جسم الإنسان لا يستطيع مقاومة آثار الاحتباس الحراري المدمرة

جسم الإنسان لا يستطيع مقاومة آثار الاحتباس الحراري المدمرة
TT

جسم الإنسان لا يستطيع مقاومة آثار الاحتباس الحراري المدمرة

جسم الإنسان لا يستطيع مقاومة آثار الاحتباس الحراري المدمرة

الجنس البشري يتعرض إلى مخاطر كبيرة بسبب التغيرات المناخية التي تقود إلى الاحتباس الحراري في الأرض، وذلك بسبب تركيبته البيولوجية.
ينتج جسم الإنسان خلال استراحته نحو 100 واط، أي ما يعادل الطاقة التي ينتجها مصباح ضوء صغير، في حين أنه وخلال ممارسة التمارين المكثفة، ينتج أكثر من 1000 واط، أي ما يعادل حرارة جهاز ميكروويف أثناء عمله. يقول بيتز إن العضلات لدى الإنسان غير فعالة على الإطلاق.
فعندما يحترق الوقود في محرك السيارة، يتحوّل نحو 60 في المائة أو 70 في المائة منه لتشغيل العجلات. من ناحية أخرى، تخسر عضلات الإنسان نحو 90 في المائة من طاقتها على شكل حرارة. ويضيف بيتز أنه في الدقيقة التي يبدأ فيها الإنسان بالجري أو المشي في أجواء حارة، سيمتص مزيداً من الحرارة التي ستتبدّد في الجوّ لاحقاً.

حرارة الإنسان

تبلغ درجة الحرارة القصوى لجسم الإنسان بين 36.5 و37.5 درجة مئوية، وهي الدرجة المثالية لحصول عملية التمثيل الغذائي، وأداء الأنزيمات والبروتينات الأخرى لوظائفها بفعالية مطلقة. ساهمت ملايين السنوات من التطور في السافانا الأفريقية في ابتكار أنظمة متقدمة للتبريد لضمان استقرار حرارة الجسم البشري في وسط هذا الفارق الضئيل. عندما ترتفع معدلات الحرارة يتمّ التنظيم الحراري بشكل إرادي من خلال بعض التصرفات كالتخلص من الملابس وشرب المياه وتهوية الجسم، وبشكل غير إرادي، من خلال الجهاز العصبي الأوتوماتيكي. ينشط هذا الجهاز غير الواعي عبر مستقبلات حرارية موجودة في الجلد والعضلات والمعدة وغيرها من المناطق لضبط تغيرات درجة الحرارة. وتعمل هذه المستقبلات على تنبيه منظّم الحرارة في الدماغ، أي «الوطاء»، والذي يعمل بالتالي على تحريك انفعالات كالتعرق ودفع الدم إلى السطح، للتخلّص من الحرّ بشكل أسهل نحو البيئة الخارجية المحيطة.
ولكن للحصول على تعرّق صحي وفعال، يتوجب على الإنسان أن يحافظ على استقرار معدّل دمه. ففي حال عانى من جفاف مفرط، أو فشل في أي جزء آخر من الجسم، ستبدأ حرارته جسده بالارتفاع حتى الـ40 درجة. في هذه المرحلة، يتحوّل الوضع من توتر الحرّ، الذي تظهر بسببه بشرته حمراء ومتعرقة، إلى نوبة حرّ، لتتحوّل البشرة فجأة إلى بيضاء جافّة الملمس. ينتج هذا التحوّل عن توجيه الدّم من جديد نحو الأعضاء الحيوية في محاولة للحدّ من ضرر نقص الأكسجين أو ما يعرف بـ«نقص التأكسج» الناتج عن جريان الدمّ بالقرب من البشرة. يقول بيتز إن نحو 70 في المائة من الناس الذين يعيشون حالة مشابهة يصلون إلى الموت أو يصابون بفشل أكثر من عضو.

إنقاذ البيئة

غائلباً ما يتمّ تشخيص الوفيات الناتجة عن نوبات ارتفاع الحرارة على أنها حالات فشل قلبي، لأن القلب يعمل عادة على ضخّ الدم إلى الأطراف، ولكن «نقص التأكسج» هي حالة شائعة أخرى للموت، بحسب ما يقول مورا. في الواقع، تمكّن فريقه أخيراً من تحديد 72 طريقة على الأقلّ يمكن للحرّ أن يكون سبباً للموت فيها.
تحصل أولى هذه الحالات في القناة الهضمية، على حدّ تعريفه، إذ قال إن الدم يذهب إلى الجلد، في حين ينقطع عن أعضاء أخرى من بينها الأمعاء. تعتبر حالة «نقص التأكسج» مضرّة للقناة الهضمية بالدرجة الأولى لأنها قد تتسبب في تفسخ بطانة المعدة وإفراز محتوى الأمعاء في مجرى الدّم، مما يطلق استجابة مناعية قوية جداً.

