فهد بن سعود الدغيثر.. نموذج فريد في الانضباط ومدرسة مستقلة في الإدارة

لا يذكر معهد الإدارة العامة في السعودية إلا ويظهر اسمه.. و«فكر» كلمة السر في عمله

فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
TT

فهد بن سعود الدغيثر.. نموذج فريد في الانضباط ومدرسة مستقلة في الإدارة

فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط
فهد الدغيثر والزعيم اللبناني كمال جنبلاط

في عام 1965م أصدر مجلس الوزراء السعودي برئاسة نائب رئيس المجلس آنذاك الأمير (الملك) خالد بن عبد العزيز قرارا يقضي بتعيين الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، خلفا للأستاذ محمد أبا الخيل، الذي تعين وكيلا لوزارة المالية والاقتصاد الوطني، بعد أن أدار المعهد طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام، شهدت بدايات التأسيس ووضع الأسس العامة للمعهد. هذه الثقة التي نالها الدغيثر جعلته يواصل عمله الإداري الذي تميز به وعرف عنه، وليضع بصمة لا يمحوها الزمن في التاريخ الإداري السعودي بقطاعيه العام والخاص، إذ أدار بجدارة وفي وقت مبكر من عمره مصلحة الإحصاءات العامة، ثم معهد الإدارة العامة مدة 14 عاما، وتولى الإشراف على مصلحة الجمارك ونقلها نقلة إدارية شهد له بها الجميع.

في القطاع الخاص، أدار الدغيثر بكل همة واقتدار الشركة العقارية السعودية، التي ولدت في حضنه وترعرعت على يديه في فترة الطفرة الأولى، والتي قدمت لمدينة الرياض نماذج راقية ومشرفة بمشاريعها الإسكانية والتجارية، مما سيأتي تناوله في هذه السيرة، التي تطرحها «الشرق الأوسط» بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الرجل الإداري الكبير، الذي خسره وطنه إداريا فذا في حياته، قبل أن يخسره برحيله الأخير إلى جوار ربه.

