صحافيو تركيا وكابوس 5 أعوام من الاحتجازات والرقابة الذاتية

اختفاء نحو 170 مؤسسة إعلامية في خضم تصفية الحسابات

جانب من مظاهرة تطالب بحرية الصحافية في إسطنبول في أبريل الماضي وعلى اليافطة «لا يجوز الحكم على الصحافة» (غيتي)
جانب من مظاهرة تطالب بحرية الصحافية في إسطنبول في أبريل الماضي وعلى اليافطة «لا يجوز الحكم على الصحافة» (غيتي)
TT

صحافيو تركيا وكابوس 5 أعوام من الاحتجازات والرقابة الذاتية

جانب من مظاهرة تطالب بحرية الصحافية في إسطنبول في أبريل الماضي وعلى اليافطة «لا يجوز الحكم على الصحافة» (غيتي)
جانب من مظاهرة تطالب بحرية الصحافية في إسطنبول في أبريل الماضي وعلى اليافطة «لا يجوز الحكم على الصحافة» (غيتي)

تجمع الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة على اعتبار الأعوام الخمسة الأخيرة الأسوأ على الإطلاق في مسيرة الصحافة بتركيا؛ لما سجلته من اختفاء نحو 170 مؤسسة إعلامية وتعرض الصحافيين إلى لكثير من الضغوط، سواء بشكل مباشر عن طريق قضايا يتهمون فيها بالتورط في دعم الإرهاب أو بطرق أخرى تقود أهل الصحافة إلى خيار الرقابة الذاتية.
الأوضاع السياسية حدّت من حرية التعبير وفرضت حالة الطوارئ عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016 تضييقاً على تحركات الصحافيين.
تشير تقارير حقوقية إلى حصيلة كبيرة من الصحافيين المغيبين خلف القضبان جراء ممارسة مهنتهم في الوقت الذي تؤكد فيه السلطات الرسمية أنه لا يوجد سوى صحافي أو اثنين فقط يحاكمون على خلفية جرائم مهنية، فيما الباقون أوقفوا لجرائم تتعلق بدعمهم للإرهاب.
يؤرخ عام 2014 لبداية الصدام المفتوح بين السلطة والصحافة بعد أن كانت تركيا سجلت معدلاً منخفضاً جداً للصحافيين في السجون في العام 2013، ومع وصول الصدام بين السلطات التركية وحركة الخدمة المحسوبة على الداعية فتح الله غولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية منذ عام 1999 عقب ما سمي بتحقيقات الفساد والرشوة الكبرى في تركيا في الفترة ما بين 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) 2013، وما أعقبها من توتر بين الحكومة التركية التي كان يترأسها في ذلك الوقت رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب إردوغان وحركة الخدمة، التي وصفتها الحكومة بـ«الكيان الموازي»، ونسبت إليها محاولة الإطاحة بالحكومة عبر هذه التحقيقات، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحكومة حملة مكثفة على مؤسسات الحركة الاقتصادية والإعلامية تم خلالها فرض الوصاية على مجموعة «إيبك» التي كانت تملك صحيفة «بوجون» وعدداً من القنوات التلفزيونية، ثم صحيفة «زمان» والمجموعة التابعة لها والتي كانت تشمل وكالة أنباء «جيهان» وصحيفة «تودايز زمان» وبعض المجلات، ومجموعة قنوات «سمان يولو» وكان مديرها العام هدايت كاراجا أول من تقرر توقيفه لتهمة تتعلق بمشهد في مسلسل «تركيا واحدة» كان يبث عبر القناة ورأت فيه السلطات التركية رسالة موجهة لإثارة الرأي العام والإطاحة بالحكومة، ولا يزال موقوفاً حتى الآن.
عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في منتصف يوليو 2016، بدأت حملة واسعة لم تقتصر فقط على الصحف والقنوات التلفزيونية التابعة أو القريبة من حركة غولن، وإنما طالت الصحافيين والصحف المؤيدة للأكراد مثل «أوزجور جوندام» والصحف اليسارية المعارضة مثل «جمهوريت» و«سوزجو».
وبحسب ما رصدت المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة أصبح مئات الصحافيين إما يقبعون في السجون بتهم تتعلق بالإرهاب أو دعم الانقلاب ومنهم صحافيون وكتاب بارزون وكبار بينهم على بولاج الذي كان في السابق مستشاراً للرئيس التركي رجب طيب إردوغان وقت إن كان رئيساً للوزراء ونازلي إيلجاك التي كانت نائبة بالبرلمان وعملت في الكثير من الصحف والقنوات التلفزيونية القريبة من الحكومة والشقيقان أحمد ومحمد ألطان والصحافي الاستقصائي البارز أحمد شيك وشاهين ألباي مدير تحرير صحيفة «زمان» السابق وغيرهم، أو فارين خارج البلاد هرباً من ملاحقاتهم كما فعل عدد من رؤساء تحرير الصحف ووكالات الأنباء البارزة في تركيا، ومنهم جان دوندار رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت»، وأكرم دومانلي رئيس تحرير صحيفة «زمان» الأسبق، وعبد الحميد بيلجي رئيس تحرير وكالة أنباء «جيهان» وصحيفة «زمان» السابق.
