«ما بعد الحداثة» انتهت... لكن ما الذي حل محلها؟

بين أول رسالة نصيّة وحرب الخليج أعادت التكنولوجيا ترتيب العالم

عمارة ما بعد الحداثة في معرض في فرانكفورت 2014
عمارة ما بعد الحداثة في معرض في فرانكفورت 2014
TT

«ما بعد الحداثة» انتهت... لكن ما الذي حل محلها؟

عمارة ما بعد الحداثة في معرض في فرانكفورت 2014
عمارة ما بعد الحداثة في معرض في فرانكفورت 2014

مع نهاية ثمانينات القرن الماضي، توالت الإعلانات عن موتٍ محتملٍ لمرحلة ما بعد الحداثة كتيار شامل يحكم توجهات الفكر الإنساني - الغربي - وتجلياته في السياسة والفنون ومنتجات الثقافة، وتسابق عديد من الروائيين والفنانين والنّقاد والمؤرخين على نشر بيانات لهم عن معالم الموت السريري لتلك المرحلة من زوايا مختلفة، قبل أن ينظّم متحف «فيكتوريا وألبرت» اللندني معرضه الشهير في 2011 (ما بعد الحداثة 1970 - 1990)، الذي اعتبره الكثيرون في الغرب بمثابة حفل جنائزي رسمي لدفن تلك المرحلة بكل ما فيها.
كانت ما بعد الحداثة لجيل نهاية الستينات وبداية السبعينات نوعاً من نفي لمرحلة الحداثة لا تياراً بديلاً قائماً بحد ذاته، كما كان حال سابقتها مرحلة الحداثة بأفكارها الكبرى التي تفسّر العالم وتنظمه. لقد أسقطت ما بعد الحداثة كل تلك الثّيمات الكبرى: الحقائق الشاملة والاشتراكيّة والدين وفكرة التقدم وحتى مفهوم التاريخ ذاته، دون أن تنجح يوماً في أن تطرح نفسها في لبوس واحد خارج النفي والتلفيق حتى وصفها أحد المفكرين بأنها «فقدان تام للعلاقة مع الإطار التاريخي على نحو يتسم بكثير من انعدام العمق وانتفاء المعنى وانحسار العواطف»، وأنها «إفلاس المنطق الثقافي للرأسماليّة المتأخرّة». لقد تنازل الغرب عن «الحقيقة» لمصلحة «اللا حقيقة»، واستبعد «النظريّة» لمصلحة «القصاصات المجمعّة».
مع ذلك فإن أحداثاً مثل سقوط جدار برلين، وانحلال الاتحاد السوفياتي، والألفيّة الجديدة، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)2001 كانت تشير بوضوحٍ بالفعل إلى أن العالم بصدد إعادة ترتيب أوراقه على نحو جديد، وأن قاطرة مرحلة «ما بعد الحداثة» قد فقدت قوتها الدّافعة، ولم تعد بقادرة على دفع عربة التاريخ إلى الأمام.
كان كتاب «حالة ما بعد الحداثة» للمفكر الفرنسي جان - فرنسوا ليوتارد بمثابة شهادة ولادة رسميّة لهذا الفضاء الهلامي الجديد المسمى «ما بعد الحداثة»، إذ كان يمكن تلمس تحولات في الأشكال الأدبيّة - لا سيما الرواية - ومنتجات الثقافة على تنوعها من رسم ورقص ونحت وأزياء منذ وقت مبكّر بداية السبعينات. وقد اتّخذ ذلك الفضاء بالفعل شكلاً رمزياً مجسداً في الهندسة المعماريّة، وتحديداً من خلال مبنى شركة الاتصالات الأميركيّة «إيه تي آند تي» (1984) من تصميم المعماري (الحداثي) فيليب جونسون، الذي خرج عن طوع الحداثة الوظيفيّة، وانتقل إلى استعارات شكليّة متوحشة ومفرّغة من سياقها التاريخي، لا معنى محدداً لها - ربما فقط نفي طرز الحداثة دون محاولة تقديم بديل مقنع.
تركّز خطاب مرحلة ما بعد الحداثة وقتها على تجريد أي معنى من السلطة على المنتج الثقافي (كما في نص أو عمل معماري أو فني). فكل المعاني ممكنة ويمكنها أن تتعايش معاً دون تناقضات وجوديّة. وهو ما برر لاحقاً إعادة تقييم كاملة لهياكل القوة السائدة في المجتمعات الغربيّة، وفتحت الأفق لفهم تجربة الوجود الإنساني من خلال تقاطع هويات متعددة بين الطبقة والجنسانيّة والدين والجنس والعرق والظروف الموضوعيّة معاً، وتظل دائماً في حالة سائلة، وهي الأجواء التي حكمت خبرة الجيل الحالي، ولا يزال البعض متعلقاً بها، مستشهداً ببعض الأعمال الأدبيّة التي ما زالت تستعين بأدوات تلك المرحلة دون أن يدرك أن الرواية بالذات تأتي متأخرة إلى المشهد الثقافي، وأن عشرات الأعمال كانت لا تزال تصدر متأثرة بأدوات الحداثة بعد دخول الحداثة مرحلة موتها.
