«أمواج»... سيرة ذاتية عراقية أثقلتها «حروب القائد»

في أبسط تعريف للسيرة الذاتية هي أن يكتب الإنسان قصة حياته بنفسه، وأن يركِّز على صاحبها كشخصية محورية رئيسة تتسيّد على كل الشخصيات الآخر التي ترِد في سياق النص السيري، غير أنّ السيرة الذاتية الجريئة التي انضوت تحت عنوان «أمواج» للناقد عبد الله إبراهيم قد تشظّت إلى محورين آخرين التهما قسماً كبيراً من شخصية الكائن السيري، وهما العراق وصدام حسين، حيث ولج الأول في عين العاصفة، بينما اختبأ الثاني في حفرة دكناء.
لا يخالجني الشك أبداً في أن الناقد عبد الله إبراهيم هو الأقدر على التفريق بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية لكنه ارتأى، على ما يبدو، أن يكون العراق بحروبه الثلاثة خلفية لهذه السيرة الصادقة التي يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، ويشتبك فيها الخاص بالعام. وربما وجد في شخصية صدّام حسين أنموذجاً للقائد المتعالي الذي حوّل العراقيين من مواطنين إلى أتباع، فوضع أفكار الرئيس السابق ومشاعره وأوهامه على طاولة التشريح النقدي الصارم الذي يكشف للمريض ما لهُ وما عليه. ولو كنتُ محلّ الكاتب لجرّدت النص السيري من خلفية هذه الحروب المعروفة سلفاً للقارئ، وأبقيت من شخصية صدام ما يخدم التحولات الدرامية للكائن السيري خلال العقود الأربعة التي رصدتها السيرة منذ أوائل الستينات حتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
استعار عبد الله إبراهيم تقنية الموجة من البحر الذي رآه أول مرة في مدينة الزاوية الليبية حينما عُيِّن أستاذا في جامعة زوّارة، وهي تقنية مناسبة جداً لهذه السيرة التي وجد فيها الكاتب نفسه مرمياً أمام إحدى عشرة موجة غطّت حياته من الطفولة في قرية من قرى كركوك حتى سقوط البلد على يد القوات الأنكَلو - أميركية التي فتّتت هويته الوطنية وتركته نهباً لتجّار الحروب وأسيادها.
السيرة في جزء كبير منها هي اكتشاف للذات، وتعرية لها من دون حجب لأي موقف مهما كان صعباً أو حرجاً، وهذا ما فعله عبد الله إبراهيم في كل مراحل حياته الشخصية والدراسية والإبداعية، فلم يخبئ شيئا، ولم يتبرّم من رأي قيل بحق تجربته الأدبية على وجه التحديد. فهو يقول بأنه جاء إلى الدنيا نتيجة لـ«زواج الشِّغَار» الذي كان شائعاً في مضاربه لكنه محرّم في الإسلام. كما أنه لم يطمس أي رأي سلبي قيل بحقه كأديب أو فنان مسرحي، ولعل القاص جليل القيسي والشاعر جان دمّو لم يريا فيه أي موهبة قصصية أو روائية لكنهما توقعا له أن يكون ناقداً كبيراً، وقد تحققت نبوءتهما على أرض الواقع، إذ حصد أهمّ الجوائز النقدية في العالم العربي. جرّب عبد الله إبراهيم التمثيل المسرحي لكنه لم ينجح فيه، وقد وصفه بعض المخرجين المسرحيين في كركوك بأنه أشبه بالإطار الاحتياطي الذي لا يُستعمل إلاّ في الحالات الطارئة.
هناك مثلث يستحق المداومة عليه، والاستغراق فيه وهو «القراءة، والكتابة، والنساء» والذي لم تخلُ منه أي مرحلة من مراحل حياته حيث يقدّم الكاتب أحلى ما عنده لغة، وأسلوباً وتجليات، بل إن قدرته السردية والروائية تتمثل في سيرته كلما تناول ضلعاً من أضلاع هذا المثلث المُشع الذي تتأكد فيه إنسانية الإنسان وتنجلي فيها طويته الجوانية الصريحة التي لا تعرف الزيف والكذب والادعّاء.
