صادق هدايت.. شقاء المثقف في زمن الديكتاتورية

العديد من آثاره لا يزال محظورا في إیران

صادق هدايت
صادق هدايت
TT

صادق هدايت.. شقاء المثقف في زمن الديكتاتورية

صادق هدايت
صادق هدايت

الحديث حول صادق هدايت بحاجة إلی جرأة، ذلك لأن وصف آثاره وفكره وذكر مسلكه وسیرته يمثلان مغامرة خطيرة ومسؤولية كبيرة تلقي في قلب كل باحث الرعب من الضياع في آلاف العوالم المثيرة للخوف التي يخلقها هدايت نفسه. وحتى المؤلفات الخمسون التي كتبها عنه وعن آثاره المفكرون والكتاب البارزون لا تقدم عن لغز حياته وآثاره سوى حكاية ناقصة، ابتداء من مؤرخ مثل الدكتور محمد علي كاتوزيان الذي حلل حياة هدايت وموته إلى النقاد الأدبيين مثل الدكتور شميسا والدكتور شريعتمداري اللذين عمدا إلی تحليل آثاره، وحسن قائميان الذي أصدر آراء كبار الكتاب الأجانب حول هدايت في كتاب من 300 صفحة، وحتى أعضاء مؤسسة صادق هدايت للجائزة الأدبية، إذ لم يصور كل منهم سوى جانب من هيمنة هدايت الكبيرة على الأدب في إيران.
كان صادق هدايت كاتبا ومترجما ومثقفا إيرانيا بارزا من رواد كتابة القصة الحديثة في إیران. وقد عد كثير من الباحثين رواية «البومة العمياء» أبرز آثار الأدب القصصي المعاصر في إیران. ورغم أن شهرة هدايت تعود إلی الكتابة، فإنه ترجم أيضا آثارا لكتاب كبار مثل جان بول سارتر، فرانتس كافكا وأنطوان تشيخوف، كما أن آثاره هو نفسه ترجمت إلی 25 لغة.
وكان هدايت قد كتب، في سيرة متواضعة ومؤلمة بقلمه قبل ست سنوات من انتحاره في شقته المستأجرة في شارع شامبيونيه بباريس، قائلا: «إني لأشعر بالبهیمية إزاء حديثي عن نفسي بالمقدار نفسه الذي أشعر فيه إزاء الإعلام المتأثر بأمیركا. ترى، ما جدوى أن يعرف أحد تاريخ ولادتي؟ هذه الإيضاحات تذكرني دوما بسوق الماشية حيث يعرض للبيع بغل عجوز وتنقل للمشتري بصوت عال تفاصيل عن خصاله وعيوبه من أجل جذب هذا المشتري، وفضلا عن ذلك فإن الحدیث عن حیاتي لا یضم أي ملاحظة بارزة فلیس هنالك من حدث لافت للنظر قد وقع فیها، كما لم یكن لي أي عنوان، ولا أحمل أي شهادة مهمة، ولم أكن أیضا تلمیذا متمیزا في المدرسة، بل علی العكس من ذلك فقد كنت أواجه الإخفاق دائما. وكنت في الدوائر التي عملت فیها عضوا غامضا ومجهولا دائما، وكان رؤسائي حانقین عليّ، حیث إن استقالاتي كانت تقبل بفرح جنوني كلما قدمتها. وبشكل عام، فإن البیئة التي كنت أعیش فیها كانت تحكم علي بأنني كائن طفیلي عدیم الجدوى، وربما كانت هذه هي الحقیقة».
وتكاد كل آثاره تكون (كما یشهد النص السابق) غير متناغمة مع أفكار عامة الناس، إلا أن حیاة هدایت وآثاره هي في الحقيقة خلاصة أحوال أكثر أفراد المجتمع الإیراني بصیرة في السنوات التي تلت فشل الثورة الدستوریة وعدم تحقق العدالة والحریة، وانتكاسة التحديث مقابل صعود السلفیة. لقد كان هدایت، كما یذكر عابدیني: «من جیل مثقفي عصر رأوا فیه تقلبات الثورة الدستوریة والطموحات غیر الواقعیة للمفكرین المطالبین بالحكم الدستوري، وهو جیل مضطرب ومرتبك الفكر، رأی كابوس الانحطاط والاضمحلال بأم عینه، جیل وجد نفسه علی أعتاب التحول وحافة الأزمة، ومع ذلك كان یعمل علی إحداث تغییر جدید للحیاة».