يكفيك بالطبع أن تشاهد - دائماً في الغرب - فيلماً سينمائياً حديثاً، أو تستمع لعمل موسيقي جديد أو تحضر مؤتمراً أدبيّاً لتجد أنّ لا أثر مطلقاً لمرحلة ما بعد الحداثة. لا أحد خارج الدوائر المتخصصة الضيّقة يتحدث عن فوكو أو ديدرا أو بودليارد، ولم يقرأ أي من الشباب إيكو أو كالفينو أو ديليو. فما الذي حدث، وكيف لقيت ما بعد الحداثة نهايتها رغم أننا لا نجد رمزاً مجسداً - كما في بناية جونسون - ليعبّر عن تلك النهاية؟ لكن التساؤل الأهم يبقى ما الذي حل مكان «ما بعد الحداثة»، ويوجه مزاج الثقافة وإيقاع الحياة في الغرب راهناً؟
الواقع أن الـ25 عاماً الأخيرة شهدت تحولات جمّة مفاجئة ومفجعة ليس في طبيعة النتاج الثقافي فحسب، بل وعلى نحو أكثر جذريّة في أشكال السلطة وهيكليّات القوة ومعنى المعرفة وطرائقها، وكذلك مفهوم الغربيين لذواتهم وتصوراتهم عن الزمان والمكان و«الحقيقة». هناك في لحظة ما بين إرسال أول رسالة نصيّة عام 1992 وحرب الخليج 2003 أخذت التكنولوجيا الحديثة بإعادة ترتيب أوراق العالم من جديد، وانطلقت دون رحمة تعيد تعريف كل شيء: المُنتِج والمنتَج والمستهلك لكل معطيات الحياة البشريّة المعاصرة. لم يعد المستهلك مجرد متلقٍ للمنتجات الثقافيّة، كما تفترض العلاقات في مجتمع ما بعد الحداثة، بل قلبت معطيات التكنولوجيا الأدوار ليصبح المستهلك، وعلى نحو متزايد، جزءاً لا يتجزأ من عمليتي الإنتاج والاستهلاك معاً: برامج تلفزيون الواقع التي تتطلب تصويت المشاهدين، الشكل الجديد لتلقي الأخبار على الإنترنت، الذي يجعل التلفزيونات والصحف التقليديّة تعيش من أجل كبار السن فحسب، الصحافة الجديدة حيث كل قارئ صحافي أو مصور محتمل، سجلات أصوات العالم المتوفرة بسهولة خياليّة عبر تطبيقات «يوتيوب» وغيرها، طريقة الاستماع الانتقائي للموسيقى وتبادلها إلكترونياً، المعارف الإلكترونيّة التي تدفع بأدوات المعرفة التقليديّة من كتب ومجلات ومؤتمرات ومحاضرات إلى الانقراض، تطبيقات مشاهدة المواد الدراميّة والوثائقيّة من أفلام ومسلسلات على الإنترنت التي منحت سلطة إدارة العرض بالكامل للمستهلك. هذه كلها مجرد أمثلة على هذا الانقلاب الجذري على صعيد العلاقة بين طرفي عمليّة الإنتاج الثقافي، التي تقابلها تغييرات مماثلة أيضاً في مضمون تلك الأعمال تأخذ بها بشكل متزايد إلى الضحالة والتسرع وقصر العمر الافتراضي: منتجات ثقافة اليوم لا تاريخ لها ولا مستقبل، فهي عابرة ومؤقتة وتتلاشى في الفضاء السيبري فور انتقال مستهلكها - المنتِج إلى شيء آخر.
مع ذلك فإن الجيل الجديد يتطلع نحو مزاج عصره المستجّدِ هذا - يسميه آلان كيربي «الديجيمودرانزم» أو الحداثة الرقميّة - بإعجاب، دون أي تعاطف مع منتجات ما بعد الحداثة التي يتناقص جمهورها بغياب الجيل الأكبر سناً. فالجيل الجديد الذي ولد بعد بناية جونسون المشهورة يرى هذي المرحلة الحاليّة كما لو كانت عصر نهضة ذهبي فائر يمجد العقل والإبداع والتميّز والاحترافيّة والتمرد على القيم الموروثة، والارتقاء بالفردانيّة - حيث أحدث منتجات التكنولوجيا قد تستخدم من قبل شخص بسيط لإنتاج نص على مستوى ثرثرة يومية فتعطي أبعاداً غير مسبوقة لمفهوم التجربة الديمقراطيّة.
هذا كلّه يدفع للاعتقاد بأن ما بدأ يتشكل في عقد التسعينات من منظومة متكاملة لعلاقة البشر بأنفسهم وبالآخرين، وبالعالم، يبدو قادراً على الصمود لبعض الوقت وقطعيّاً في علاقته بالمرحلة السابقة، الأمر الذي يبرر ادعاء البعض بأن تلك المنظومة أشبه بمرحلة حداثة جديدة - تشبه مرحلة الحداثة التقليديّة لا سيما في بدايات القرن العشرين - بجذريتها وصمودها لفترة طويلة نسبياً، لتتحوّل «ما بعد الحداثة» بالنتيجة إلى مجرد فترة انتقاليّة عابرة بين هاتين الحداثتين، ونوعاً من زمان توحش مؤقت لمجتمعات مات قديمها ولم يكن جديدها قد ولد بعد - وفق وصف غرامشي -، وفضاء فارغ ثيمته النفي والرفض لا المعنى.
الخشية أن الحداثات - وكما تقول الخبرة التاريخيّة - بسبب من جذريتها تلتهم في طريقها عادة ملايين البشر، وتنتج مآسيَ وهولوكوستات، وتتسبب في إحساس الأفراد العميق بالاغتراب والوحدة والتضاؤل. حداثتنا الجديدة هذي تبدو - وإن اختلفت أدواتها ومناهجها عن الحداثة الأولى - أنها ستتبع ذات المسار المظلم، وإن حادت عنه فلمسارٍ أكثر إظلاماً ليس إلا.



دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
TT

دراما السيرة الذاتية للمشاهير حق عام أم خاص؟

أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)
أحمد زكي مجسداً شخصية عبد الحليم حافظ (يوتيوب)

تُعد دراما السيرة الذاتية للمشاهير والشخصيات العامة من أهم أنواع الدراما التي يُقبل عليها المشاهد عالمياً، لكن الأزمة الأساسية التي تواجه هذا النوع الدرامي تتعلق بالصراع مع الورثة حول أحقية تقديم العمل من عدمه، وفق متابعين ونقاد.

وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا وسائل إعلام بتصريحات على لسان الممثل كريم نجل النجم الراحل محمود عبد العزيز أنه «يرفض تحويل حياة والده إلى عمل درامي».

في حين أن محمود عبد العزيز قدم أحد أشهر مسلسلات السيرة الذاتية وهو «رأفت الهجان» عن قصة عميل المخابرات المصرية الذي عاش في إسرائيل رفعت الجمال، وحقّق العمل الذي بُث الجزء الأول منه لأول مرة عام 1988 نجاحاً ساحقاً في أجزائه الثلاثة.

مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

وعلى الرغم من أن الفنان الراحل أحمد زكي قدم 3 أفلام سيرة ذاتية عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر «ناصر 56» عام 1996، والرئيس الراحل أنور السادات «أيام السادات» عام 2001، والمطرب الراحل عبد الحليم حافظ «حليم» عام 2006، بيد أن شقيقته إيمان زكي رفضت رفضاً قاطعاً تقديم قصة حياته في مسلسل.

حق عام بضوابط

قال حسن حافظ الباحث في تاريخ مصر لـ«الشرق الأوسط»: إن «سيرة أي شخصية مشهورة هي ملكية عامة، ومن حق أي مبدع تقديمها في عمل فني». وتابع: «بيد أن هناك بعض المعايير، أهمها الاحتفاظ بالسياق التاريخي للأحداث دون تزييف، مع حق المبدع أن يتعمّق في دوافع الشخصية لفهم القرارات التي اتخذتها، وهنا يكون الورثة أحد مكونات عملية البحث، مع التدقيق في ما يقولونه».

أمر آخر لا بد من أخذه في عين الاعتبار حسب حافظ، وهو أن العمل الدرامي لا يحكي قصة الشخصية العامة كما جرت بالضبط، بل هو مبني في جزء منه على الخيال، بعكس العمل الوثائقي.