تؤدي هذه الاستجابة إلى فبركة عدد هائل من كريات الدم البيضاء التي تتسبب في تجلّط غالبية الأعضاء. يمكن للحرّ أن يؤدي إلى قتل الأعضاء بشكل مباشر أيضاً، عندما يكون شديداً جداً بحيث يمنع البروتينات من العمل. يعتبر انهيار العضلات سبباً آخر للموت، إذ يدخل خضاب العضل وينتشر في الدم، ويؤدي أخيراً إلى تجلّط أعضاء كالكلى والكبد والرئتين.
يعتبر كبار السنّ أكثر عرضة لنوبات الحرّ من غيرهم لأنهم غالباً ما يعانون من ضعف في القلب، وتراجع فعالية التعرّق لديهم. يتعرّض الأطفال لخطر كبير أيضاً، لأن أجسامهم الصغيرة تتطلب وقتاً أقلّ لترتفع درجات حرارتها، وتمتص الحرّ أسرع من غيرها. والأشخاص الذين يتناولون الأدوية أضعف من غيرهم في مواجهة الحرّ، لأنه وبحسب مورا، تعمل بعض الأدوية على إتلاف قدرة الجسم على إدراك مخاطر درجة الحرارة المرتفعة. ولكن لا أحد محصّن ضدّ نوبات الحرّ القاتلة، ومع ذلك، تتميّز أجسادنا بقدرة ملحوظة على التأقلم، شرط أن تكون الرطوبة منخفضة بحيث تسمح بالتعرّق الفعال. يتطلّب الجسم نحو أسبوع من التعرّض للحرارة المرتفعة قبل أن يبدأ نظام التأقلم الحراري فيه بتعديل نفسه، ومن ثمّ يبدأ الجسم بالتعرّق مبكراً وبشكل غزير بفعل اللهيب، وتتغيّر تركيبة العرق، بشكل يخسر فيه الجسم شوارد بوتاسيوم وصوديوم أقلّ للحفاظ على مستوى الدمّ. وبالطبع، توجد دائماً بعض الوسائل التي تمكننا من تعديل سلوكنا بهدف تخفيف الحرّ المفرط.
قد تتمكّن البشرية، إن حظيت بالوقت الكافي، من التطوّر بشكل يسمح لها باحتمال الحرّ الشديد بشكل أكبر، فنحن نملك سلفاً المواد الخام المطلوبة للعمل على هذا التطوّر. إذ هناك اختلافات كبيرة بين الناس فيما يتعلّق بكمية التعرّق، وعدد وكثافة الغدد العرقيّة التي يملكونها. ورغم ذلك، سيكون من الصعب علينا أن نتأقلم مع درجة حرارة هواء تصل إلى 35 درجة دون بروتينات أقوى قادرة على العمل في ظلّ حرارة شديدة الارتفاع، حتى إن هذا الأمر سيتطلب تغييرات جذرية في تركيبتنا البيولوجية الأساسية.
الوقت ليس حليفاً لنا، ولكن في حال لم نتمكّن من تعويد أجسادنا، يمكننا على الأقلّ أن نعدّل بيئتنا المحيطة للحدّ من تأثير درجات الحرارة المرتفعة.



التنشيط الزائد للجهاز المناعي الفطري قد يسبب السرطان

رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
TT

التنشيط الزائد للجهاز المناعي الفطري قد يسبب السرطان

رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة

تؤكد دراسة أميركية جديدة على الدور المزدوج الذي يلعبه الجهاز المناعي الفطري (الطبيعي)، ليس فقط بوصفه حارساً ضد مسببات الأمراض، ولكن أيضاً، من جهة أخرى، بوصفه مساهماً محتملاً في الإصابة بالسرطان عندما يُنشَّط باستمرار بسبب عدم الاستقرار الجيني.

وتلعب الإشارات المناعية عادة دوراً رئيسياً في الحفاظ على استقرار الجينوم خلال تضاعف «الحمض النووي (دي إن إيه - DNA)».

وجاءت نتائج الدراسة لتضيف رؤى حيوية لفهمنا البيولوجيا البشرية الأساسية، كما أنها قد تلقي أيضاً ضوءاً جديداً على بدايات نشوء الورم الخبيث، وتقدم فرصاً محتملة لعلاجات جديدة.

لقد طورت الكائنات الحية مسارات معقدة لاستشعار الحمض النووي التالف وإرسال الإشارات إليه وإصلاحه. وهناك جوانب جديدة حول دور الجهاز المناعي الفطري في الاستجابة للتعامل مع هذا الضرر، سواء في سياق الإصابة بالسرطان، وفي تعزيز صحة الإنسان بشكل عام.

تنشيط الجهاز المناعي... والسرطان

تكشف الدراسة الجديدة، التي قادها المؤلف الأول الدكتور هيكسياو وانغ، من «برنامج البيولوجيا الجزيئية» في «مركز ميموريال سلون كيترينغ للسرطان» الأميركي في نيويورك، ونُشرت في مجلة «Genes & Development» يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، عن وجود صلة بين الإشارات المناعية الفطرية وتطور الورم في أنسجة الثدي.