* المولد والنشأة

* ولد فهد الدغيثر في حي «الشرقية» أحد الأحياء التي كانت تشكل الرياض القديمة، وذلك في عام 1936م. وهو ينتمي إلى عائلة كبيرة وعريقة ذات تاريخ وشأن في أحداث منطقة العارض وما جاورها منذ ثلاثة قرون. وكان جده عبد الله أحد قادة الدولة السعودية الثالثة ومن الرجال المقاتلين الذين شاركوا الملك عبد العزيز ملحمة التأسيس والتوحيد والبناء، فقد شارك في عدة معارك، من أهمها «البكيرية»، وتوفي عام 1955م ودفن بجوار الملك عبد العزيز، في مقبرة العود.
وكان والده سعود الدغيثر وجيها من وجهاء مدينة الرياض ومن الجلساء المقربين للأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز، وكان نائب رئيس المجلس البلدي في أول تشكيل له، وقد اهتم سعود الدغيثر بأبنائه وحرص على تعليمهم وتأهيلهم لما فيه خدمة الوطن، وسيرة فهد ومنجزاته وأعماله تعكس هذا الاهتمام، حيث أدخله والده بدءا في معهد أنجال ولي العهد، ثم بعث به إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، وكانت مقصدا لطالب العلم الذي كان يرغب في مواصلة تعليمه في الآداب والعلوم الشرعية، لكن فهد لم يَرُق له المقام في هذه المدرسة، فكان طموحه أن يتعلم اللغة الإنجليزية وأن يدرس العلوم الطبيعية، لذلك حزم أمره وصمم على مغادرة دار التوحيد بعد أن أمضى فيها شهورا، وتوجه إلى لبنان، الساحرة حينذاك، التي تضم في سهولها وجبالها عددا من الطلاب السعوديين، ممن يدرسون الطب والهندسة والسياسة والإدارة والاجتماع وغيرها من تخصصات لم تكن موجودة في بلادهم السعودية. انضم فهد الدغيثر فور وصوله إلى لبنان إلى المدرسة المتوسطة والثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. ويذكر زميله في الدراسة الأستاذ تركي الخالد السديري أن فهدا كان جادا في دراسته، ولم يكن يلعب معهم كرة القدم، كان فقط يشتري الصحف والمجلات ويقرأها بنهم شديد.
بعد أن تخرج في الثانوية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت عام 1951م قرر أن يواصل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في القاهرة وليس بيروت، كأنما أراد أن يتنفس هواء الحرية في بيروت ويستنشق عبيرها في مرحلة الشباب الباكر، وأن يظفر بما بقي من مجتمع الثقافة والآداب والفنون في القاهرة قبل أن ينحسر مجده، ذاك حينما كانت القاهرة تعيش أعز وأرقى فتراتها ليبرالية وتنويرا وإشعاعا حضاريا.
وصل فهد الدغيثر إلى القاهرة وانتظم في الجامعة الأميركية متخصصا في الاقتصاد، وقد نال الشهادة في عام 1955م وخلال سنوات دراسته الجامعية عايش في القاهرة وشاهد مسرحها الثقافي العربي الكبير، الذي اتسع لكل آمال المهاجرين وقاصديها من طلبة ودارسين، فكان لتعليمه الأولي في لبنان ودراسته الجامعية في القاهرة الأثر الكبير في تكوين شخصيته، بما عرف عنها لاحقا من صرامة وجدية، وحزم وعزم في العمل الإداري، مع روح شابة مرحة رافقته طيلة المسيرة، وتواضع جم كبير، لا يدركه إلا من تعامل معه عن قرب.
بعد عودته من القاهرة توجه فهد الدغيثر إلى العمل في مؤسسة النقد العربي السعودي بوظيفة «باحث اقتصادي» وفي المؤسسة المصرفية الكبرى، تعرف على طبيعة العمل الإداري والمالي، وما يواجهه من تحديات وما يتطلبه من تحديث وتطوير في أنظمته. ولا شك أنه حقق نجاحات في مؤسسة النقد جعلت الشيخ عبد الله بن عدوان وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصاد الوطني، يصدر قرارا بتاريخ 18 - 5 - 1380هـ (1960م) بنقل خدمات الموظف فهد الدغيثر، الذي يعمل في المرتبة الرابعة في مؤسسة النقد إلى الإدارة العامة للشؤون الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني بالمرتبة ذاتها، وبراتب شهري قدره ألف ومائتا ريال. في هذا الموقع الإداري الجديد، وضع فهد الدغيثر أولى خطواته للمساهمة الإدارية الوطنية الفذة، حينما أسندت إليه إدارة الدراسات الاقتصادية في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم بعد عامين أصبح مديرا عاما لمصلحة الإحصاءات العامة وهو في الـ27 من عمره، وفي هذه المصلحة قام الدغيثر بعمل أول تعداد للسعوديين والمقيمين، غير أن هذا الإحصاء المبكر لم يفصح عنه، بل بقي رقما خاصا لدى المصلحة، وكان السبب في عدم الإفصاح عنه هو ما أظهرته الأرقام من قلة عدد السكان حينذاك!