إن الازدواجیة في قصص هدایت، الذهنیة والواقعیة، هي تجسید لهذا الانفصام الاجتماعي - الفكري. كان لا يطيق «الحیاة المتحجرة المتداولة»، التي تمر كأنها كابوس مرعب»، ولا یمیل إلی «شبه الحداثة الاستبدادیة لرضا شاه». وكان یثیر في قصصه التساؤلات حول القیم المترسخة من خلال السخریة اللاذعة والمدمرة، فاضحا المجتمع الخاضع للديكتاتوریة والخرافات من خلال وصفه النقدي، كاشفا عن تآكله الداخلي، معلنا في الوقت نفسه براءته من الناس الذین «تقبلوا هذه البیئة الوضیعة والمتعصبة».
یشید هدایت في «أغاني الخیام» بالشاعر الذي «لم یتقبل أبدا التقالید البالیة لبیئته، بل إنه یسخر بمنطق كل ترهاتهم». وهو ما یصف بالضبط حال هدایت نفسه، الذي یعد مثل الخیّام من الكتاب الإیرانیین القلائل الذین «رفضوا وكرهوا، حرفوا، حللت شخصیاتهم خطأ، وحققوا شهرة واسعة لكنهم باتوا في النهاية مغمورین ومجهولین».
یذكر حسن میرعابدیني، الكاتب والباحث الأدبي، أنه، خلال السنوات التي كان فیها معظم الكتاب یرون الحقیقة من نافذة بیوت الفاحشة الضیقة أو كانوا یشفقون علی مصیر الأمراء عدیمي الأصل، في قالب القصص الأخلاقیة التاریخیة المفعمة باللواعج والآهات، كان هدایت يوجه سخريته لاذعة علی عامة الجهال وعباد الشهوات، معلنا البراءة منهم، وكأنه یرید الانتقام من هؤلاء البشر السعداء الذین لیس لهم أي مُثُل ولا یتحملون مثل هذا الوضع، دون أن ینطقوا بكلمة».
ویكتب هدایت نفسه في «ثلاث قطرات من الدم»، قائلا: «لا یوجد أي وجه شبه بیننا. فأنا أختلف عنهم اختلاف الأرض عن السماء. إن آهات هؤلاء البشر وصمتهم وشتائمهم وبكاءهم تملأ منامي بالكوابیس دوما».
إن علاقته بعامة الناس متناقضة ومعقدة كعلاقته مع الأرستقراطیین، وكان هو نفسه ينحدر من أسرة متنفذة من سلالة رضا قلي خان، وهو من أشهر الكتاب والشعراء والمؤرخین في القرن التاسع عشر المیلادي في إیران، لكن هدايت اختار أن ينفصل عن عائلته، وعمل موظفا بسطا في إحدى الدوائر. وعرف في تلك الفترة بنزعته التشاؤمية الانطوائية، منصرفا لكتاباته، كما تعلم اللغة الفرنسیة في مدرسة «سان لویس» في إیران. وتعرف من خلال قسیس في المدرسة علی الأدب العالمي. وفي هذه المدرسة نفسها وجد في نفسه رغبة في تعلم الفلسفة المیتافیزیقیة، ثم أصدر بعد ذلك بعض المقالات حول «السحر في إیران»، كما أصبح نباتیا وألف كتابا حول فوائد النباتیة، وبقي نباتیا حتى نهایة عمره. وكان یری أن الإنسان إن أراد أن یكف عن الحرب، فإن علیه أولا أن یكف عن قتل الحیوانات وأكلها.