وتشير البيانات البحثية إلى أنه عندما ينشأ عدم الاستقرار في الجينوم، فإن التنشيط المزمن للجهاز المناعي الفطري يمكن أن يزيد بشكل كبير من احتمالات الإصابة بالسرطان.

وركزت الدراسة على مركب بروتيني معقد يسمى «مركب بروتين إصلاح كسور الحمض النووي (دي إن إيه) مزدوج السلسلة (Double-strand break repair protein Mre11)»، وهو إنزيم يرمَّز في البشر بواسطة الجين «MRE11» الذي يلعب دوراً محورياً في الحفاظ على استقرار الجينوم من خلال استشعار وإصلاح «كسور الحمض النووي مزدوج السلسلة».

طفرة بروتينية وتطور الورم

ولدراسة كيف يمكن أن تؤدي المشكلات المتعلقة بهذا البروتين إلى الإصابة بالسرطان، تلاعب الفريق بنسخ من البروتين في «عضويات الأنسجة الثديية (وهي أعضاء نموذجية مصغرة مزروعة في المختبر)»، وقد زُرعت في فئران المختبر.

* تطور الورم: عندما نُشّطت الجينات السرطانية، طورت الفئران التي تحتوي عضويات تحمل «مركب بروتين إصلاح» متحولة مختبرياً، أوراماً بمعدل أعلى بكثير (نحو 40 في المائه) مقارنة بنحو 5 في المائة فقط لدى الفئران الطبيعية. ويؤكد هذا الاختلاف الصارخ على دور «مركب بروتين الإصلاح» في الحفاظ على الاستقرار الجينومي وقمع تكوّن الورم.

* عدوانية الورم: كانت الأورام التي نشأت لدى الفئران التي تحتوي عضويات تحمل «مركب بروتين إصلاح» متحولة، أكثر عدوانية بشكل ملحوظ من تلك الموجودة لدى نظيراتها الطبيعية. وهذا يشير إلى أن فقدان، أو طفرة، «مركب بروتين الإصلاح» لا يزيدان فقط من احتمالية بدء السرطان، ولكنهما قد يساهمان أيضاً في ظهور نمط سرطاني أكثر توغلاً أو سريع التقدم.

كما توفر هذه النتائج رابطاً واضحاً بين أوجه القصور في «مركب بروتين الإصلاح» وعدم الاستقرار الجيني وارتفاع خطر الإصابة بالسرطان؛ مما يسلط الضوء على الدور الحاسم الذي يلعبه المركب في الحماية من تطور الورم. وقد يساعد فهم هذه العلاقة في إعداد استراتيجيات علاجية محتملة لاستهداف ضغوط التكاثر السرطاني ومسارات تنشيط المناعة في تلك السرطانات المرتبطة بخلل في عمل «مركب بروتين الإصلاح».

نقص البروتين يهدد الجينوم

يعتمد هذا البحث الجديد على دراسة سابقة قادها الدكتور كريستوفر واردلو من «برنامج علم الأحياء الجزيئي» في «مركز ميموريال سلون كيترينغ للسرطان» التي نشرت في مجلة «Nature Communications» يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

وركزت تلك الدراسة على دور «مركب بروتين الإصلاح» في الحفاظ على سلامة الجينوم. ووجدت أنه عندما يكون المركب غير نشط أو ناقصاً فإنه يؤدي إلى تراكم الحمض النووي في سيتوبلازم الخلايا، وتنشيط الإشارات المناعية الفطرية. وكشف هذا الجانب من البحث عن ارتباط مهم بين طفرات «المركب» وتنشيط الاستجابة المناعية.

وأدى «المركب المتحور» إلى زيادة تنشيط الجينات المحفزة بالإنترفيرون (ISGs) وهو ما يشير إلى أنه عندما يكون المركب غير فعال فإن الجهاز المناعي الفطري يُنشَّط بشكل غير طبيعي، حتى في غياب محفز فيروسي أو مسبب للأمراض خارجي نموذجي.

والإنترفيرونات جزيئات إشارات تطلقها الخلايا عادة استجابة للعدوى الفيروسية والتحديات المناعية والضغوط الخلوية، ويشير تنشيطها في سياق طفرات «مركب بروتين الإصلاح» إلى أن الخلية تدرك عدم الاستقرار الجيني بوصفه شكلاً من أشكال الإجهاد يتطلب استجابة مناعية.

إمكانات العلاج

وقد سلطت هاتان الدراستان (وغيرهما) معاً ضوءاً جديداً على كيفية عمل «مركب بروتين الإصلاح» لحماية الجينوم عند تكاثر الخلايا، وكيف أنه يمكن عندما لا يعمل بشكل صحيح أن يحفز الجهاز المناعي الفطري بطرق يمكن أن تعزز السرطان.

وقد يؤدي فهم هذه الآليات إلى استراتيجيات تخفف من «تنشيط المناعة المزمن»، مما قد يمنع تطور الأورام، أو يقدم طرقاً علاجية جديدة، كما يفتح طريقاً واعدة للعلاجات التي قد تمنع سوء التنظيم الجيني، أو تخفف من الاستجابات المناعية الضارة.