* إلى معهد الإدارة

* بعد أن أسس الدغيثر مصلحة الإحصاءات العامة ووضع أسسها وأنظمتها، ومارست دورها في إجراء أول تعدد سكاني تحت إشرافه، ودع هذه المصلحة إلى معهد الإدارة العامة للعمل مساعدا للمدير العام الشيخ محمد أبا الخيل، وذلك في عام 1964م لأشهر معدودات، ليصبح بعدها وفي السنة ذاتها مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة ولمدة 14 عاما، ارتبط المعهد باسمه واقترن به حتى بعد أن غادره، إذ لا يذكر المعهد اليوم إلا ويذكر الدغيثر، فهو المؤسس الثاني للمعهد وباني أنظمته، ومؤسس مكتبته الشامخة، الفريدة والمتميزة في العالم العربي.
جاء تأسيس معهد الإدارة العامة استجابة لتوصيات شركة «فورد» الأميركية التي استقدمتها الحكومة السعودية لدراسة الوضع الإداري المتدني، وتقديم الحلول الممكنة في الإصلاح الإداري والمالي وتطوير القوى العاملة في الدولة، فكان ثمة توصيات مهمة في هذا الجانب منها إنشاء المعهد ومشروع إنشاء أجهزة حكومية خارج عباءة البيروقراطية وغيرها. وقد أصدر الملك سعود عام 1960م مرسوما ملكيا بالموافقة على نظام المعهد، الذي من أبرز مهامه رفع كفاية موظفي القطاع العام وتدريبهم، والمساهمة في التنظيم الإداري للحكومة وإجراء البحوث الإدارية وغيرها. وقد ربط المعهد ماليا وتنظيميا بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، وكان من حسن حظ المعهد وحظ مديره العام أن تولى رئاسة المجلس لمدة 13 عاما الأمير مساعد بن عبد الرحمن، وزير المالية والاقتصاد الوطني، والمدرسة الإدارية الفذة والمؤسس الأول والحقيقي لمعهد الإدارة العامة والحاضن والداعم للمواهب والكفايات الإدارية السعودية، فكان وجوده على رأس مجلس الإدارة خير داعم للمدير العام كي ينطلق نحو تنفيذ وتحقيق الأهداف العامة للمعهد دون أي عوائق، وهذا ما وجده محمد أبا الخيل ثم فهد الدغيثر في سنواته التي قضاها مديرا عاما للمعهد، حيث شهد المعهد في فترة إدارة فهد الدغيثر توسعا كبيرا وتنظيما جديدا نتيجة لتنوع البرامج التي جرى استحداثها والإدارات التي جرى إنشاؤها، فقد استُحدثت إدارة مستقلة لمكتبة المعهد وإدارة خاصة بمركز الوثائق كما جرى تأسيس مركز اللغة الإنجليزية ومركز البحوث والاستشارات الإدارية، الذي يمد خدماته واستشاراته ليس للجهات الحكومية السعودية فحسب، بل إلى عدد من دول الخليج وكثير من المنظمات العربية والإسلامية. كما جرى في عهد الدغيثر استحداث إدارة البرامج الإعدادية وإدارة البرامج العليا ومركز الوسائل السمع بصرية. كما جرى إنشاء برنامج خاص في المعهد يقدم دورة مكثفة في الأنظمة السعودية، مدته سنتان لخريجي كليات الشريعة، بحيث يتمكنون من العمل بعد البرنامج مستشارين قانونيين في الوزارات. يقول غازي القصيبي: «طلب مني الصديق الأستاذ فهد الدغيثر أن أشرف على هذا البرنامج. كانت المهمة تحديا مثيرا إلى أبعد الحدود، وقد أعطاني فهد كل الصلاحيات المطلوبة ووقف معي في كل خطوة من الطريق. وضعت مفردات المنهج بالتشاور مع عدد من المختصين، واتفقت مع بعض الزملاء السعوديين على التدريس فيه. سافرت إلى القاهرة للتعاقد مع أساتذة جامعيين مصريين. كان البرنامج يقتصر على تدريس الأنظمة السعودية المطبقة في البلاد، ولم تكن له أي علاقة بقوانين أجنبية غير إسلامية، إلا أن بعض الأخوة الكرام المشتغلين بالعلوم الشرعية لم يتمكنوا من فهم طبيعة البرنامج وتصوّروه مقدمة لتطبيق القوانين الأجنبية الوضعية في المملكة. كنت خلال الإعداد للبرنامج قد اجتمعت بعدد من هؤلاء الإخوة، ولاحظت هذا القلق، وتحدثت عن البرنامج بإسهاب، وتصورت أنني نجحت في إزالة مخاوفهم. حقيقة الأمر أنني لم أنجح في هذا المسعى». ورغم أن غازي القصيبي لم ينجح في مسعاه، فإن البرنامج أخذ طريقه بفضل جهود الدغيثر، الذي لم يتراجع ولم يتضعضع له كاهل أمام تلك المطالبات والنداءات التي شوهت صورة البرنامج وعملت جهدها على إيقافه. واليوم، فإن أغلب المستشارين القانونيين في وزارات الدولة هم من خريجي هذا البرنامج، الذي أسسه الدغيثر قبل تأسيس قسم القانون في جامعة الملك سعود بسنوات، فكان أن سد البرنامج فراغا كبيرا في قطاع الاستشارات القانونية والمحاماة في أجهزة الدولة المختلفة. كما اهتم الدغيثر ببرنامج الابتعاث لموظفي ومدربي المعهد، حتى إنه في سنة من السنوات كان عدد المبتعثين من معهد الإدارة يفوق عددهم ممن ابتعثتهم وزارة المعارف، حينما كانت هي المسؤولة عن الابتعاث.
