهجوم عنيف من عدد من المتشددين في منتصف السبعينات بوصفها تضم كتبا شيوعية وقد شكلت لجنة أبطلت تلك الادعاءات.
وطيلة عمل الدغيثر في إدارة المعهد كان يضع على مكتبة لوحة مكتوب عليها كلمة واحدة فقط، هي: «فكر»! وبإجمال فإن المحامي محمد الهوشان يوجز دور معهد الإدارة ودور قائده الدغيثر، بقوله: «ما كان للإدارة الحكومية أن تصل إلى ما وصلت إليه من تطور، لولا هذا المعهد العتيد، الذي أرسى قواعده الفقيد».

* في الجمارك أيضا

* أثناء انهماك فهد الدغيثر في عمله في معهد الإدارة العامة وفي ذروة إنتاجه وعطائه، خاصة بعد أن تحسنت موارد الدولة في مطلع السبعينات الميلادية، وزادت ميزانية المعهد عما كانت عليه من قبل، كلفه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني بالعمل مشرفا عاما على مصلحة الجمارك العامة، إضافة إلى عمله مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، وذلك نتيجة لما كانت تشهده مصلحة الجمارك من مشكلات مالية وإدارية تفاقمت عبر السنين، فلم يجد الأمير مساعد بدا من تكليف الدغيثر، الذي نهض بالمعهد وأوقفه على قدميه صرحا إداريا، فقبل الدغيثر التحدي الكبير وتوجه إلى مصلحة الجمارك العامة، محملا بخبرته الإدارية الكبيرة وبحزمه وعزمه وصرامته المعهودة وعدم مجاملته لأي أحد، مهما كان، على حساب العمل والنظام.
في فترة زمنية وجيزة نهضت مصلحة الجمارك العامة من سباتها، وانحلت مشاكلها المالية والإدارية، وأصبحت نموذجا من نماذج الإدارات الحكومية المميزة، حيث أعاد الدغيثر هيكلتها وأرسى فيها قواعد وأنظمة للعمل الإداري المنظم، ولم يستثن أحدا من نظام الجمارك طيلة عمله مشرفا عليها.

