بين الدين والعلمانية والحاجة إلى إعادة الاكتشاف

الحركات الدينية استطاعت أن تكون هاجساً يومياً لدى رجال السياسة والحكم

الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
TT

بين الدين والعلمانية والحاجة إلى إعادة الاكتشاف

الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)

أصبح الجدل المستمر في المدارس الاجتماعية والفلسفية الغربية المعاصرة بخصوص الدين والحداثة والعلمانية، واحداً من أبرز المواضيع التي يناقشها اليوم كبار المفكرين وعلماء السياسة والاجتماع المعاصرين.
نظرا لطبيعة العلاقة الدائمة والملتبسة بين الدين والسياسة في الدولة الحديثة؛ فإن الأسئلة التي تطرحها عودة الدين، للنقاش السياسي، والانشغال المتزايد للرأي العام بقضايا الانتماء الديني وحقوقه السياسية، دفعت بعالم الاجتماع السياسي وفيلسوف العلمانية الفرنسي جون بيبيرو، للقول: «إن ضبط مفهوم الدين هو من شأن السلطة ويجب أن يستبطنه كل لاعب ليتم القبول به، وإن تخصيص الدين بواسطة لائكيته لا تعني بتاتا زوال التعبيرات الدينية من الفضاء العام».
وإذا كان مرسيل غوشي، وزميله فيليب بيرو، يقتربان في أطروحتهما فيما يخص صعوبة تجاوز الدين للحداثة والعلمنة؛ فإن عالم اجتماع التربية الفرنسي روجيه مونجو، يرد على هذه الأطروحة في مقالته الشهيرة التي نشرها سنة 2012 بعنوان «اللائكية والمجتمع ما بعد العلماني» مؤكدا، أن العلمنة تعيش في مأزق تاريخي. ويقترح الاستناد إلى المقترب العلمي الجديد الذي تبناه المفكر الألماني الشهير يورغن هابرماس، ونحته لمصطلح «المجتمع ما بعد علماني»، لتجاوز هذا المأزق. كما أن مونجو يضيف ردا على الفيلسوف جون بيبيرو، أن التأثيرات التي صنعتها العلمانية، وقدرتها على إزاحة الدين، أو ضبطه بطرق سلطوية قانونية، تحولت مع الوقت في ظل السيرورة الاجتماعية «لعودة الديني»، وليس انمحائه في الفضاء العام.
في هذا السياق يدافع عالم الاجتماع ستافو ديبوج، في كتابه الصادر سنة 2013 «الذئب في المرعى. الأصولية المسيحية تغزو المجال العام»، عن وجهة نظر جدلية، حول المدرسة الخلقية الأميركية، ومناقشتها لعودة الدين للسياسة في أميركا، داعيا إلى رفض أطروحات من يسميهم بمنارات ما بعد العلمانية من أمثال، المسيحيين الإنجيليين، نيكولاس والترستورف، وكريستوف أبريل، وستيفين كارتر؛ إضافة إلى هابرماس، وتشارلز تايلور، وجان مارك فيري. في كتابه هذا، يهاجم ديبوج أطروحة هابرماس، ويتهمها بشكل لا يستند إلى أدلة مقنعة، بكونها هي التي سمحت للدين بالعودة للمجال العام، مشيرا لما يشكله ذلك - حسب رأيه - من خطر يجب التعامل معه. وعليه يقترح ستافو ديبوج، في كتابه المشار إليه أعلاه خطوتين مركزيتين، الأولى: «ألا نهاجم بتهور كبير علمانية المجال العام السياسي، حتى ولو لم نرفض الفروق بين الإيمان والمعرفة؛ وبين العقول الدينية والعقل العام، وبين الأخلاق الدينية والقوانين الوضعية» (ص10). أما الثانية فتتعلق، بما يعتبره المنزلق الخطير الذي تطرحه مقاربة، حرية الدين في الفضاء العام؛ وعليه يتبنى ديبوج طرحا تسلطيا قريبا جدا من المذهبية الفلسفية العلمانية الفرنسية.
بل إنه يحاجج بشكل آيديولوجي، نظرية الفضاء العام، وما بعد العلمانية، ويعتبر هذه الأخيرة «تقوم على الرغبة في رفع جميع القيود عن التعبير على المعتقدات الدينية في المجال العام، فإنها - ما بعد العلمانية - مفيدة جدا لنظرية الخلق ولحركات رجعية أخرى مسوقة باسم العقائد الدينية. فهذه أمثلة على ما تقصده ما بعد العلمانية بانفتاح المجال العام بشكل تام على المعتقدات الدينية، التي يقول كثير من الكتاب بشرعيتها الكاملة للتعبير من غير تحفظ، وأن لها الحق في أن تؤسس بنفسها قرارات سياسية ملائمة للجميع، ومؤثرة على كل فرد أي كان».