كان فهد الدغيثر حازما وحاسما في إدارته للمعهد، يأتي للمعهد في ساعة مبكرة جدا، وكان يسبق موظفي المعهد في الحضور، ليبدأ بتفقد قاعات التدريب بنفسه ثم يزور الموظفين وأعضاء هيئة التدريب في مكاتبهم، ويكتب لكل موظف غير موجود في مكتبه ورقة صغيرة: «صباح الخير.. فهد الدغيثر»، وينصرف! ويذكر الدكتور هلال العسكر، أحد أعضاء هيئة التدريب في المعهد، أنه حضر ذات يوم إلى المعهد مبكرا وقبل بدء الدوام بساعة، فوجئ بأن مدير عام المعهد في حديقة المعهد يقلم أشجارها! فسأله: أنت يا صاحب المعالي من يقلم الأشجار؟ أين العمال؟ فرد عليه: كلنا عمال! فباشر الدكتور هلال العمل معه من الساعة السادسة والنصف إلى السابعة والنصف، موعد بدء الدوام!
كان الدغيثر عمليا إلى أبعد حد، لا تستهويه المظاهر، ولا يحبذ لبس المشالح، لذلك كان كثيرا ما يكون في مكتبه أو في اجتماعاته أو في جولاته الصباحية حاسر الرأس، وقد فوجئ الشاب إبراهيم المنيف حينما تقدم إلى مكتب المدير العام طالبا وظيفة في منتصف الستينات ووجد الدغيثر من دون غترة أو عقال. يقول المنيف: «هذه ظاهرة أراها لأول مرة لمدير عام مسؤول دون غترة وعقال! لا شك أنه أبهرني بلطفه وأسئلته الذكية عن تمكني من اللغة الإنجليزية. أذهلني تواضعه وسرعته في اتخاذ القرار الذي قدمه باتصاله مع مدير عام الشؤون المالية والإدارية صالح العمير، الذي وجهني إلى مدير شؤون الموظفين محمد الطويل، وفي اليوم نفسه توجهت لإجراء الفحص الطبي في مستشفى الشميسي».
وذات مرة في أواخر الستينات كان فهد الدغيثر يرأس اجتماعا في المعهد، وكان كعادته حاسر الرأس، وإذا بسكرتيره يخبره همسا بأن الأمير نايف بن عبد العزيز قدم إلى المعهد في زيارة خاصة، ولم يكن الأمير نايف وقتها قد تعين نائبا لوزير الداخلية، فما كان من فهد الدغيثر إلا أن نزل مسرعا ليستقبل ضيفه الذي قدم دون موعد مسبق، فاستقبل الدغيثر الأمير نايف دون غترة وعقال! واعتذر له بأنه كان في اجتماع لإدارة المعهد، فقال له الأمير نايف إنني جئت لزيارتكم نظرا لما سمعته عن المعهد من تميز في برامجه، وإنني أرغب الانضمام إلى برنامج اللغة الإنجليزية، فأخذه الدغيثر إلى مدير برنامج اللغة الإنجليزية، الذي شرح له البرنامج ومدة كل دورة، فعرض الأمير نايف على الدغيثر الانصراف إلى عمله إن أراد، فانصرف الدغيثر ليواصل اجتماعه.
لذلك كان المعهد طيلة وجود الدغيثر نموذجا فريدا في الانضباط. كانت فلسفته الإدارية أنه لكي تضبط حضور موظفيك، عليك أن تحضر مبكرا وتخرج بعدهم! يقول الدكتور المنيف عن تلك المرحلة: «أعتقد جازما أنه لم يأتِ قائد إداري مماثل له، من حيث قدراته الإدارية المميزة، التي أسست جذورا في معهد الإدارة العامة في التركيز الشديد على الوقت والالتزام به بشكل لافت، فالحضور والدوام وبدء المحاضرة يكون بالدقيقة، ودون تأخر لأي أستاذ أو طالب مهما كانت الظروف. هذه ظاهرة أسسها فهد الدغيثر وبقيت من بعده، واستدامت بكل تجذر دون منازع».
كان معهد الإدارة العامة في عهد فهد الدغيثر أول جهة حكومية تطبق نظام المكاتب المفتوحة في أغلب إداراته، خاصة المكتبة. يقول الدكتور المنيف، الذي تولى إدارة مكتبة المعهد: «ساهمت سيدة فاضلة أميركية شابة تحمل الماجستير في علم المكتبات وزوجة أحد الخبراء الاقتصاديين من لبنان، بوزارة المالية آنذاك، بالعمل معي في المكتبة المفتوحة دون سواتر أو قواطع، وضمن فريق العمل. كانت هذه السيدة تحضر يوميا إلى مكتبة المعهد بملابسها العادية وفستانها القصير، وتعمل معنا أنا وزملائي أحمد المعجل وعبد الله العوهلي ومصطفى السدحان وعبد الرحمن الجويرة، بمكاتبنا المفتوحة أمام جميع مرتادي المكتبة، الذين كان عدد كبير منهم من العاملين في المعاهد الدينية العليا. أتذكر جيدا أن أحد كبار المديرين وأصبح وكيلا لوزارة العدل لاحقا ممن كان ببرنامج اللغة الإنجليزية، والإدارة المتوسطة بوظيفة مدير عام، يتردد يوميا على المكتبة حينذاك، لم يقل شيئا ولم أسمع منه أو من غيره أي ملاحظة أو تعليق على وجود هذه السيدة معنا».
من الإسهامات المهمة لفهد الدغيثر في معهد الإدارة بناء وتأسيس مكتبة المعهد وتزويدها بكل المراجع الخاصة في الاقتصاد وعلم الإدارة باللغتين، العربية والإنجليزية، حتى غدت المكتبة فريدة من نوعها في العالم العربي، ومعلمة ثقافية في مدينة الرياض يزورها ضيوف الدولة من سياسيين وغيرهم، وقد تعرضت المكتبة لهجوم عنيف من عدد من المتشددين في منتصف السبعينات بوصفها تضم كتبا شيوعية وقد شكلت لجنة أبطلت تلك الادعاءات.
وطيلة عمل الدغيثر في إدارة المعهد كان يضع على مكتبة لوحة مكتوب عليها كلمة واحدة فقط، هي: «فكر»! وبإجمال فإن المحامي محمد الهوشان يوجز دور معهد الإدارة ودور قائده الدغيثر، بقوله: «ما كان للإدارة الحكومية أن تصل إلى ما وصلت إليه من تطور، لولا هذا المعهد العتيد، الذي أرسى قواعده الفقيد».