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، طالب الادعاء العام في تركيا بعقوبة السجن المشدد مدى الحياة «مرات عدة» لثلاثة من الصحافيين والكتاب البارزين في القضية المعروفة باسم «الذراع الإعلامية لمنظمة فتح الله غولن»، هم نازلي إيلجاك والأخوان أحمد ومحمد ألطان في إطار محاكمات محاولة الانقلاب الفاشلة بتهم «محاولة منع البرلمان التركي من القيام بواجباته أو إلغائه تماماً» و«محاولة إزالة حكومة الجمهورية التركية أو منعها من القيام بواجباتها».
وفي مايو (أيار) 2017، نفذت قوات الأمن التركية عملية دهم لمقر صحيفة «سوزجو» اليسارية اليومية المعارضة في إسطنبول بموجب مذكرة صادرة من النيابة العامة تستهدف مالك الصحيفة ومديرها التنفيذي واثنين من الصحافيين بدعوى الانتماء إلى حركة غولن، كما قامت بتفتيش منازلهم. ووجهت اتهامات إلى المتهمين الأربعة بأنهم أعضاء في منظمة إرهابية (في إشارة إلى حركة غولن) وارتكبوا جرائم باسم المنظمة وتسهيل الهجوم على رئيس الجمهورية» و«التمرد المسلح ضد الحكومة التركية».
وشملت مذكرة الاعتقال مسؤولة الموقع الإلكتروني للصحيفة مديحة أولجون، ومدير الشؤون المالية يونجا كاليلي ومراسل الصحيفة في مدينة إزمير(غرب تركيا) جولمان أولو.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، طالب الادعاء العام في تركيا بإنزال عقوبات بالسجن المؤبد، أو لمدد طويلة، بحق 9 من صحافيي وكتاب صحيفة «أوزجور جوندام» الموالية للأكراد، بينهم الكاتبة الروائية الحاصلة على جوائز عدة أصلي إردوغان، بتهم الانتماء إلى منظمة إرهابية، والإضرار بوحدة البلاد. واعتقلت أصلي إردوغان في أغسطس (آب) الماضي، هي ونحو 24 موظفاً آخر بالصحيفة التي صدر حكم قضائي بإغلاقها بتهمة نشر دعاية لـ«العمال الكردستاني».
من أبرز المحاكمات التي شغلت أوساط الرأي العام المحلي والعالمي ولفتت الانتباه إلى أزمة الصحافة والصحافيين في تركيا قضية صحيفة «جمهوريت» كبرى الصحف العلمانية اليسارية المعارضة لحكومة العدالة والتنمية، التي انطلقت في الرابع والعشرين من يوليو الماضي بمحاكمة 17 صحافياً اتهموا بأنهم أيدوا من خلال كتاباتهم أو تغريداتهم وتدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي 3 مجموعات تعدها أنقرة «إرهابية» وهي حزب العمال الكردستاني، ومنظمة حزب جبهة التحرير الشعبي الثوري اليسارية المحظورة، وحركة الخدمة التابعة للداعية فتح الله غولن واستهداف الرئيس رجب طيب إردوغان «بوسائل حرب غير متكافئة».
ومن الأسماء المعروفة في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية في تركيا من بين الخاضعين للمحاكمة في هذه القضية، الكاتب قدري غورسيل ورئيس التحرير مراد صابونجو، إضافة إلى رسام الكاريكاتير موسى كارت والكاتب الصحافي الاستقصائي أحمد شيك، المعروف خصوصاً بكتابه الذي نشر عام 2011 تحت عنوان «جيش الإمام» الذي كشف فيه مدى قوة القبضة التي كانت لدى حركة الخدمة التابعة للداعية فتح الله غولن، المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، على الدولة التركية.
وبالإضافة إلى ذلك، يحاكم غيابياً رئيس تحرير الصحيفة السابق جان دوندار الذي فر إلى ألمانيا، حيث حكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام وعشرة أشهر على خلفية تقرير في الصفحة الأولى للصحيفة اتهم فيه الحكومة التركية بإرسال أسلحة إلى سوريا في القضية المعروفة باسم «شاحنات المخابرات» والتي حكم فيها بالسجن المؤبد في 14 يونيو (حزيران) الماضي على نائب حزب الشعب الجمهوري أنيس بربرأوغلو (وهو صحافي أيضاً وكاتب مقالات في جمهوريت) بتهمة إفشاء أسرار الدولة بغرض التجسس السياسي أو العسكري بعد أن سلم الصحيفة نفسها مقاطع فيديو تظهر عمليات نقل الأسلحة.
يرى بعض المحللين أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان استفاد من المتغيرات المهمة التي يشهدها العالم والمنطقة، ومن بعض القضايا الداخلية في الحصول على تنازلات من بعض الدول، ومنها دول الاتحاد الأوروبي، التي دخلت مع تركيا في مفاوضات وصفقات مهمة بخصوص أزمة اللاجئين، وهو ما عرض الاتحاد الأوروبي لانتقادات كثيرة.
بدورها، نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية مؤخراً تقريراً انتقدت فيه الاتحاد الأوروبي وقالت: إنه تخلى عن مبادئ الديمقراطية والحريات مقابل موافقة تركيا على مساعدته لتخطي أزمته الخاصة باللاجئين.


مقالات ذات صلة

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.