الهوية وجدل الزمان والمكان

ليست مفهوما مستقرا ولا جوهرا مستقلا

سعيد السريحي أثناء إلقاء ورقته
سعيد السريحي أثناء إلقاء ورقته
TT

الهوية وجدل الزمان والمكان

سعيد السريحي أثناء إلقاء ورقته
سعيد السريحي أثناء إلقاء ورقته

قبل مائة عام طرح محمد سرور صبان (أديب حجازي شهير 1898 - 1971) على أدباء عصره سؤالا يتعلق بما ينبغي عليهم اتباعه من أساليب الكتابة وما يرون الأخذ به من: «محافظة» تتحقق بالاقتداء بالأدباء والكتاب العرب الأوائل، و«تجديد» تترسم فيه خطى المحدثين من أدباء المهجر وبعض كتاب مصر والشام.
غير أن السؤال الذي يبدو في ظاهره سؤالا أدبيا محضا لا تتجاوز طموحات السائل من ورائه البحث في أساليب الكتابة، كان في جوهره سؤالا يخفي هما مؤرقا يتصل بمآلات الهوية في عصر استشرف مثقفوه ما باتت تتعرض له هذه الهوية من زحزحة عما استقرت عليه منذ قرون يتوارثها أقوام غابرا عن غابر كما يتوارثون حقولهم وماشيتهم وقسمات وجوههم.

* سؤال هوية
كان سؤال الأساليب سؤال هوية ولذلك فاضت إجابة من أجابوا عنه عن الوقوف على ما ينبغي نهجه من أخذ بالمحافظة على أساليب اللغة أو تجديد فيها، فراحوا يتحدثون عن العصر وما طرأ فيه من أحداث، والشعوب وما مسها من تغير في الأهواء، والأمة وما تعانيه من ضعف، والغرب وما تكشفت عنه خططه من نزعات استعمارية، واستغرقت إجاباتهم في تمجيد ماض كان لنا فيه العز والتمكين والتحذير من مستقبل يحمل من المخاطر ما لا يترك لبشارة الخير مكانا، وراحوا يرصدون ما استجد في حاضر الناس من أفكار وسلوكيات لم تكن تعهد عند آبائهم وأجدادهم ولم تكن تنتسب لما توارثوه عنهم من أفكار وسلوكيات وأساليب للحياة.
طرح محمد سرور صبان سؤاله ذلك في عصر كان يشهد منعطفا تاريخيا تمر به الأمة، تتهيأ فيه الثورة العربية الكبرى لخلع الخلافة التي دانت لها قرونا ومركزية دولة الخلافة التي دانت لها عبر التاريخ، سواء قامت في المدينة أو دمشق أو بغداد أو إسطنبول، حقبة كانت تمثل مفصلا من مفاصل التاريخ وساعة من ساعات تحولاته الكبرى (..) وكان سؤال صبان سؤال من يدرك ما يمكن أن يحدثه تغير الزمان من تغيير في تلمس جوانب الحياة المختلفة ويؤثر تأثيرا لا مفر منه في الهوية التي لم تعد مكوناتها خاضعة للإرث الذي كان المشكل والمكون الوحيد للهوية.
وإذا كان موضوع الهوية هو الموضوع الذي يقف وراء السؤال الذي شكلت الإجابات التي وردت عليه أول كتاب صدر في المملكة هو كتاب المعرض، فإن موضوع الهوية نفسه هو الذي يقف وراء أول رواية كتبت في المملكة وهي رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري الذي اتخذ من السرد قناعا يعبر من ورائه عن موقفه من التغيرات التي تطرأ على الهوية، كما اتخذ محمد سرور من السؤال قناعا يعبر من ورائه عن حيرته فيما ينبغي اتخاذه من مواقف تجاه ما يعرض للهوية من تغير بتغير العوامل المشكلة لها (..) فالأنصاري الذي يمثل الاتجاه المحافظ لم يتساءل كما فعل الصبان، وإنما حمل إجابة جاهزة تؤكد على أثر المكان في الهوية، وما يمكن أن تتعرض له من تشويه وانحراف، وتحذر تلك الإجابة الجاهزة من المصير الذي يمكن أن ينتهي إليه من يستسلم لأثر المكان على هويته.
ولو أننا استعدنا كثيرا من الخلافات التي دارت وتدور حول المستجدات في عصرنا الراهن لوجدنا أن سؤال الهوية هو المحرك لتلك الخلافات، ولا تتوقف المسألة عند حدود المذاهب الأدبية، بل تمتد لكي تشمل كل مناحي الحياة وجوانبها، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.
ولم يكن لتلك الخلافات والاختلافات إلا أن تكون حادة تبلغ مرحلة الصراع ومحاولة التصفية والعزل والحجب والتهميش، وذلك لأنها خلافات حول هوية ظلت قارة مستقرة قرونا طويلة، ثم لم تلبث أن تكالبت عليها العوامل المختلفة التي بدأت تغير ملامحها وتعيد تشكيلها، فعنف تلك الخصومة حولها إنما مرده لصلابتها وقوتها، ولو لم تكن كذلك ما اشتط المدافعون عنها والذائدون عن حماها ورموا خصومهم بما رموهم به.
وعلى الرغم مما أحدثه ذلك الخلاف من شرخ في البناء الثقافي، بل والاجتماعي كذلك، فإنه علامة على مجتمع يشعر بمسؤوليته فردا فردا عن الحفاظ على هذه الهوية أو تطويرها، حتى وإن لم يكن يمتلك من أدوات المعرفة ما يؤهله لهذه أو لتلك، فيزج بنفسه في أتون معركة لم يهيئ لها سوى الجدل، ولم يهيئه لها غير الحماس.