* في الجمارك أيضا

* أثناء انهماك فهد الدغيثر في عمله في معهد الإدارة العامة وفي ذروة إنتاجه وعطائه، خاصة بعد أن تحسنت موارد الدولة في مطلع السبعينات الميلادية، وزادت ميزانية المعهد عما كانت عليه من قبل، كلفه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني بالعمل مشرفا عاما على مصلحة الجمارك العامة، إضافة إلى عمله مديرا عاما لمعهد الإدارة العامة، وذلك نتيجة لما كانت تشهده مصلحة الجمارك من مشكلات مالية وإدارية تفاقمت عبر السنين، فلم يجد الأمير مساعد بدا من تكليف الدغيثر، الذي نهض بالمعهد وأوقفه على قدميه صرحا إداريا، فقبل الدغيثر التحدي الكبير وتوجه إلى مصلحة الجمارك العامة، محملا بخبرته الإدارية الكبيرة وبحزمه وعزمه وصرامته المعهودة وعدم مجاملته لأي أحد، مهما كان، على حساب العمل والنظام.
في فترة زمنية وجيزة نهضت مصلحة الجمارك العامة من سباتها، وانحلت مشاكلها المالية والإدارية، وأصبحت نموذجا من نماذج الإدارات الحكومية المميزة، حيث أعاد الدغيثر هيكلتها وأرسى فيها قواعد وأنظمة للعمل الإداري المنظم، ولم يستثن أحدا من نظام الجمارك طيلة عمله مشرفا عليها.