من جهته يرى عالم الإنتربولوجيا طلال أسد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، أن إشكالية عودة الدين للفضاء العام، رغم ما يثيره من مخاوف ناتجة أساسا عن الطابع الآيديولوجي للفكر الغربي العلماني المتلبس بالأنسنة والعقلنة المتحيزة. فإن ما يهمنا في الحقل الإنتربولوجي، هو كون العلاقة بين البحث في الدين والعلمانية، في حاجة لإعادة الاكتشاف وتجاوز المآزق الكثيرة التي هيمنت على العقل العلماني العلمي؛ والمرتبط بالخصوص بالنظرة الإبيستمولوجية للدين. «فنادرا ما أبدى الإنثروبولوجيون اهتماما بفكرة العلماني، على الرغم من أن دراسة الدين كانت في صلب اهتمامات الحقل منذ القرن التاسع عشر. وتظهر مجموعة من مقررات الدراسة في عدد من الكليات والجامعات حول إنثروبولوجيا الدين المعدة مؤخراً من أجل الجمعية الإنثروبولوجية الأميركية اتكالاً كبيراً على موضوعات مثل الأسطورة والسحر والعرافة واستخدام المهلوسات والطقوس كعلاج نفسي... توحي هذه الموضوعات المألوفة معاً بأن «الدين»، والذي موضوعه المقدس، يقع في نطاق اللاعقلاني. أما العلماني، حيث تقع السياسة والعلم الحديثان، فلا يظهر في هذه التوليفة. كما أنه لم يعالج في أي من النصوص التقديمية المعروفة جيداً. على أنه من شائع المعرفة أن الديني والعلماني مرتبطان بشدة، سواء في فكرنا أو في الطريقة التي ظهرا بها تاريخيّاً. فينبغي لأي علم يسعى إلى فهم الدين أن يفهم أيضا العلماني. وتحتاج الإنثروبولوجيا، وهي العلم الذي سعى إلى فهم غرابة العالم غير الأوروبي إلى أن تدرك كليّاً ما دلالة أن تكون في آن واحد حديثةً وعلمانية».
ومن هنا لا بد من النظر لقضية العلاقة بين الدين والسياسة في الغرب اليوم على أساس اعتبار العلمانية مذهبا سياسيا يستلزم الفصل بين المؤسسات الدينية والحكومية. فالعلمانية كما يراها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور عميد الفلاسفة المعاصرين في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية «ليست مجرد حل فكري لقضية دوام السلام الاجتماعي والتسامح، بل هي بمثابة قانون يقوّم الوسط السياسي، أي تمثيل المواطنة من خلاله، بالسمو على الممارسات الذاتية التي تهدف إلى التفرقة والتمييز عن طريق الطبقة الاجتماعية، والنوع الاجتماعي، والدين».
ما يجب الانتباه إليه، هو أن طلال أسد يسجل أن حصار العلمانية للدين تاريخيا، لم يؤدِ لزواله، وأنه لم يختفِ إطلاقا في الساحة العامة السياسية، رغم الخفوت الذي أصابه إلى حدود ثمانينات القرن العشرين. أما اليوم فالقضايا الدينية السياسية لم تعد قضايا خاصة بأقلية مؤمنة، ولا هي منحبسة في «الغرف المغلقة»؛ بل إن الحركات الدينية استطاعت أن تكون موضوعا يوميا لدى رجال السياسة والحكم والإعلاميين، ورجال الفكر والمعرفة البحثية. وكل هذا لا يدعونا فقط لمراجعة العلمانية وتصوراتها، ولكن للنظر بشكل متجدد لدور كل من الدين والعلمانية في الحياة الفردية والفضاء العام.
ويبدو أننا اليوم نعيش تراجع ما يطلق عليهم عالم الاجتماع الديني، الأميركي رودني ستار بـ«أنبياء العلمانية». فمع بداية القرن العشرين، كان الرأي العلمي السائد هو مزاعم اقتراب موت الدين.
لكن في الواقع، اليوم، تحولت هذه الأطروحة التي تزعم العلمية، لمجرد أسطورة، رسمت مسارا علميا ملتبسا حول الدين، في جانبه الطقوسي والاعتقادي، ودوره في المجال العام السياسي. لقد كان أول رد تلقته هذه «الأطروحة الأسطورة»، من عالم الاجتماع ديفيد مارتن في بحث له عن الدين والعلمنة سنة 1965؛ وخلص فيه أنه لا يوجد أي دليل علمي يؤكد أن العالم ينتقل من مرحلة دينية نحو مرحلة علمانية، أي ما سماه ديفيد «من مرحلة الدينية في الشؤون الإنسانية إلى مرحلة علمانية».
خلاصة
خلافا للفكر السكوني العربي المجتر لأدبيات القرن التاسع عشر، المتعلقة بالحداثة والعلمنة. نلاحظ أن الفكر السياسي الغربي منذ ثمانينات القرن العشرين، وهو يجري كثيرا من المراجعات والنقد لأطروحات الحداثة حول الدين والعلمانية، بما يتناسب والعودة القوية للدين في الفضاء العام. وإذا كان هذا حال المدارس الغربية المختلفة كما بينا بإيجاز أعلاه؛ فقد أصبح لزاما على الباحثين العرب النظر في قضية عودة الدين، وانتشار حركات الإسلام السياسي على ضوء النقاش الحالي الدائر في الغرب، ضمانا للتعايش في مجتمع متعدد، يعتبر فيه الدين مؤثرا على السياسة ونظام الحكم. كما أن مواكبة هذا النقاش المراجع لعلاقة الدين بالحداثة والعلمانية، تجد مبررها في البيئة العربية التي يخلق فيها، الاتصال بين الدين والسياسة نزاعات دموية ومذهبية بالغة الخطورة والتعقيد. مما يشجع على عودة الدين والحركات الدينية للمجال السياسي، وظهور بعضها بمظهر متشدد.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس ــ الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.