ويتفق معه الناقد الفني أمجد مصطفى، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا يحق للورثة حتى طلب أموال مقابل السماح بتناول القصة، ولكن من حقهم الاطمئنان لخروج العمل الدرامي دون تشويه للشخصية، فهناك بعض كتاب الأعمال الدرامية الذين يتعمدون إضافة أشياء قد تكون غير حقيقية وربما جارحة من أجل التشويق والإثارة».

ولفت إلى أن ذلك لا يعني أن العمل الدرامي يجب أن يُركّز فقط على الجوانب الإيجابية في حياة الشخصية، فهناك أمور قد لا تفيد في رصد حياة الشخصية، وفق مصطفى.

تخليد للشخصية وشركائها

من أهم السير التي قّدّمت وخلقت حالة في مصر، مسلسل «أم كلثوم» (إنتاج 1999)، وحقق نجاحاً كبيراً، وفق نقاد، ومع ذلك يقول حسن حافظ إن «هذا المسلسل قدم سيرة بيضاء لأم كلثوم، ولم ينخرط مثلاً في صراعاتها مع نجوم عصرها».

في حين يرى أمجد مصطفى أن «مسلسل (أم كلثوم) إلى جانب أنه يخلّد سيرتها، فإنه كذلك يرصد حياة جميع من شاركوا في قصة نجاحها من ملحنين وشعراء، ولكن هذا المسلسل مثلاً تجاهل دور الموسيقار محمد الموجي في حياة أم كلثوم، ومن هنا يجب على كاتب دراما السيرة الذاتية أن يكون أميناً في الرصد».

سيرة أم كلثوم في مسلسل من بطولة صابرين (يوتيوب)

الجدية شرط النجاح

على المستوى العالمي هناك انفتاح لتقديم دراما السيرة الذاتية سواء في أميركا أو أوروبا، مثل مسلسل «كليوباترا» الذي عرضته منصة «نتفليكس» الأميركية في مايو (أيار) 2023 وأثار الجدل لأنه قدم الملكة المصرية الفرعونية ذات بشرة سمراء، وهو ما عدّته السلطات المصرية «تزييفاً للتاريخ»؛ لأن المصادر تؤكد أن كليوباترا كانت بشرتها فاتحة اللون.

في حين أن مسلسل «التاج» (The Crown)، الذي يتناول سيرة الملكة إليزابيث الثانية، حقق نجاحاً كبيراً.

ويُرجع حافظ سبب نجاحه إلى «ما لمسه المشاهد من جدية القائمين عليه لتقديمه في أحسن صورة وأدق تفاصيل».

وشدّد على أن «غياب الجدّية والدقة تسبب في فشل مسلسلات عن سير المشاهير في مصر خلال السنوات الأخيرة، مثل مسلسلات (العندليب) عن سيرة عبد الحليم حافظ، و(السندريلا) عن سيرة سعاد حسني، و(الضاحك الباكي) عن سيرة نجيب الريحاني».

ويرى أمجد مصطفى كذلك أن «فيلم حليم لأنه كان في آخر أيام أحمد زكي وقت مرضه أُنجز بسرعة ولم يكن متّقناً بالقدر اللازم لنجاحه».

تصبح المهمة أسهل حينما تكون للشخصية المشهورة مذكرات كتبتها قبل وفاتها، وهذا ما حدث في فيلم «أيام السادات» الذي كتب السيناريو له من واقع مذكراته الكاتب الراحل أحمد بهجت، الذي يقول نجله الشاعر محمد بهجت لـ«الشرق الأوسط»: «لم يواجه والدي مشكلات مع الورثة عند كتابة الفيلم لأنه اعتمد على كتاب البحث عن الذات للرئيس السادات، وكذلك بعض كتب الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، وأيضاً مذكرات جيهان السادات التي كانت على قيد الحياة وقتها وأثنت على سيناريو الفيلم قبل تصويره حينما عرضه عليها والدي والفنان أحمد زكي».

أحمد زكي في فيلم «أيام السادات» (فيسبوك)

موقف القانون

وعن موقف القانون من دراما السيرة الذاتية يقول المحامي بالنقض محمد إصلاح في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «وفق المبادئ القانونية المستقرة في القانون المدني المصري فإن مجرد التجسيد لا يرتب حقاً قانونياً للورثة في الاعتراض، ولكن لهم رفع دعوى تعويض إذا أثبتوا أن النشر والتجسيد قد أضرّ بسمعة المتوفى، ولا يستطيعون رفع دعوى منع ما لم يتمكنوا من إثبات تحقّق هذا الضرر للمحكمة من واقع العمل الفني».