* إلى القطاع الخاص

* مع كل هذه الإنجازات الإدارية الفذة التي برع فيها الدغيثر على مدى 20 عاما من العمل الحكومي، ورغم تفانيه ووطنيه التي شهد له بها الجميع، إلا أنه آثر الخروج من العمل الحكومي برغبته واختياره، رغم إلحاح الكثيرين عليه من أصدقاء وزملاء، ورغم ما يمثله خروجه من خسارة كبرى في الإدارة السعودية، الذي كان هو أحد بناتها ومرسيي دعائمها، ورغم أنه عرض عليه - كما يقول أصدقاؤه - العمل وزيرا للصحة، إلا أنه قد عزم أمره بالرحيل، فكان له ذلك في عام 1978م.
ويعلل الأستاذ تركي الخالد السديري سبب خروج الدغيثر من العمل الحكومي بأنه نتيجة للتحولات التي طرأت على المشهد المحلي، من الناحية الإدارية والمالية، حيث جرى في عام 1975م تشكيل مجلس وزراء جديد خرج منه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية والاقتصاد الوطني، والذراع اليمنى للملك فيصل بن عبد العزيز في تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري، إضافة إلى الصعود الكبير في أسعار النفط، وبالتالي الارتفاع غير المعهود في واردات الميزانية، وكان لهذه التحولات أثر سلبي على مسيرة برنامج الإصلاح الإداري، إذ بحكم الوفرة المالية أصبح التركيز يجري على الجانب الكمي على حساب النوعية.
يقول الأستاذ تركي الخالد السديري: «أهملت في هذا المضمار البدائل التنظيمية الأفضل لتنفيذ تلك المشاريع، وخاصة ما له صلة بحسن الأداء في غالبية ما كان يبذل من أنشطة إدارية وفنية ذات الصلة بما يدور ضمنها بتلك المرحلة»، حيث أخذ برنامج الإصلاح الإداري في التراجع بصورة تدريجية، وجرى الاستغناء عن خبراء مؤسسة «فورد». يضيف السديري قائلا: «تابع الأخ فهد عن كثب هذه التحولات بحكم صلته الوثيقة بالبرنامج وما كان يمكن أن يحققه في مراحل أخرى مقبلة، لو استمر على ذات المنوال، وفي ضوء ذلك اختار الأخ فهد النأي بنفسه نهائيا عن مسؤوليات العمل الرسمي عندما طلب إحالته للتقاعد».
ورغم أنه تقاعد وغادر العمل الحكومي، فإنه أرسى دعائم مؤسسة إدارية فريدة، كان لها طلابها المخلصون، الذين تأثروا به واقتفوا أثره، منهم على سبيل المثال مطلب النفيسة ومحمد الطويل وصالح العمير وعبد الرحمن أبو حيمد وحمد الرشودي ومنصور عبد الغفار وحمد الشاوي وعبد الرحمن الشقاوي، وغيرهم ممن تسنموا مناصب إدارية قيادية عالية في الإدارة السعودية.
وكانت الحكومة السعودية قد أسست الشركة العقارية السعودية في عام 1976م، وقد أصدر ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك الأمير (الملك) فهد بن عبد العزيز قرارا بتعيين الأستاذ فهد الدغيثر رئيسا لمجلس إدارة الشركة ورئيسا تنفيذيا لها. ومن أبرز أهدافها تملك الأراضي وتطويرها وإقامة المباني السكنية والتجارية وشراء وإنتاج المواد والمعدات اللازمة للبناء وبيعها وتأجيرها. وجرى طرح عدد من أسهمها في السوق المالية، وقد مكث الدغيثر عشرة أعوام في هذه الشركة حققت خلالها كثيرا من المنجزات والقفزات المتتالية، ومن أبرز المشاريع التي وقف الدغيثر عليها بنفسه وأشرف على قيامها مشروع عقارية الستين، وكذلك مشروع بناء 1500 وحدة سكنية في العليا مع مشروع عقارية العليا رقم 1 وعقارية العليا رقم 2. كما جرى تنفيذ عقارية الستين الثانية، وتنفيذ عدد من الوحدات السكنية في حي السفارات، وكذلك مشروع شارع الضباب، وغيرها من مشاريع.
وفي منتصف الثمانينات، قرر الدغيثر أن يتفرغ لنفسه ولأبنائه، فغادر الشركة العقارية بعد أن بناها بنفسه وتعهدها بالرعاية والاهتمام، وظل حتى انتقاله إلى جوار ربه (صيف 2012م) موئلا ومقصدا لأصدقائه ومحبيه والمعجبين به يستقبلهم في منزله في حي النموذجية، وانهمك في القراءة المتنوعة، ويحتفظ بمكتبة منزلية قل نظيرها. وطيلة مسيرته تزوج مرتين؛ الأولى مضاوي الدغيثر، وبعد فراق تزوج الجوهرة آل الشيخ، وأنجب من الأبناء والبنات زياد وعماد وفؤاد وسعود وبدر وعبد الله ونوف وفدوى. وقد درس جميع أبنائه في الجامعات الغربية على نفقته الخاصة رافضا ابتعاثهم على نفقة الحكومة كي لا يأخذوا مقاعد هناك من الشباب السعوديين هناك من يستحقها أكثر منهم! وحينما كان ابنه زياد يدرس في أميركا مطلع الثمانينات تعرف إلى شاب سعودي يدرس على حسابه الخاص، فرغب هذا الشاب من زياد أن يطلب من والده أن يسعى له بإلحاقه بالبعثة السعودية، فجرى له ذلك خلال أقل من أسبوع! واليوم ورغم ضخامة برنامج الملك عبد الله للابتعاث، إلا أنه ابنه عبد الله يدرس في جامعة جنوب كاليفورنيا على نفقة والده، للسبب ذاته، وهو أن لا يأخذ مقعدا هناك من هو هناك أولى منه به!
إن سيرة ومسيرة فهد الدغيثر يختصرها صديقه أمير نجران الأسبق الأستاذ فهد الخالد السديري بقوله: «كان عملاقا في نزاهته، متمكنا في حسن إدارته، ضالعا في الخبرة والموهبة الاقتصادية، وكلما تذكرت إنسانيته ووفاءه وكرمه زادت الحسرة عليه».



ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، لا يبدو قادراً على تحديد موقف ترمب، ويمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي أثناء زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي حوالي 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه حوالي 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها حوالي 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.