كشوفات «الموجة الأولى» مهمة بمكان لأنها تستعرض العناصر والقناعات الأولى التي تجعل من الكائن السيري ضحية للثقافة السائدة التي أصبح معظم العراقيين أسرى لها بما في ذلك كاتب السيرة، بل إن القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي لم يتردد لاحقاً في وصف عبد الله إبراهيم بأنه «أحد مسوخ النظام» (ص180) الذي تشرّب بالأوهام الوطنية والقومية التي غزت أذهان السواد الأعظم من الناس في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
كتب عبد الله إبراهيم عن طفولته، ودراسته الابتدائية في القرية ومدينة كركوك، وعن المرأة التي أصبحت الضلع الثالث في مثلث حياته. وكان بإمكانه أن يستفيض لكنه انجرف صوب الحروب والسياسات الخاطئة التي أخذت من السيرة حصة الأسد.
ويخبرنا السارد عن دراسته الجامعية من الموصل إلى البصرة قبل أن يستقر به المطاف في جامعة بغداد، وكانت هذه الدراسة هي الحقل الأكثر خصوبة وإثارة في سيرته الذاتية لكنها انحسرت وتبعثرت بسبب القائد وحروبه الذي وضع الكائن السيري وكثيرا من العراقيين في الحيّز الفاصل بين الحقيقة والخِداع. وعلى الرغم من تفوقه في الدراسة الجامعية فإنّ كلية الضباط الاحتياط تلقفتهُ مثل آلاف من الخرّيجين الذين سيقوا لاحقاً إلى محرقة الحرب، لكنه عاد إلى مقاعد الدراسة العليا فكتب في مرحلة الماجستير عن «البناء الفني لرواية الحرب في العراق» ونال الامتياز عن هذه الأطروحة التي كانت تبشِّر بولادة ناقد رصين. وفي مرحلة الدكتوراه وقع اختياره على موضوع شديد الحساسية وهو «السردية العربية: دراسة لنُظم السرد العربي» الذي أفضى به إلى اللوم والتقريع وكاد أن يصل إلى سحب الشهادة الجامعية وعدم الاعتراف بأطروحته المُخالفة للأطاريح الجامعية آنذاك، والغريب أن المُشرف د. عبد الإله أحمد قد تبرأ من هذه الأطروحة وادعّى أن الباحث كتبها بمنأى عن مشورته، ومع ذلك أُجيزت الأطروحة شرط أن يجتث الفصل المتعلق بالأصول الشفوية للثقافة الإسلامية.
بعد أن تخلّص عبد الله من الفضاء العسكري بدأ يصغي إلى نغمة المُختلفين، ويفكر بطريقة مغايرة أوصلته إلى أن صدام «يفتقر إلى البصيرة، وبُعد النظر في القرارات الكبرى» (ص414) ولولاه لما وصل العراق إلى عزلته الخانقة. حينما ضاقت به السبل قرر عبد الله إبراهيم أن ينجو بجلده بعد أن اتهمه عبد الأمير معلّة بشتم الرئيس، وخيانة الوطن. وفي إحدى الدعوات الموجهة إليه من الأردن قرر الالتحاق بجامعة زوّارة الليبية وأمضى فيها سبع سنوات منهمكاً بالتدريس، والقراءة، والكتابة، ومُراسلة حبيبته النائية لمياء رافع التي كانت تحاول الالتحاق به خصوصاً بعد تحررها من زواج فاشل.
إنها سيرة ذاتية ملأى بالمفاجآت في كل موجة من موجاتها، وهي تحتاج إلى دراسة تفصيلية تغطي متنها وتنتصف لجرأة الكاتب، وجماليات أسلوبه، وقدرته على السرد الروائي الشيّق.