وفي عام 1926، توجه إلی بلجیكا مع أول مجموعة من الطلاب المتوجهین إلی الخارج للدراسة في فرع الهندسة. ولكنه لم یأخذ الدراسة علی محمل الجد واتجه إلی الكتابة. وفي تلك السنة، نشر قصة «الموت»، في مجلة «إیرانشهر»، التي كانت تصدر في ألمانیا، وكتب مقالة بالفرنسیة باسم «السحر في إیران» في مجلة «لیه فیل دلیس».
وبعد فترة شعر بالملل والسأم من حالة الجو في تلك المدینة وأوضاعه الدراسیة، وأخذ یتحین الفرص للذهاب إلی باریس التي كانت آنذاك مركز الحضارة الغربیة. وأخیرا نقل بعد سنة إلى باریس لمواصلة الدراسة. وفي باریس مر بتجربة عاطفیة فاشلة تركت تأثیرا كبيرا علی آثاره، بحیث أصبح الحب حسب النظرة الفرویدیة یشكل أحد أهم مضامین آثاره.
كتب في وصف الحب في قصة «آفرینكان» (نسك من كتاب «زند» المقدس) قائلا: «الحب مثل أغنیة بعیدة، نغمة خلابة وساحرة یترنم بها الإنسان القبیح والدمیم. وعلینا أن لا نتبعه ولا ننظر إلیه من الأمام، لأن ذلك سوف یقضي علی لذة الترنم به، كما یجب أن لا نتخطى عتبة الحب، ونكتفي بهذا القدر».
وهكذا ازدادت النزعة الباطنیة لدی هدایت شیئا فشیئا، وأخذ هاجس الموت یسیطر علی وجوده. وإثر الكآبة التي أصیب بها، والتي كانت تتعمق یوما بعد آخر، أقدم في عام 1928 علی الانتحار لأول مرة، لكنه نجا من الموت. وقد وصف هذه الحادثة في «مذكرات مجنون». وبعد أن جرب لحظات مواجهة الموت، وظل یعاني منها حتى نهایة عمره، كان یدفع شخصیات أعماله هي أیضا إلى أن تمارس هذه التجربة، كي تشهد علی خواء الحیاة وعبثیتها.
وفي عام 1930، عاد إلی طهران دون أن ینهي دراسته، وجرى توظیفه في المصرف الوطني الإیراني. ولكنه لم یكن یشعر بالرضا من عمله، وكانت رسائله في هذه الفترة مفعمة بالشكوى من الدنیا وحالها، رغم أن عمله في المصرف أدی إلى صداقته المباركة مع حسن قائمیان الذي كرس نفسه بعد وفاة هدایت للتعریف به وبآثاره.
وخلال السنوات التالیة تولى عدة مناصب في المدیریة العامة للتجارة، وزارة الخارجیة، الشركة العامة المساهمة للبناء، مدیریة الموسیقى في البلاد، وجامعة الفنون الجمیلة. رغم أنه لم یبقَ في كل منصب أكثر من عام، وكان یقدم استقالته كل عام مرة تقریبا.
أثناء ذلك، نشر آثاره الواحد تلو الآخر. وتعد السنوات من 1931 إلى 1935 فترة غزیرة بالإنتاج بالنسبة إلى هدایت حين نشر العدید من الآثار البحثیة والقصصیة. وخلال هذه السنوات نفسها أدی كتابه القیم «وغ وغ ساهاب» (لعبة یخرج منها صوت عندما یتم تدویرها)، الذي كتبه منتقدا حالة التردي الثقافي والأدبي في تلك الفترة، إلی استدعائه لمدیریة الأمن في طهران، وبذلك أصبح صادق هدایت من أوائل الذین منعوا من الكتابة في تاریخ الرقابة في إیران.
سافر هدایت عام 1936 إلى الهند بحجة تعلم اللغة البهلویة، وأصدر هناك أكثر آثاره شهرة «البومة العمیاء»، في 50 نسخة.