كيف غيَّرت قرارات ترمب وجه سوريا؟

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

كيف غيَّرت قرارات ترمب وجه سوريا؟

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

في مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد، تتداخل فيه الملفات الأمنية بالاستراتيجية، والاقتصادية بالسياسية، تعكف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ عودتها إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2025، على إعادة رسم مقاربتها للملف السوري. فبعد سنوات من سياسات أميركية اتسمت بالتردد وتضارب الأجندات، ولا سيما خلال حقبتي باراك أوباما وجو بايدن، تتجه واشنطن اليوم بخطى ثابتة نحو سياسة أكثر مباشرة و«براغماتية»، عنوانها الأبرز تحقيق النتائج على الأرض وضبط التوازنات الدقيقة، بعيداً عن الاعتبارات الآيديولوجية أو الرهانات الطويلة الأمد.

وتأتي هذه المقاربة المستجدة استجابة لمتغيرات جوهرية طرأت على الساحة السورية، يتصدرها سقوط النظام السابق، وصعود حكومة جديدة تسعى بدأب لتثبيت شرعيتها الداخلية وانتزاع اعتراف دولي، بالتوازي مع استمرار المخاطر التي يمثلها تنظيم «داعش»، وتراجع النفوذ الإيراني، وتنامي الأدوار الإقليمية الفاعلة لكل من السعودية وتركيا وقطر. وضمن هذا المشهد، تعيد واشنطن تموضعها بما ينسجم مع «عقيدة ترمب» للشرق الأوسط، القائمة على فرض الاستقرار، وتقليص تكلفة الانخراط العسكري المباشر، وفتح الأبواب أمام مشاريع التنمية والاستثمار.

المصالح قبل الآيديولوجيا

في قراءة لهذا التحول، يرى فراس فحام، الباحث في «مركز أبعاد للدراسات»، أن سياسة الرئيس ترمب تجاه سوريا يمكن توصيفها بأنها «سياسة براغماتية بامتياز»، تركز في جوهرها على المصالح الدولية والاقتصادية، متجاوزة الخلفيات الفكرية أو الآيديولوجية للحكومة السورية الجديدة. ويشير فحام إلى أن نقطة الارتكاز في التقاطع المستجد بين واشنطن ودمشق تتمثل في «منع عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا»، وهو هدف يحتل الصدارة في حسابات الإدارة الأميركية الحالية.

ويضيف الباحث أن هذه المقاربة لا يمكن فصلها عن مواقف الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، التي أبدت دعماً صريحاً للحكومة السورية الجديدة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تليها تركيا وقطر، لافتاً إلى أن إدارة ترمب أبدت «استعداداً للاستجابة لهذه المواقف» بعدّها ركيزة أساسية في عملية إعادة بناء منظومة التحالفات الإقليمية.

ولدى عقد مقارنة مع الإدارات السابقة، يعدّ فحام أن نهج أوباما وبايدن كان أقرب إلى «إطلاق يد إيران في المنطقة»، ودعم نفوذ الأقليات، ولا سيما من خلال التحالف الوثيق مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، ما أسهم في تعقيد المشهد وإضعاف فرص قيام دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن ومنع عودة التنظيمات المتطرفة.

توم برّاك مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا يلتقي بالرئيس السوري أحمد الشرع في تركيا يوم 24 مايو (إ.ب.أ)

من الرياض إلى واشنطن: محطات تحول

يرصد فحام المحطات المفصلية في مسار سياسة ترمب الجديدة، مشيراً إلى أن نقطة البداية كانت في اللقاءات التي شهدتها الرياض في يونيو (حزيران) الماضي، حين أعلن الرئيس الأميركي، بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رفع العقوبات عن سوريا، في خطوة قُرئت بوصفها «أول رسالة إيجابية من واشنطن تجاه دمشق». وقد تبع ذلك لقاء ثلاثي جمع ترمب بولي العهد السعودي والرئيس السوري أحمد الشرع، تخللته إشادة لافتة من الرئيس الأميركي بنظيره السوري، عكست رغبة واشنطن في الانفتاح السياسي.

غير أن المحطة الأهم، وفقاً لفحام، تمثلت في «قمة واشنطن» التي عقدت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث استقبل ترمب الرئيس الشرع في البيت الأبيض، في لقاء وصفه الباحث بأنه «نقطة تحول مفصلية». فعقب هذا اللقاء، بدأت الإدارة الأميركية حراكاً فعلياً للضغط على الكونغرس لإبطال قانون «قيصر»، بالتزامن مع الإعلان عن ضم سوريا إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، ما نقل العلاقة بين الجانبين من التنسيق المحدود إلى ما يشبه «علاقة التحالف».