* جدلية الزمان والمكان
ما سبق من حديث يمكن له أن يكون مدخلا للحديث عن جدل الزمان والمكان في تكوين شخصية الإنسان بشكل عام والمبدع باعتباره معبرا عن هذا الجدل، دون أن يكون الاعتداد به مبدعا تمييزا له عن مطلق الإنسان من حيث خضوع شخصيته لهذا الجدل الذي يشكل فيه المكان والزمان جانبا، ويشكل الإرث المنتمي لزمان ومكان مختلفين الجانب الآخر.
ولو أننا راجعنا مفهوم الشخصية لاكتشفنا أن النظرة إليها تغلب عليها رؤيتها باعتبارها شخصية أحادية الجانب، فهي، على سبيل المثال، إما أن تكون عالمة أو جاهلة، منفتحة أو منغلقة، حسنة أو شريرة، وكل تعدد في الشخصية من شأنه أن فيها فصاما وتشويها طارئا عليها، وغاب عن هذا التصور ما يمكن أن تتسم به الشخصية الإنسانية من مرونة تجعلها قابلة لاحتمالات متعددة لا يمكن معها أن توضع في إطار محدد ثم يعلق عليها عنوان معين، غاب عنا ما تستبطنه الشخصية الإنسانية من قلق يجعلها حمالة أوجه من ناحية ويجعلها في الوقت نفسه قادرة على إعادة تشكيل نفسها وفق ما تتعرض له مؤثرات وما توضع فيه من مواقف، وكأنما الشخصية الإنسانية تخلص بذلك لعنصر خلقها الأول من صلصال قابل للتشكل وليس من زجاج لو أردنا إعادة تشكيله تكسر.
وما يمكن أن تتسم به الشخصية من تعدد في جوانبها وقابلية لإعادة التشكيل، يتسم به المجتمع نفسه على اعتبار أنه هو الشخصية الكلية أو الشخصية الكبرى التي يزيدها التعدد ثراء وقابلية لتفهم العالم من حولها لولا سيطرة بعض التصورات التي لا ترى غير صورة واحدة لا ينبغي أن يخرج عنها، فإن خرج عنها لم يكن على من يتولون أمره ما هو أوجب من رده إليها.
تلك الصورة الأحادية الجانب أو الأحادية المنظور للشخصية وللمجتمع تجهل أو تتجاهل جدلية الزمان والمكان وتركيبة الشخصية من حيث تأثرها بما يطرأ على الزمان من تغييرات، وما يفرضه المكان من تحولات، ولا ترى في الشخصية وفي المجتمع كذلك غير إعادة تمثل لما جرى الاستقرار عليه من هوية متوارثة معزولة عما حولها غير قابلة للتأثر بما يحيط بها، دون أن يدرك أولئك الذين يحملون هذه الرؤية للهوية أن الهوية التي يتبنونها ويعتقدون أنها مطلقة إنما هي نتاج لجدل مكان وزمان كذلك، جدل مكان تغير وزمان اختلف.
إن التأسيس الحقيقي لنظرة تعتد بجدل المكان والزمان في تحديد مفهوم الهوية وتشكيل شخصية الإنسان ينبغي أن يتأسس على أن الهوية ليست مفهوما قارا مستقرا ثابتا، ليست جوهرا مستقلا، وإنما هي مفهوم قلق يمثل نقطة تقاطع لمؤثرات عدة وظروف مختلفة، ولذلك تتغير بتغير الزمان والمكان وتختلف باختلافهما، فالمتغيرات ليست مجرد إضافات على ما هو قار، وإنما عناصر أساسية في تكوين هوية تكتسب صفة السيرورة والتحول الدائمين.
الهوية ليست وجودا سابقا علينا يتلبسنا ويحكم إغلاق دائرته حولنا، وإنما هي وجود يتشكل بناء على ما نتلقاه من تعليم وما نرثه من معارف وما نتعرض له من مؤثرات، وجود يكبر بنا ومعنا، نشكله ويشكلنا في آن واحد.
غير أن ذلك كله لا يعني أن ثمة عناصر جوهرية في تركيبة الهوية تتصل بالدين واللغة والقيم الاجتماعية المختلفة، غير أنها العناصر التي تمكن من استيعاب المتغيرات الطارئة باعتبارها محددات جديدة للهوية أو محددات جديدة لا يمكن تعريف الهوية أو تحديد علاقتها بالعصر بمعزل عنها.
تلك هي نتائج جدل الزمان والمكان وتبلور مفهوم الهوية بناء على هذا الجدل، وهي نتائج لا تعيد تشكيل شخصية المبدع فحسب، بل مطلق الإنسان، ولعل أولئك المنكرين لمثل هذا الجدل هم أكثر الناس وقوعا في أثره، إذا لا معنى لشططهم في الخلاف إلا استشعارهم لما أحدثته هذه المتغيرات فيهم من تأثير، أو لعجزهم عن إعادة ترتيب العلاقة بين ما كانوا عليه وما أصبح يلزمهم العصر على أن يكونوا عليه، فخرجوا من ذلك كله بنقمة هي أشبه بنقمة من يرى النار تمسك بأطراف عباءته.

* ملخص ورقة ألقاها الناقد السريحي في الأمسية الفكرية بالمنتدى الثقافي بفرع جمعية الثقافة والفنون بالباحة حول الإنسان المبدع وجدلية الزمان والمكان، يوم الأحد الماضي 8 يونيو (حزيران)



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).