كتب هدایت في أحد المواضع: «كانت اللغة البهلویة ذریعة. والآن فإن الجمیع أخذ یطبلون لي؛ بأنني قد ذهبت إلی الهند لأدرس البهلویة! كنت أرید الفرار. لقد وقع لي حادث فذهبت إلى الهند وتذرعت بالبهلویة.. كنت قد ذهبت لأطبع (البومة العمیاء)، ولكن لم یتیسر لي ذلك، و(بعد التي واللتیا) تمكنت من استنساخ 50 نسخة.. ثم إنني عندما كنت في طریقي إلى الهند كنت أخشی أن یصادروها مني في الجمارك لأخسر كل شيء».
وقد ترجم في الهند «سیرة أردشیر بابكان» من البهلویة إلی الفارسیة.
ثم عاد إلی إیران، وشكل في عام 1934 مع مجموعة من كتاب إیران الشباب الذین كانوا قد درسوا في أوروبا جمعیة «الربعة» الأدبیة المتجددة، التي كانت قد وقفت موقفا معارضا غیر مباشر إزاء جمعیة «السبعة»، التي كانت تضم الأدباء السلفيين الحكومیین. وقد مارست هذه المجموعة النشاطات الأدبیة والثقافیة ونشرت بعض الآثار بشكل مشترك.
یقول مجتبی مینوي، الأدیب المؤرخ والكاتب الإیراني الشهیر حول هذا العهد: «لقد كنا نحارب بقوة ونسعى من أجل الحصول علی الحریة، وكان صادق هدایت مركز دائرتنا».
وبعد سنوات الأربعینات، وإثر احتلال الحلفاء لإیران وانفتاح الأجواء السیاسیة، تعاون هدایت مع بعض أعضاء حزب توده، ونشر بعض المقالات في صحیفة «مردم» (الشعب)، التي كانت اللسان الناطق لحزب توده، رغم أن أمله خاب في هذا الحزب بعد نهایة الحرب واندلاع مشكلتي أذربیجان وكردستان، فازداد تشاؤمه من الأوضاع أكثر من ذي قبل.
وكانت آخر أعماله «توب مرواري» (مدفع اللؤلؤ) (نصب في ساحة أرك بطهران، كانت النساء غیر المتزوجات یقصدنه لقراءة الحظ)، وقد صدر هذا الكتاب بعد موته، كما ترجم رواية «المسخ» لكافكا التي نشرها في مجلة «سخن». سافر هدایت إلی فرنسا عام 1950، بعد أن بلغ الـ48، وبعد أن حصل علی التأشيرة بفعل تقریر طبي. وانتحر أخيرا بالغاز في التاسع من أبريل (نيسان) 1951. وكان قد أتلف قبل بضعة أيام من انتحاره كثیرا من قصصه غیر المطبوعة.
يذكر محمد علي جمال زاده، الكاتب والمترجم الإیراني الشهیر عنه: «لم یكن صادق هدایت یتقبل كثیرا من قيم الناس، وكانت تساوره في داخله تساؤلات حول الخلق كانت قد افترست روحه، علی حد قوله».
وفي الحقیقة فإن هدایت یمثل مثقف العهد الديكتاتوري الأسود، المثقف الذي حرم من أي وجود اجتماعي مفيد، إنه كما فقد إيمانه بقدرة الكاتب علی التأثیر وبالتالي التغيير. وكان یعلن احتجاجه واعتراضه على مظاهر الفوضى التي كان الجمیع قد اعتادها، ولم تكن شخصيته المنفتحة الفكر لتتحمل الأمية والفقر والجهل السائد، ولذلك فقد اعتزل، معانيا من الضیاع الروحي الكبير.. ثم جاء الانتحار، مثله مثل بعض الوجوه الأدبیة الشهیرة التي أقدمت علی الانتحار في ذلك العهد، كرضا كمال، وشهرزاد جهانكیر جلیلي.
وللأسف، كثیر من آثار هدایت لا يزال محظورا في إیران في الوقت الحالي، كما توقف طبع معظم آثاره المسموح لها بالنشر.
* خدمة «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي)



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).