أنصار الرئيس السوري خارج البيت الأبيض بعد لقاء الشرع بالرئيس الأميركي ترمب في واشنطن 10 نوفمبر (إ.ب.أ)

«قسد» ومستقبل شرق الفرات

وحول ملف «قوات سوريا الديمقراطية»، يوضح فحام أن إدارة ترمب تتعاطى مع هذا الملف من زاوية عملية بحتة، توازن بين مصالحها مع الحكومة السورية الجديدة - وهو ما انعكس في تراجع الدعم لـ«قسد» مقارنة بعهد بايدن - ومصالح الحليف التركي. وباتت واشنطن تنظر إلى دمشق بوصفها «الطرف الأكثر فاعلية» في الحرب على تنظيم «داعش». وتستند هذه الرؤية إلى توصيات مراكز أبحاث أميركية أكدت أن الاعتماد الأحادي السابق على المكون الكردي، وما رافقه من ممارسات في شرق سوريا، خلقا «حالة من المظلومية» استثمرها التنظيم المتطرف في التجنيد. وعليه، اقتنعت الإدارة بأن التعاون مع دمشق أكثر جدوى، مع السعي لدمج «قسد» ضمن الدولة السورية وترتيب وضعها أمنياً، لا التخلي عنها في المطلق.

وفي سياق متصل، وحول التوغلات الإسرائيلية جنوب سوريا، يؤكد فحام أن واشنطن تنظر «بعدم رضا» لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عادّة أنها تقوض الاستقرار الإقليمي وتعارض رؤية ترمب للتنمية.

كما تتخوف الولايات المتحدة من أن إضعاف الحكومة السورية قد يفتح الباب مجدداً لعودة النفوذ الإيراني ونشاط «داعش». أما فيما يخص محافظة السويداء، فيشير فحام إلى تبني الإدارة الأميركية ضرورة إدماج المحافظة في الدولة، مستشهداً بتصريحات للمبعوث الأميركي توم برّاك، الذي عدّ «اللامركزية فشلت في الشرق الأوسط»، ما يعكس توجهاً لدعم سوريا موحدة.

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

المؤسسة العسكرية: قراءة موازية

من زاوية أخرى، يقدم الباحث في الجماعات المسلحة، رائد الحامد، قراءة مكملة للموقف الأميركي، مشيراً إلى أنه على الرغم من توجه ترمب في ولايته الأولى لسحب القوات وفض الشراكة مع «قسد»، فإن تحذيرات كبار القادة العسكريين من عودة «داعش» بعد معارك الباغوز (مارس «آذار» 2019) دفعته للإبقاء على نحو 2000 جندي. ويذكّر الحامد بأن الشراكة مع «قسد» تعود لمعارك كوباني 2015، حيث اعتمدت عليها واشنطن بوصفها قوة برية.

لكن الحامد يلفت إلى أن «السياسة الجديدة» لما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبعد انضمام سوريا للتحالف الدولي، باتت تقوم على عدم الاعتراف بأي كيان مستقل شرق الفرات، ورفض الصيغ الفيدرالية المشابهة لإقليم كردستان العراق. ويختم الحامد بأن هذه السياسة الجديدة «لا تتضمن ضمانات أميركية حقيقية لقسد في مواجهة تركيا»، وتتقاطع مع ضغوط لدمجها في المؤسستين العسكرية والأمنية السورية وفق رؤية الحكومة السورية التي ترفض أي وجود مسلح خارج إطار الدولة، وهو ما ترفضه «قسد» حتى الآن مع اقتراب نهاية السقف الزمني لتنفيذ اتفاقية مارس مع الحكومة في دمشق المقرر لها نهاية هذا العام، وفق الحامد.

وعلى ما يبدو فإن المشهد السوري قد دخل مرحلة مفصلية تتجاوز معادلات الصراع التقليدية، لتؤسس لواقع جديد تحكمه لغة المصالح والترتيبات الأمنية المتبادلة. وإذ تراهن واشنطن وحلفاؤها الإقليميون، وتحديداً الرياض وأنقرة، على قدرة القيادة الجديدة في دمشق على فرض الاستقرار وإنهاء حقبة الفوضى، فإن نجاح هذا المسار يبقى، وفقاً للمراقبين، رهناً باختبارات الميدان خلال الأشهر المقبلة. وستكون قدرة «الجمهورية الجديدة» على الموازنة بين متطلبات المصالحة الداخلية واشتراطات التحالفات الخارجية، هي المعيار الحاسم لتحديد ما إذا كانت هذه الانعطافة تمثل بالفعل الفصل الأول الذي سيضع حداً لسنوات من التردد الأميركي في المنطقة.