* إلى القطاع الخاص

* مع كل هذه الإنجازات الإدارية الفذة التي برع فيها الدغيثر على مدى 20 عاما من العمل الحكومي، ورغم تفانيه ووطنيه التي شهد له بها الجميع، إلا أنه آثر الخروج من العمل الحكومي برغبته واختياره، رغم إلحاح الكثيرين عليه من أصدقاء وزملاء، ورغم ما يمثله خروجه من خسارة كبرى في الإدارة السعودية، الذي كان هو أحد بناتها ومرسيي دعائمها، ورغم أنه عرض عليه - كما يقول أصدقاؤه - العمل وزيرا للصحة، إلا أنه قد عزم أمره بالرحيل، فكان له ذلك في عام 1978م.
ويعلل الأستاذ تركي الخالد السديري سبب خروج الدغيثر من العمل الحكومي بأنه نتيجة للتحولات التي طرأت على المشهد المحلي، من الناحية الإدارية والمالية، حيث جرى في عام 1975م تشكيل مجلس وزراء جديد خرج منه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني، والذراع اليمنى للملك فيصل بن عبد العزيز في تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري، إضافة إلى الصعود الكبير في أسعار النفط، وبالتالي الارتفاع غير المعهود في واردات الميزانية، وكان لهذه التحولات أثر سلبي على مسيرة برنامج الإصلاح الإداري، إذ بحكم الوفرة المالية أصبح التركيز يجري على الجانب الكمي على حساب النوعية.
يقول الأستاذ تركي الخالد السديري: «أهملت في هذا المضمار البدائل التنظيمية الأفضل لتنفيذ تلك المشاريع، وخاصة ما له صلة بحسن الأداء في غالبية ما كان يبذل من أنشطة إدارية وفنية ذات الصلة بما يدور ضمنها بتلك المرحلة»، حيث أخذ برنامج الإصلاح الإداري في التراجع بصورة تدريجية، وجرى الاستغناء عن خبراء مؤسسة «فورد». يضيف السديري قائلا: «تابع الأخ فهد عن كثب هذه التحولات بحكم صلته الوثيقة بالبرنامج وما كان يمكن أن يحققه في مراحل أخرى مقبلة، لو استمر على ذات المنوال، وفي ضوء ذلك اختار الأخ فهد النأي بنفسه نهائيا عن مسؤوليات العمل الرسمي عندما طلب إحالته للتقاعد».
ورغم أنه تقاعد وغادر العمل الحكومي، فإنه أرسى دعائم مؤسسة إدارية فريدة، كان لها طلابها المخلصون، الذين تأثروا به واقتفوا أثره، منهم على سبيل المثال مطلب النفيسة ومحمد الطويل وصالح العمير وعبد الرحمن أبو حيمد وحمد الرشودي ومنصور عبد الغفار وحمد الشاوي وعبد الرحمن الشقاوي، وغيرهم ممن تسنموا مناصب إدارية قيادية عالية في الإدارة السعودية.
وكانت الحكومة السعودية قد أسست الشركة العقارية السعودية في عام 1976م، وقد أصدر ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك الأمير (الملك) فهد بن عبد العزيز قرارا بتعيين الأستاذ فهد الدغيثر رئيسا لمجلس إدارة الشركة ورئيسا تنفيذيا لها. ومن أبرز أهدافها تملك الأراضي وتطويرها وإقامة المباني السكنية والتجارية وشراء وإنتاج المواد والمعدات اللازمة للبناء وبيعها وتأجيرها. وجرى طرح عدد من أسهمها في السوق المالية، وقد مكث الدغيثر عشرة أعوام في هذه الشركة حققت خلالها كثيرا من المنجزات والقفزات المتتالية، ومن أبرز المشاريع التي وقف الدغيثر عليها بنفسه وأشرف على قيامها مشروع عقارية الستين، وكذلك مشروع بناء 1500 وحدة سكنية في العليا مع مشروع عقارية العليا رقم 1 وعقارية العليا رقم 2. كما جرى تنفيذ عقارية الستين الثانية، وتنفيذ عدد من الوحدات السكنية في حي السفارات، وكذلك مشروع شارع الضباب، وغيرها من مشاريع.
وفي منتصف الثمانينات، قرر الدغيثر أن يتفرغ لنفسه ولأبنائه، فغادر الشركة العقارية بعد أن بناها بنفسه وتعهدها بالرعاية والاهتمام، وظل حتى انتقاله إلى جوار ربه (صيف 2012م) موئلا ومقصدا لأصدقائه ومحبيه والمعجبين به يستقبلهم في منزله في حي النموذجية، وانهمك في القراءة المتنوعة، ويحتفظ بمكتبة منزلية قل نظيرها. وطيلة مسيرته تزوج مرتين؛ الأولى مضاوي الدغيثر، وبعد فراق تزوج الجوهرة آل الشيخ، وأنجب من الأبناء والبنات زياد وعماد وفؤاد وسعود وبدر وعبد الله ونوف وفدوى. وقد درس جميع أبنائه في الجامعات الغربية على نفقته الخاصة رافضا ابتعاثهم على نفقة الحكومة كي لا يأخذوا مقاعد هناك من الشباب السعوديين هناك من يستحقها أكثر منهم! وحينما كان ابنه زياد يدرس في أميركا مطلع الثمانينات تعرف إلى شاب سعودي يدرس على حسابه الخاص، فرغب هذا الشاب من زياد أن يطلب من والده أن يسعى له بإلحاقه بالبعثة السعودية، فجرى له ذلك خلال أقل من أسبوع! واليوم ورغم ضخامة برنامج الملك عبد الله للابتعاث، إلا أنه ابنه عبد الله يدرس في جامعة جنوب كاليفورنيا على نفقة والده، للسبب ذاته، وهو أن لا يأخذ مقعدا هناك من هو هناك أولى منه به!
إن سيرة ومسيرة فهد الدغيثر يختصرها صديقه أمير نجران الأسبق الأستاذ فهد الخالد السديري بقوله: «كان عملاقا في نزاهته، متمكنا في حسن إدارته، ضالعا في الخبرة والموهبة الاقتصادية، وكلما تذكرت إنسانيته ووفاءه وكرمه زادت الحسرة عليه».



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.